النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم

حين نـزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214)، كان معنى هـذا أن الأمر الإلهى بإعلان الإسـلام قد جاء.. من هذا اليوم بـدأت الحرب ضد الإسلام والمسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم ، وتركز الهجوم على شخص الرسول ودعوته. قال تعالى ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (ص: 4-5). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ (الفرقان: 41-42).
ومضت دعوة النبي وانغرست فى الأرض أشواك المشركين؛ اتهموا النبي بأنـه كاهن، واتهموه بالجنون، واتهموه بالسحر، واتهموه بأنه افترى ما جـاء بـه من الحق، وأعانه عليه قوم أخرون، ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ اْلأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الفرقان: 5). وطلبوا منه معجزات، من لون معين، وهى معجزات طلبها أقوام قبلهم ليؤمنوا ورغم ذلك لم يؤمنوا. وزادت ضراوة المشركين في السخرية والتجريح والاستهانة، وكان الرسول يحزن لعناد الناس، وواساه الله تعالى فقال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام: 33).

كتاب «النور الخالد»

أحيانا تكون اللغة عائقا في انتشار الثقافة وعموم الفائدة‏، من هنا تجيء أهمية الترجمة‏..‏ وقد ظهر في تركيا كتاب عن الرسول صلاة الله وسلامه عليه‏، وظلّت جواهر هذا الكتاب في متناول الأتراك وحدهم حتي ترجم الكتاب إلى اللغة العربية‏، وباتت كنوزه في متناول العرب‏.‏
قام بترجمة الكتاب الأديب التركي أورخان محمد علي‏، أما مؤلف الكتاب فهو العالم الجليل محمد فتح الله كولن‏..‏ اسم الكتاب «النور الخالد محمد، مفخرة الإنسانية»‏..‏
وأول ملاحظة عن كتاب «النور الخالد» أنه لا يتناول السيرة كسرد أحداث وذكر تواريخ‏..‏ بل يتناولها من ناحية فقهها وحكمتها ومعانيها وأسرارها، وهذا أصعب ولكنه جهد مطلوب‏.‏
تسليط الأضواء على شخصيته صلى الله عليه وسلم
إن تسليط الأضواء على شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ‏، وشرحها وبيانها‏، ثم تقديمها كمنقذ للبشرية‏، وكدواء للمشاكل المستعصية على الحل وللأمراض غير القابلة للشفاء‏، وإظهار هذه الشخصية السامقة وسيرتها بما هي أهل له‏… هذا كله كان هاجسا من هواجس فكر الشيخ فتح الله كولن‏، وموضوعا مهما من المواضيع التي لا سبيل لمقاومة جاذبيتها وسحرها‏.
وهو يبدأ كتابه بمقدمة يميل فيها لجانب التفاؤل فيقول: «يكفي للاستدلال على عظمته صلى الله عليه وسلم أنه بالرغم من كل عوامل الهدم التي أصابت عصرنا‏، إلا أننا ما زلنا نسمع من فوق المآذن أصداء نداء «أشهد أنّ محمداً رسول الله‏».‏ تأملوا هذه الكرامة‏، إن جميع العقبات والسدود والموانع التي وضعها خصومنا لكي يمنعوا حبه صلى الله عليه وسلم من القلوب أو يزيلوا ذكره من العقول‏، قد انهارت جميعها وتهدمت وأزيلت وتجاوزتها الإنسانية‏، وبدأ الشباب يهرع إليه بكل فرح وحبور‏.‏ لا أدري إذا كنتم قد انتبهتم إلى الذين يملأون المساجد على سعتها في صلاة الجمعة‏، لو دققتم النظر لاكتشفتم أن معظمهم من الشباب‏. ما الذي يدفع هؤلاء الشباب في برد الشتاء القارس وفي المطر والثلج إلى المساجد وإلى الوضوء وأسنانُهم تصطكّ من البرد‏؟ من يدفع هؤلاء -برغم محاولة أرباب الضلالة والطغيان- جذبهم نحوهم بقوة لا تقاوم؟‏‏ إنها قوة الجاذبية القدسية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ‏.»
‏واضح من كتاب «النور الخالد» أن صاحبه كتبه بحبّ عميق للرسول‏ صلى الله عليه وسلم ، يقول الشيخ محمد فتح الله كولن: «عندما منّ الله عليّ بزيارة الأراضي المقدسة لكي أعفر وجهي بترابها بدَت لي مدينة الرسول مضيئة ونورانية إلى درجة أنني ذقت معها سعادة روحية غامرة وفرحا لا يوصف‏، وشعرت أنه -على فرض المستحيل- لو فتحت لي أبواب الجنة كلها ودعيت أن أدخل على أن أترك المدينة لَرفضت مفضّلا البقاء في المدينة المنورة‏».

رحمة للعالمين

يبدأ الشيخ محمد فتح الله كولن حديثه عن النبي المرسل رحمة للعالمين‏ برسم لوحة لشكل الدنيا يومئذ‏. الدنيا يسودها ظلام دامس‏، ظلام يحمل في طياته نورا مرتقبا‏، وأصداء تحمل بشري ظهور نبي جديد‏.‏
لم يكن إنسان ذلك العصر يحمل قيمة تعطي للحياة معنى‏، وتجعل لها هدفا يستحق العيش من أجله‏.‏ كان اسم هذا العصر «عصر الجاهلية»‏، والجاهلية هنا لا تأتي كنقيض للعلم‏، بل كمرادف للكفر الذي هو نقيض الايمان والاعتقاد‏.‏ كان مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة كُبري للبشرية‏، ورحمة سابغة للعالمين‏، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالي‏: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (آل عمران: 164). كان العهد الذي سبق بعثة الرسول عهدا مظلما‏؛ وكل عهد تهتز فيه عقيدة التوحيد يعدّ عهدا مظلما، لأن الإيمان بالله إذا لم يحكم جميع القلوب سيطر الظلام على الأرواح واسودّت القلوب وعميت، فلم تعد قادرة على الرؤية‏.‏

العبودية لله

يتحدث الأستاذ محمد فتح الله كولن عن الغاية من إرسال الأنبياء‏..‏ ورغم وجود فروق في المراتب والدرجات بينهم فإنهم يشتركون في شيء واحد؛ إنهم أناس مختارون مصطفون تجلّت عليهم رحمة الله تعالى، فربّاهم وأدّبهم وفضّلهم على العالمين‏، وجعل قلوبهم مقتصرة عليه لا تحوم حول أحد غيره‏.‏ وتلتقي الغاية التي من أجلها أرسل الأنبياء والرسل مع غاية خلق الإنسان وهي العبودية لله تعالى، ويشير القرآن الكريم إلى هذه الغاية فيقول‏:‏ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).
وإذن فإن الغاية الأساسية من خلقنا والهدف الرئيسي له هو معرفة الله‏، وإيفاء حقه من العبودية‏، وليس اقتناء القصور والأموال أو الأكل والشرب والتمتع بلذائذ الدنيا‏..‏ وصحيح أن هذه الأمور حاجات فطرية إلا أنها لا تشكل غاية لخلقنا‏.‏ وما جاء الأنبياء والرسل إلا لكي يدلّونا على هذه الغاية ويرشدوا إلى هذا الطريق. يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25).
الغاية الأخرى من إرسال الأنبياء والمرسلين هو القيام بالتبليغ الديني‏، فلو لم يأتوا لَما عرفنا المسائل المتعلقة بالعبادة‏، ولَما عرفنا واجباتنا وما فُرض علينا‏. ‏قال تعالى:‏ ‏﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (المائدة: 67)، والتبليغ يعني إرشـاد الناس إلى الصراط المستقيم‏، والتبليغ هو سر إرسال الأنبياء‏.‏
ومن الأسباب التي يمكن ذكرها لإرسال الله تعالى لأنبيائه ورسله أن يكونوا أسـوة حسنة وقدوة متبعة لأممهم‏. إن القرآن الكريم يخاطبنا قائلا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21). أيضا يأتي الأنبياء والرسل لتأمين التوازن بين الدنيا والآخرة‏.‏ قال تعالى:‏ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77).

الأمين

لا يقوم النبي بدعوته نتيجة تفكيره الذاتي‏، أو قناعته بفلسفة خاصة‏، أو نظام معيّن رآه صالحا‏.‏ ليست النبوة كسبا بشريا، إنما هي اصطفاء واختيار من الله تعالي‏، وهي وحي يوحيه الله لمن يختاره من عباده المكرمين‏.‏ وإذا كان التجرد هو صفة الأنبياء الأولى فإن الأمانة هي صفتهم الثانية‏،‏ وهي صفة يشير إليها القرآن في أكثر من آية.‏
إن صفة الأمانة تتكرر مع كل الرسل كما تتكرر مع الملائكة الكرام؛ حيث أثنى الله تبارك وتعالى على جبريل عليه السلام وقال في وصفه: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾(التكوير: 20-21). أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان أمينا قبل بعثه بالنبوة‏، وكان أمينا على الوحي الإلهي بعد بعثته‏، وكان أمينا حيال الوجود كله‏، فلم تكن روح الأمانة ومفهومها عنده مقتصرا على البشر‏، بل نحو الوجود كله بما فيه من كائنات.
والشيخ فتح الله كولن طوال الوقت الذي يكتب فيه كتابه يضع في ذهنه مجموعة من الشباب الذين يستهدفهم بكتابته‏،‏ وهو أحيانا يتوقف عن السياق الأصلي ليحدث هؤلاء الشباب ويلفت انتباههم إلى معني دقيق يريد توصيله إليهم وبهذا يكون الكتاب تاريخا ودعوة إلى الله في الوقت نفسه‏.‏