وا اِبناه… لتكن أنت الفداء!

جلس على مقعده وراء المكتب وراح يفكّر بالشخصيات التي سيدعوها إلى حفل التخرّج للمدرسة؛ ينبغي أن يكون حفلا رائعًا يترك في نفوس الحاضرين أثرا لا يُنسى.. شرع بكتابة أسماء المدعوين على بطاقات الدعوة: “السيد رئيس الوزراء الموقر”، ثم كتب أسماء أصحاب المناصب الأخرى واحدًا بعد الآخر. ليس بالأمد البعيد، بل منذ بضعة أشهر فقط فاز تلاميذه بميدالية ذهبية في مسابقة الفيزياء الدولية. منح نفسه فترة استراحة قصيرة ليشرب كوبا من الشاي، وما لبث أن اجتذبته أطياف من الذكريات.
كان قد تخرّج من الجامعة بتقدير ممتازٍ. كم كانت أمُّه سعيدة بنجاحه، أمه التي انتظرت ذلك اليوم بفارغ الصبر منذ سنوات ليقف إلى جانبها ويخفف عنها آلام الوحدة. فمنذ أن ارتحل والدُه إلى الرفيق الأعلى وهي تعاني من قسوة الوحدة في منـزل ولدها الأكبر بسبب المعاملة السيئة التي تَلْقاها من زوجته. لكنها دفنت آلامها في قلبها واعتصمت بالصبر الجميل منتظرة اليوم الذي تزول فيه كل هذه المآسي. “ولدي مثال للوفاء، وسوف أزوّجه بفتاة جميلة ومؤدَّبة، بعدها نعيش معا حياة سعيدة هنيئة”. كل شيء سيتغير بعودة ولدها. لن تتساقط براعم الأمل مبكرا بعد اليوم، ولن تنحدر دموع الحزن من عينيها، ولن تناديها نجوم الغربة في السماء كل ليلة، ولن تسمع النغمات الحزينة في المذياع. ستهبّ نسمات السعادة والأمل على ربوع قلبها بعد قدوم ولدها العزيز.
…….
سمع دقات خفيفة على الباب. ها هو الشاي قد حضر. ارتشف رشفة، ثم عاد إلى ذكرياته الحبيبة، ارتسمت صورة أمه أمام عينَيه. كم كانت سعيدة عندما قدّم لها شهادة الجامعة، ترقرقت عيناها بدموع الفرَح، وضمّته إلى صدرها بحنان “أخيرا عدت إلى أمك يا ولدي”.
لكن كيف يقول لها إنه عُيّن مدرسا في إحدى دول آسيا الوسطى التركيّة. ألن يحطم ذلك كل أحلامها؟ عليه أن يخبرها، ولكن كيف؟ وهل يحتمل قلبُها الرقيق المجروح؟ إلا أنه لا بد من ذلك. لا بد أن يُقنع والدته بأنّ آلاف الأعين تنتظره في تلك الأراضي البعيدة. عليه أن يسرع لسَقي تلك البقاع الظامئة مع من ذهبوا قبله من الشباب التربويين الأطهار… عليه أن يذهب حاملا معه رسالة الرحمة والحب ليغرسها في القلوب الضائعة الحائرة… عليه أن يذهب حاملا معه القلَم والكتاب والإيمان والفضيلة. لا بد من تلبية نداء “الأستاذ المربّي” الذي تشبَّع بأفكاره النبيلة. كم سكب “الأستاذ المربّي” من الدموع من أجل أن يبعث الروح من جديد في تلك الأراضي الميتة، وكم أُغمي عليه وهو يدعو إلى الهجرة لنشر نور الحياة في تلك الديار المظلمة. لا بدّ من الهجرة… ألم يهاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرجاء العالم لنَفْس الغاية النبيلة؟!
استغرق في تفكيره ثلاثة أيام. كيف يقول ذلك لأمه يا تُرى؟ حاول مرّات ومرات، ولكن بدون جدوى. الأيام مرّت بسرعة وموعد السفر أصبح وشيكا. غدًا يسافر إلى إسطنبول ومنها إلى آسيا الوسطى. جلس إلى جانبها برفق، ونظر إليها بحنان مشوب بشيء من القلَق. أحسّت بأنّ شيئا خطيرا سيقوله، أطرق إلى الأرض وقد اغرَورقت عيناه بالدموع وعلقت كلماته في حلقه، ثم ارتمى في حجرها مجهشا بالبكاء “أمي الحبيبة، يا أعزَّ إنسان في الوجود…أُمّاه…” رفع رأسه ونظر إليها مليا ثم تمتم بعبارات متقطّعة “عليّ أن أذهب يا أماه… عليّ أن أذهب إلى آسيا الوسطى…”
لم يستطع أن يقول سوى هذه الكلمات… خيّم على الغرفة صمت كئيب، بدَت الأم مذهولة غير مصدقة… لكن بعد لحظات صحَت من ذهولها، وربّتت على كتفه بحنان وسط دموع ساخنة تنحدر على خدَّيها. كانت “صَبريّة هَانم” من الذين يعرفون معنى الرسالة التي يؤديها ولدها ورفاقه. فقالت وهي تمسح دموعها “صَحِبتْك السلامة يا ولدي، وسأصبر على فراقك وعلى إساءة زوجة أخيك، فاطمئنّ بالاً”.
في المساء الذي ودعت فلذة كبدها إلى إسطنبول سكبت دموعا غزيرة. كانت قد جهزت حقيبته بنفسها، وأعدت له شيئا من الطعام ليأكله أثناء الطريق. لقد تركها وديعة عند الله وليس عند زوجة أخيه. ظلّت تُلوّح له يدها حتى غاب في الأفق البعيد.
وفي صباح اليوم التالي وقبل أن يركب الطائرة اتصل بها لآخر مرة. كانت تبكي… لكن من الفرح هذه المرة “اذهب يا بني رافقتك السلامة، لقد حدَث شيء لا يصدق! هذا الصباح جاءتني زوجةُ أخيك وارتمت بين يدي باكية تعتذر إليّ وتطلب مني السماح: أرجوكِ سامحيني يا أمي سامحيني… قالت أتاها الليلة الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم في المنام وحذّرها بشأني وطلب منها ألا تُحزنني… فلا تقلق بشأني يا بنيّ، اذهب صحبَتك السلامة…”
…….
وبعد بضع سنوات عاد لزيارة أمه فزوَّجته من فتاة تناسبه وتُسعده. قالت “حسبي أن رأيتُك سعيدًا يا ولدي.. ولكن إذا رزقكما اللهُ ولدًا فلا تَحرماني من رؤيته، لأن قلبي لن يصبر على فراقكما وفراق حفيدي بعد الآن”. وفي العام التالي جاؤوا لزيارتها وقد بلغ الطفل شهرين من العمر.
مضت الأيام بسرعة… بأفراحها ومآسيها… قضى أعواما طويلة في البلاد التي اعتبرها وطنه الثاني… تعلَّم في هذه الأراضي النائية معنى الحياة، ومعنى خدمة الإنسانية، ومعنى غاية الوجود، ومعنى العمل لكسب مرضاة الخالق سبحانه؛ أحبّ الناس في الله وخفق قلبه لله.. وبعد أن أصبح مديرًا عمل بجدّ، وسهِر على تعليم تلاميذه وتربيتهم. لقد كانوا كل شيء بالنسبة له في الحياة، فنال ثقة أهل البلد، وحصلت مدرسته على جوائز عديدة… تنفّس الصعداء… “الحمد لله، كل ذلك من فضل ربّي”.
كان التلاميذ يلعبون بمرَح في ساحة المدرسة وأصواتهم الجميلة تملأ الفضاء. ولكن… ما لتلك الأصوات المرحة تحولت فجأة إلى صرخات مدوية!..
سمع طرَقات قلقةً على الباب مع صوت مذعور لتلميذ خائف “أستاذ!.. النجدة!..” انتفض من مكانه، “أستاذ!.. أستاذ!.. أحد التلاميذ… سقط من الطابق الثاني!…”
أظلم العالم في عينيه، شعر كأن الدنيا تدور، انحلت مفاصله وكاد يقع على الأرض، لكنه استجمع قواه وخرج من الغرفة مسرعا يرتطم بجدران المدرسة. أخذت هواجس الرحمة والقلق تصطرع في داخله. “يا إلهي!.. كيف حدث ذلك؟ ماذا لو مات الولد!؟ يا رب، لقد وثق الناس بنا ومنحونا حبهم وائتمنونا على أبنائهم فلم نخيّب ظنهم. ماذا لو أصاب المسكين مكروه؟ ماذا أفعل لو أوقفوا عمل المدرسة بحجة الإهمال… يا رب احفظنا…”
أسرع ناحية المكان الذي تجمّع فيه التلاميذ. وما إن رأوه حتى أفسحوا له الطريق، وإذا ببَدَن صغير وقد ارتمى على الأرض دون حَراك وسط دماء تسيل من رأسه. مدّ يديه المرتعشتين ببطء، واحتضن الطفل بحنان، ورفع رأسه بعناية… فعرفه… “الحمد لله!..”
انحدرت الدموع على خدَّيه بلا إرادة منه.. شعر كأن شيئا ما يعتصر قلبه… ضمّه إلى صدره بحرقة وتَمتم بألم “ولدي!..” نعم… إنه ابنه وفلذة كبِده… جس نبضات قلبه الصغير ولكن…
في تلك اللحظة كانت صبرية هانم مشغولة بخياطة ثوب لحفيدها المحبوب… لم تكن تعرف بأفول نجمه المتلألئ في سماء الغربة… كانت شاردة الذهن… وفجأة وخزت الإبرة إصبعها فصرخت بأنين صامت “آه…”.
____________________
(*) قصة حقيقية وقعت في إحدى دول آسيا الوسطى. وهي مترجمة عن مجلة “سيزينتي” التركية بتصرف.