هل نعرف الله؟

عندما يُغرِقني الطين في أوحاله وأنسى لِمَ أنا هنا؟ يأتيني سؤال من الأعماق: “هل تعرفين الله”؟ لا أجيبه هربًا من الحقيقة أو ربما خوفًا منها، لكن هذا الصوت لا يكفّ عن إلحاحه ليسألني مرة أخرى: “هل تحبين الله”؟ سؤاله هذا يجعلني أتوقف بذهول: “وهل في ذلك شك”؟ لكن ما الدليل؟ وكيف أجيب هذا الصوت؟ كيف أقنعه أني فعلاً أحِبُّ الله وهو يراني أخالف أوامره! كيف يكون الجواب “نعم” وأنا قد تُهتُ عن الطريق؟

لعلي لست وحدي من يتلقى هذا السؤال العسير، ولعلي أيضًا لست وحدي من يتردد ويَعجَز أن يجيب عنه بوضوح، ليس جهلاً لكن حيرة بين ما يعتقد أنه من البديهيات، وما يراه من نفسه من المخالفات. هل تُرانا نعرف ما معنى “أن نحِب الله” حقا؟ هل حبُّنا هذا يرقى ليكون واقعًا ويَخرج من خانة الادعاء؟ هل في قلوبنا مكان لهذا الحب؟ أم أننا غلفناها بهوى الدنيا فآثر ذلك الحب أن يرحل عنا ويتركنا تائهين في ضباب الضياع والبؤس؟ ما نحن فاعلوه عندما يتعارض ما نحبه وما يحبه الله؟ هل تُرانا نتلقف الفتنة لا نتريث بها إلا قليلا؟ أم أننا نرقى لنكون ممن يهديهم الحب سواء السبيل فتتوقف حساباتنا الدنيوية، وتُمحى أنانيتنا الطينية ونُؤْثِر حب الله سبحانه على ما تشتهيه الأنفس؟

هل نحب الله فعلا؟ فيشغلنا ذكره عن ذكر غيره نخاف حقًّا غضبه وإعراضه؟ هل أقصى همومنا إرضاؤه؟ أم أن “حب الله” كلمات لا تتجاوز الشفاه.. المحب لا يتحايل هروبًا ممن يحب.. المحب لا تعجزه أوامر من يحب.. المحب يُفنِي أنفاسه قربة لمن يحب.. هل تُرانا مستعدون للتضحية بكل شيء في سبيل هذا الحب؟ هل يستغرق هذا الحب كل أحاسيسنا؟ الحب الحقيقي يشغل القلب والعقل واللسان فترى المحب “لله وبالله ومع الله” كما قال الجنيد رحمه الله. على كل منا أن يخلو بنفسه ويعيد ترتيب أوراقه المبعثرة، فقد ضل أكثرنا الطريق؛ طريق المحبة فأكثرُنا لا يعرف الله سبحانه.

عندما سئلتُ “هل تعرف الله؟” ظننت للوهلة الأولى أن الجواب سيكون “نعم بلا شك، ومَن لا يعرف الله؟” لكن عندما ألقيت نظرة على أعمالي، رأيت أن الجواب ليس بتلك السهولة. هل أعرف عندما يعتريني الضعف أن الله هو القوي فألوذ به؟ هل أعرف عندما تتكالب علي الذنوب وتضيق أمامي الأُفُق أنه هو الحليم الرحيم لأُنِيب سريعًا إليه؟ هل أعرف عندما تأخذني العزة بالإثم وأظلم من هو أضعف مني أنه جبَّار منتقم فأكف عن بطشي؟ ما الفرق بيني وبين الجاهل إن لم تحملني المعرفة على الفعل الصحيح؟ فكما قيل: “ينادي العِلْم العمل فإن أجابه وإلا ارتحل”.

بين حقيقة الواقع المؤلمة، وأحلام الوهم الجميلة التي نُغَيِّب فيها عقولنا، نضيع في هذه الحياة عندما يختل ميزان أولوياتنا وتخطئ حساباتنا عندما ننسى الحكمة من وجودنا، يصير سيرنا في الحياة خبط عشواء.

ما معنى أن نحب الله؟ ما معنى أن نعرف الله؟ هذه الكلمات الثقيلة هي ما ترسم طريقنا في هذه الحياة، أن تحِب وأن تَعرف، كلاهما سبب ونتيجة.. فإن أحببته عرفته، وإن عرفته أحببته.. الإيمان والعلم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).. هما سلاحك لتصل إلى الجواب، هما مفتاح ما أَغلقت بجهلك من أبواب المعرفة. المحب والعارف وجهان لعملة واحدة، كلاهما يبغيان رضى الله، كلاهما يستميتان لنيل محبة الله، كلاهما يؤرقهما أن يعصيا الله، كلاهما لذتهما أن يطيعا الله.

لا أقول إن العاصي لا يحب الله، لكن لا يحق للقلب أن يَدَّعي الحب ثم يُعْرِض عن محبوبه، أن يَدَّعي الحب ويخالف محبوبه، أن يَدَّعي الحب وينسى محبوبه.. الحب تترجمه الجوارح، فيمشي المرء بحب ويتكلم بحب وينظر بحب.. لا يمكن للعقل أن يَدَّعي المعرفة ولا يعرف قدر من يدعي معرفته، لا يقبل أن يدعي المعرفة ولا يترجمها إلى واقع ملموس.. أيها الباحث عن الحب، أيها الباحث عن المعرفة، اجعل شعارك: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، تسرع في خطاك إليه، تَعجل الوصول إليه، ابذل كل شيء بغية الرضا.. فإذا رضي أيها الطيب أرضاك بعطائه، وكما يقال: “الله كريم والكريم إذا أعطى أدهش”.

سأترككم أيها الطيبون لتسألوا أنفسكم كما سأسأل نفسي من جديد: “هل تحب الله سبحانه؟” “هل تعرف الله سبحانه؟” ولنمض نبحث عن جواب نصارع به الحياة. كيف لا وقد خُلِقنا وخُيِّرنا.. خيار أن يحب الله ويعرف الله، خيار ينير القلب إلى أن يلقى الله، فما أعظم نعم الله علينا ولكن قليل منا الشكور.