يطفح واقعنا بظلمات الأمية الفكرية السوداء ويعجّ بفواجع الغَيّ السياسي القاتمة، وهو أحوج ما يكون إلى استدعاء قناديل الرشد التي بدّدت حوالك القرون وأضاءت مجاهل الحياة، جاعلة عصر الصحابة الكرام أكثر عصور البشرية ضياء وبهاء بفضل الطاقة التي بعثتها التربية النبوية المُنيرة، مضيئة ذلك العدد الهائل من النوابغ والأفذاذ، والذين استقاموا سامقين كنخيل صحرائهم، واستحالوا إلى روافع عروج ودوافع بناء، وصاروا مصابيح هداية وقناديل استنارة.

بوصلة القرآن

كان الوحي شمسًا اقتبس منه الصحابة تلك الأشعة الباهرة حتى أصبحوا نجومًا في سماء الدنيا وكواكب في آفاق الناس. لقد ظل الصحابة الكرام رضي الله عنهم يغرفون من بحر الكتاب الخالد زيت التقوى الذي أنار نفوسهم وأسرج دروبهم، يسيرون في الدنيا وعيونهم على الآخرة، يمشون على الأرض وقلوبهم في السماء، وبفضل هذه المعادلة ما برحوا عازفين لألحان الخلود، عازفين عن الركون إلى الفانية.

وعندما أخذوا الكتاب بقوة، حَكَموا نفوسهم الأمّارة وألجموا شهواتهم الثائرة، وحينما شربوا من “كؤوس القرآن” استطاعوا أن يُجرعوا العِدى “كؤوس المنون”.

وبفضل “بوصلة” القرآن، امتلكوا “بواصر” الأفهام التي ترفض التخاريف والأوهام، وصارت عقولهم “تصطرع” حول مختلف المسائل، لكن قلوبهم لا “تضطغن”، فقد ألَّف الله بينها بروابط دينه العظيم، وعصمها بحبل كتابه الكريم، وظلّلها به من هجير الضلال المبين، حيث احتوى على الثوابت التي استظل الجميع تحت سقفها العالي، حاميًا إياهم من نيازك الإغواء وحِمم براكين الضياع.

وما فتئوا يلتزمون أسباب الهدى ويسيرون في صراط الحق، ويحاربون عوامل الردى ويتجنبون سبل الغواية، حيث يجذلون بالطاعة ويَوْجلون من المعصية، يتقربون من الخالق زلفى آناء الليل، ويقتربون من الخلْق تقوى في ساعات النهار، وفي أوقاتهم كلها لا يكُفّون عن استحضار روح التعبد لله في محراب الحياة، محتسبين الأجر ومشفقين من الوزر.

ولهذا فقد اعتلَوْا -بجدارة- مقامات الإحسان، حيث أتقنوا مفردات الإتقان، وأحسنوا اجتراح وسائل الإحسان، وأحكموا صناعة الإحكام، وأجادوا الوصول إلى منتهى الإجادة، وجوّدوا متطلبات الجودة، وظلوا دومًا من العاملين لا من الخاملين.

ولقد ظلت وجوههم بأنوار الإيمان تتوهّج، وألسنتُهم بذكر الله تَلهج، وقلوبُهم بحب إخوانهم تتأجج، يركبون المصاعب ويقتحمون الأهوال، يشتدون عند الشدائد ويَلْتَمّون عند الملمات، يُسبّحون لله بالعشي والإشراق تسبيحًا مهيلاً، ويَسْبحون في محيطات النهار سبحًا طويلاً، يَعْمُرون الأرض ويَحْفظون العرض، يقيمون البنيان ويخدمون الإنسان، داخلين إلى محراب العبودية الكوني من سائر أبواب الإيمان.

الفكر الفعّال

ظل الصحابة العظام يحفرون أنفاق التعمق الفكري والتفوّق الفعلي، بأظافر الإرادة الحديدية وبمعاول الهِمّة العالية، ويطيرون في آفاق الفاعلية بأجنحة العلم وأشواق الفكر ويعتلون بأتواق العرفان، مما أثمر رعاية الله لهم وعنايته بهم.

ولقد عُرفوا دومًا بإتقان فقه الإعذار، والبحث للآخرين عن أعذار، مدركين أن فوق أخطاء الغافلين رحمة خير الغافرين، ولذلك كانوا عن المخطئين صفّاحين، وللأخطاء صفّاعين.

ومهما غضبوا فإن رياح غضبهم لا تُطفئ سُرُجَ عقولهم، ومهما تصاعدت أدخنة الأحقاد التي يوقدها أعداؤهم، فإنها لا تعميهم عن رؤية الحقائق وإدراك الدقائق، ولا تذرُّ الرماد في عيونهم حائلة بينهم وبين الرحمة والصفح، ولا يمكن أن تتسلل إلى دواخلهم وتُسوِّد قلوبهم، فهي دائمًا بيضاء ببياض الحقيقة الناصعة في سواد الأوهام، متوهجة كتوهج الشمس في كبد السماء.

انشغلوا بأخطائهم عن خطايا الآخرين، وبقصور ذواتهم عن تقصير الناس، وما فتئت دموعُهم تَنسكب على ما فرطوا في جَنب الله، حيث يمسحون أدرانهم بدموع الوَجَل النادم، ويمحون ذنوبهم باستغفار الإنابة الخالصة، ويغسلون أخطاءهم بماء التوبة النَّصوح، ويُصحِّحون سَيْرهم ببوصلة المجاهدة الصارمة.

ويبدو أن الصحابة عندما وصلوا إلى جبل الفكر الراشد، وضربوه بعصي الأسباب، متوكلين على الله، فقد انفرجت أزماتهم، إذ انفجرت من هذا الجبل اثنتا عشرة عينًا، سالت بأوديتها المقدّرة لها، وهي: الإيمان الخلّاق، والعمل الباني، والجهاد الرادع، والحرية الخالصة، والمساواة العادلة، والوحدة الجامعة، والأخوة المتضامنة، والسلامة الآمنة، والسعادة الغامرة، والقوة المانعة، والرفاهية الماتعة، والشورى الصادقة.

وعند هذه العيون، عَلِمَ كُلُّ أناس مشربهم، إذ أخبرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن كل إنسان “ميسر لما خُلق له”.

ومن مياهها الغزيرة وخيراتها الوفيرة، استقت الأفئدة العطشى، وارتوت المجتمعات الظمأى، لتُنبت أمَّتُنا من كل نفع بهيج.

لقد كانت هذه القيم درجات في سُلّم الوصول إلى الرشد المنشود، وصارت “مقومات” انتصب عليها الرشد واعتلى فوقها الخير، وذلك في مرحلة معانقة الأسباب ووضع البذور في تُربة الحياة أي في “المرحلة الكَسبية”، فأثمرت كل حبة منها سبعمائة ضعف في “المرحلة الوَهبية”.

نجوم “سماوية” وكواكب “أرضية”

كانت أقدام الصحابة رضي الله عنهم في “الثرى” منغرسة، ورؤوسهم في “الثريا” مرتفعة، فجمعوا بذلك بين معاقرة الواقعية ومعانقة المثالية.

اتخذوا من آيات الله “بصائر”، ومن آيات الكون “قناديل”، ومن آيات الأنفس “مصابيح”، فاستضاءت قلوبهم واستنارت عقولهم، ومن ثمَّ أشعّت نفوسُهم بالضياء، وتوهجت أرواحهم بالإشراق، وسطعت أفئدتهم بالأنوار.

لقد حدث ذلك لأن عقولهم ارتشفت ضياء الكتاب الرباني، واحتست قلوبهم سناء السنة النبوية، وتشرّبت أفئدتهم أنوار الحكمة المحمدية، فاضطرمت أشواقهم، وانتفضت مشاعرهم، وسَمَتْ غرائزهم، وأشرقت نفوسهم، وبرقت أفكارهم، وتوقدت عزائمهم، واشتعلت جوارحهم، لينطلقوا في آفاق الأرض، يستخرجون من بطنها الدُّرر، جاعلين ظهرها دراري، وفي قلب الوجود صاروا منارات، مُحيلين مجاهل التأريخ المظلمة إلى كواكب دُرية منيرة.

وبواسطة الفكر النيّر أزالوا نَيْر الاستبداد والاستعباد، وبمشاعل الحكمة الثاقبة هتكوا أستار النفاق وهدموا حُجُب الغفلة ومزقوا أغلفة الران، فأشعّت النفوس وشفت الأرواح، وأشرقت القلوب بنور ربها، منتصرة على أغلفة التراب وحجب الطين، وعلى حوالك الطغاة وظلمات الشياطين.

زرّاع الأعاجيب وصنّاع الدهشة

لقد عصر الصحابة الأعاصير مستخرجين منها ماء ثجّاجًا، وجفّفوا المستنقعات الآسنة محيلين إياها إلى واحات تزدهي بالجمال الآسر وتزدان بالثمار اليانعة. وأثبتت القرون أنهم قهروا القهر، وعصفوا بالعَسْف، وأجبروا الجور على الاختباء تحت أكمام المستبدين والاختفاء في قلوب الظالمين، فتسلّطوا بقوة الحق على الطغاة، وسطوا بالجبابرة، وقصفوا الفراعنة، وأوقعوا بالمتجبرين، وساموا المتكبرين، داسّين أنوفهم في التراب الذي صُنعت منه أول مرة، ومذيقين إياهم بعض حصاد أيمانهم.

جعلوا مزارعهم محاريب، وسبحاتهم محاريث، فتعبّدوا الله بعمارة أرضه، وتقربوا إليه بخدمة خلْقه، ولهذا اختفت في عصرهم السجون وسُخِّرت الحروب لخدمة حقوق الإنسان، وتضاعفت البيادر وكثرت مواسم الحصاد.

لقد امتلأت الخزائن بالأموال، واكتظت المخازن بالغلال، إذ ابتغى عامة المؤمنين من فضل الله، وبحثوا عن نعم الله، واكتشفوا آلاء الله، وتمتعوا بالطيبات التي منحها لهم الله، مُعَيِّشين للضعفاء في أحضانهم، كافلين للفقراء في أكنافهم.

دهاؤهم يعصف بالدواهي

نجح دهاؤهم في لَجْم الدواهي، ونجح ذكاؤهم في إذكاء الفطنة، وصنعوا من الإخفاقات خبرات، ومن العثرات عبرات، جاعلين من التحديات فرصًا ومن الدركات درجات، ومن العاهات واحات.

لم يندبوا حظهم وإنما انتدبوا أنفسهم لمعالجة الندوب، حيث عثروا على دواء العثرات وتوصلوا إلى أكاسير الحياة، وتراييق التخلف، ونجحوا في إبراء عضلات الأمة من معضلاتها.

لقد واجهوا العَسْف بالعدل، والتحكم بالحكمة، والمكر بالفطنة، وألاعيب السياسة بالكياسة، وقابلوا صَرْصَرَ الاعتداء بدَمْدَمَة الجهاد، ودمّروا عواصف الباطل بقواصف الحق، ومزقوا أغلال التقليد بسيوف التجديد، وطردوا أضناك الشتاء بمباهج الربيع.

وبهذا المنهج المتين ألبسوا الزمن حُللاً سندسية، وطرّزوا الدهر بمنجزات عَسْجَدِية، عبر أناملهم الذهبية التي زينت الوجود بأبهى الروائع، وبَهْرَجَت الحياة بأفخم المباهج.

لقد انتقاهم الحق من جموع الخلق، واختارهم الحكيم من بين الورى، وغَرْبَلَهم من بين أشتات البشر، وامتحنهم من بين معادن الناس، فكانوا أهلاً لاصطفائه، جديرين باجتبائه، إذ سطروا لوحة الكون ببدائعهم، وبيضوا كتاب التاريخ بفضائلهم، وحبَّروا صفحة الوجود بمنجزاتهم، ولَوَّنوا وجه الحياة بآثارهم.

العاقبةُ المُسْتَحَقَّة

وعد الله الصحابة رضي الله عنهم بالتمكين الكامل، وكتب لهم الغلّبة القاهرة، وتكفل لهم بالفتح المبين، ومنحهم الفوز العميم، ووهبهم النصر العظيم، وجعل لهم عقبى الدار.

ذلك أن عبادتهم لله كانت واصِبَة، ورؤاهم صارت لازِبَة، يسابقون في دروب المدافعة، ويسارعون إلى مراكب التمكين، يسلكون كل سبيل إلى النصر، ويأخذون بكل سبب إلى التقدم، ويدخلون إلى الفتح من أبواب متفرقة، حريصين على استثمار سائر الوسائل الموصلة إلى عقبى الدار.

لقد ركبوا سفن السنن في لُجَج الحياة، ومَخَروا عُباب الفتن وأمواج المحن بمجاديف الأسباب، حيث ولجوا إلى التنظير وهرعوا إلى التخطيط، وركضوا في مضمار العمل الجهادي وجروا في ميادين الدأَب البِنَائي.

لم يعرفوا الاتكال ولم يعرفهم التواكل، لم يقفوا عند الأماني ولم يوقفهم التواني. اجتازوا إلى الآمال فوق جسور الأعمال، وأحالوا الأفكار إلى أفعال عبر قناطر التخطيط، لم تأتهم أحلامُهم ليلاً في عالم الخيال، بل جاؤوها نهارًا في عالم الأعمال، حيث أناروا فجرهم بوميض آمالهم، وتنفس صباحُهم من أنفاس عزائمهم، وشعّ ضُحاهم من أشعة إنجازاتهم.

ارتشاف الرشد

ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم خير أجيال البشر طُرًّا، وخير الصحابة هم الخلفاء الراشدون، ولذا جعلهم هذا الدين محلاً لتأسي الأمة بهم كلما أرادت العودة إلى الرشد حتى قيام الساعة

فقد وضعهم القرآن في جبين الإنسانية الناصع، ورفعهم إلى ناصية الخَلْق الرفيعة، حيث رضي الله عنهم ورضوا عنه، وميَّزهم بمكانة راقية، نتيجة إمكاناتهم الهائلة، جزاء وفاقًا، وأجادت عقولهم التعامل مع الكتاب، وبتدبر القرآن ارتقت قرائحهم إلى سماء الابتدار والابتكار.

ولكي تصل أجيالنا ما انقطع وتُكمل ما ابتدأ، وحتى تكون مِسْكًا لأمتها الزاكية، لا بد أن يتنافس المتنافسون من أبنائها على ارتشاف منهج الرشد من معين الصحابة الكرام، واحتساء سنن التمكين من غدير سلفها الصالح، فإن منهج الصحابة رضي الله عنهم “رحيق” مصفَّى لأبرار عصرنا و”تَسنيمٌ” عذبٌ للمقرَّبين في دهرنا، حتى ينجح سعيُهم لتحقيق الخلاص المنشود وتقريب التمكين الموعود.

لقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالصحابة عامة والراشدين خاصة، والنهل من رحيق منهجهم، والاستضاءة بأنوار هُداهم، بعيدًا عن أشخاصهم، إذ خَبِرَهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن قُرْب، فقد كانوا عجينة ليِّنة بين يديه المباركتين، مُشكّلاً منهم أعدادًا غفيرة من العباقرة والعمالقة. ولأن “الله أعلم حيث يجعل رسالته”، فقد هيأ الظروف والمناخات المناسبة لولادة جيل الكمال وبزوغ عصر الضياء، ليظل مصدرًا للاستنارة والاستضاءة إلى قيام الساعة.

ولأنه “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها” كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي، ولما أثبتته الوقائع في شتى القرون، فإنه من الضروري بمكان أن يتم إعادة قراءة تجربة الخلافة الراشدة، بحثًا عن أجنحة الإقلاع الحضاري، من الناحية المنهجية، وليس من ناحية المفردات والتفاصيل، حتى يتم استقراء الأساسيات والكليات التي توافرت للراشدين الخمسة، بحيث إذا تظافرت يتشكل من مجموعها منهج للتأسي والاقتداء في هذا الزمن، يساعد الأمة على معاودة الإقلاع الحضاري من جديد.

ولكي تصل أجيالنا ما انقطع وتُكمل ما ابتدأ، وحتى تكون مِسْكًا لأمتها الزاكية، لا بد أن يتنافس المتنافسون من أبنائها على ارتشاف منهج الرشد من معين الصحابة الكرام، واحتساء سنن التمكين من غدير سلفها الصالح، فإن منهج الصحابة رضي الله عنهم “رحيق” مصفَّى لأبرار عصرنا و”تَسنيمٌ” عذبٌ للمقرَّبين في دهرنا، حتى ينجح سعيُهم لتحقيق الخلاص المنشود وتقريب التمكين الموعود.

(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي، جامعة تعز / اليمن.