البحث عن الحقيقة.. بين منهج الفلسفة ومسلك العرفان

تعتبر قصة “حي بن يقظان” من القصص الفلسفية الوجدانية الرمزية، أو لنقل إنها قصة الفلسفة والتصوف معًا. فابن طفيل نفسه يعرّف قصته هذه، بأنها حديث عن “الحكمة المشرقية” بلغة الرمز والإشارة صونًا لأسرارها ممن ليسوا أهلاً لها. ولا يخفى أن الحكمة المشرقية هي البرزخ بين بحر الفلسفة ومحيط التصوف، فجوهرها هو شروق الأنوار على النفس.
ومن جهة أخرى تعتبر القصة مقاربة رمزية لإشكالية نظرية العرفان (الإنسان، المعرفة، الوجود الحق)، وهي سيرة فكرية وروحية ثرية لشخصية “حي بن يقظان” ترصد لحظات حياته الطبيعية والنفسية والعقلية والوجدانية. إنها رمز للأنا الكوني، وتأريخ لزمنيته الكثيفة، وتتبع لتطوره الروحي. فالذات هنا هي “الأنا” -أنا أوجد، أنا أفكر- الذي يستشعر كينونته ووعيه بوجوده مقارنة بالكائنات والأشياء والموضوعات. تُؤثث رمزية القصة فضاءها الفكري بحضورٍ مؤسسٍ لسؤال “الأنا” الذي يحدس وجوده من خلال جدليته مع الطبيعة والوجود.
وتمثل هذه السيرة الفلسفية استبطانًا للذات في مرآة التأمل، وفي انعكاسية الواقع، وعبر التاريخ، وهي تتلمس فراغاتها وتناهيها أمام رحابة الوجود. كما تعبر عن اكتشاف قوة العقل وسحر اللغة والقدرة على التغيير والتحكم بالموازاة مع استشعار التناهي واختراق الزمن. فتكشف الذات تغيرها بفعل تواتر الفعل والانفعال؛ النصر (اكتشاف النار)، والانكسار (لحظة موت الظبية)، العزلة وحضور الغير، الصمت والتواصل.
وتبدأ الرمزية مع العنوان الذي هو في نفس الوقت اسم الشخصية وعنوان القصة التي تفيض بحمولة فكرية متعددة المستويات. فـ”حي” تحيل على الحياة أو على الكائن الحيوان، باعتبار أن الإنسان حيوان لا يميزه عن باقي الكائنات سوى العقل، في حين يشير “يقظان” إلى اليقظة الفكرية، فالإنسان ماهيته الفكر وليس الحياة، أو الوجود الطبيعي المعطى، وهذه اليقظة التي ستنتشل “حي” من “الوجود الزائف” الذي يذوب مع الواقع ومجرياته للبحث عن “الوجود الأصيل” الذي يحقق فيه كماله الذاتي، أو لاستعادة “الأنا أفكر” الذي كاد يتلاشى في حياة الغاب.

1- السفر العقلي

لا يهمنا في هذا المقام الوقوف عند حدث ولادة “حي بن يقظان”، وكيف وصل إلى الغابة، وكيف تلقفته الظبية التي رعته وربته حتى نشأ نشأة حيوانية، لأن القصة رمزية وليست تأريخًا، بل ما يهمنا هو أن “حي” نما وتغذى بلبن الظبية، وتعلم المشي، وتطبع بحياة الغاب.
كانت أولى علامات النضج فيه، تتجلى في الفضول الطبيعي، حيث بدأ يرنو إلى استكشاف أبعاد المحيط مشبعًا بالملاحظة والمقارنة؛ ملاحظة الأشياء والمقارنة بينه وبين الحيوانات. فرصْدُ الاختلافات ولدت شعورًا بالاستثناء، ومن ثم ساهم الآخر في رسم أولى الخطوط لتشكيل صورة الذات والوعي بـ”الأنا”، وبدأت تتناسل الأسئلة بفعل اليقظة الفكرية الأولية، لكن في هذا المستوى الأولي، لم يكن الوعي بـ”الأنا” إلا من خلال مرآة الآخر، فهو وعي مقارن وسطحي يركز على الخصائص الظاهرية وعلى التشابه والاختلاف.
ويشكل موت الظبية -التي ربته- منعطفًا حاسمًا وحدثًا فريدًا، ولحظة حاسمة في حياة وفكر حي بن يقظان، ذلك أن هذا الكائن (الظبية) الذي كان يموج حيوية ويفيض حنانًا، أصبح جسدًا فارغًا من الحياة وجثة هامدة.. أمسى الفكر حائرًا أمام هذا المشهد الذي استنبت جذور الأسئلة الغائبة في تربة القلق، لقد نخر الزمن بأفاعيله هذا الكائن وغادره فأمسى بلا زمن.
“الدهشة أصل التفلسف”، هكذا قال أرسطو معلنًا عن مبدأ الفلسفة. والمبدأ يشير إلى الأساس والبداية التي بدأ معها التفكير الفلسفي. وقد يشير أيضًا إلى النهاية التي يقف معها العقل حائرًا قلقًا متوترًا، يلامس أفق الوجود. ففي الظاهر يبدو العقل متملكًا للموضوع قادرًا على الإحاطة به، وفي الباطن نرى إقرار العقل بحيرته التي تُترجم إلى جهد فكري محايد ومصاحب لتمثلاته الخاصة.
لقد اندمج “حي” في نمط حياة الظبية التي رعته وربته حتى أصبح وجودًا مضافًا إلى وجودها، ومكملاً لها في كبرها وشيخوختها، فكانا بمثابة وجود واحد، لذلك نفهم سر اهتمام “حي” بإشكالية موت الظبية مع أن الغابة تعج دائمًا بحرب وصراع يحصدان الضحايا، لكن اهتمامه يأتي كأرق بوجوده الخاص، إنه انشغال بمصير الذات من خلال الغير.
تحوّل الانشغال بالموت من فزع إلى حزن شديد، كادت معه نفسه تفيض أسفًا وكمدًا. وسرعان ما استحال هذا الحزن إلى فضول فكري باحث عن سر الموت. ارتوى الفضول بالجرأة الفكرية التي تنتشل الإنسان من الوجود الطبيعي المعطى، ليغوص في أغوار المجهول إرواءً لظمإٍ معرفي يستحثه على المضي في درب الأسئلة الكبرى. ذلك هو المنعطف الجذري في حياة “حي بن يقظان”، لقد أعاد اكتشاف إنسانيته.

تراجيديا المفارقة

موت الظبية هو الذي أحيا عقل “حي بن يقظان”، وعليه انفتحت آفاق واسعة أمام فكره.. وكان هذا الحدث جسرًا عَبَر من خلاله من عالم الطبيعة إلى عالم ما بعد الطبيعة، إذ بدأ يفكر في الجسد، لكنه اكتشف تفسخه وتحلله، فاتجه تفكيره نحو “ذلك الشيء” الذي غادر الجسد. وتفسر هذه الخطوة سر الاهتمام بـ”الثابت” وإهمال “المتحول”، أي الانشغال بالخالد وتهميش الزائل. هذا الموقف المعرفي سينقلب إلى موقف أخلاقي، يحتقر الجسد وعلائقه ويعلي من شأن الروح.
أصبح الطريق واضحًا أمام “حي بن يقظان”، البحث عن سر الجسد، وسيقوده ذلك للبحث عن سر العالم. فالمماثلة بين الجسد والعالم، تستدعي المضي في سبيل البحث عن حقيقة الوجود. فإذا كان الجسد كثرة من الحواس والأعضاء، فإن هذه الكثرة لا معنى لها بدون الروح الذي يؤلف بينها. وكذلك العالم المتكثر بموجوداته، يستبطن وحدة الصنع والصانع. وكما أن الجسد ليس حيًا بذاته، فكذلك العالم لا قيام له بذاته، بل يحتاج إلى كائن أسمى هو في غاية الكمال وفوق الكمال، وهو الوجود الواجب لذاته المانح للوجود.
توسّل ابن طفيل في الاستدلال على وجود الحق، بمجموعة من البراهين الفلسفية التي كانت متداولة في عصره؛ دليل النظام (دليل العناية)، دليل الكمال (نظرية الفيض)، دليل العلِّيَّة والغائية.. لكن هذه الأدلة لا تعني معرفة حقيقة الله تعالى، بل إثبات وجوده فقط.
فمحاولات معرفة الكامل تصطدم بعجز العقل عن تصوره، وكانت النتيجة تحولاً في الرؤية والمنهج، ذلك أن الموضوع هو الذي يفرض المنهج والأداة؛ فعالم الحس تناسبه الحواس، والمعقولات يلائمها العقل.. أما الخالق تعالى فلا “يحيطون بعلمه” لأنه “ليس كمثله شيء” لغياب المناسبة بين الخالق والمخلوق. وهذا يقتضي استبدال ليس فقط أداة المعرفة، بل أيضًا منهج المعرفة. وهنا ينتقل “حي” من المنهج المعرفي إلى المنهج العرفاني، من الفلسفة إلى التصوف.

2- السفر الروحي

من الجلي أن فلسفة ابن طفيل التي يعبر عنها “حي بن يقظان” تمزج بين الفكر النظري وبين الذوق العرفاني. فقد بدأت التجربة فلسفية، لتتحول على أعتاب التصوف إلى حكمة إشراقية. فكأنما قصُر سبيل البحث الفلسفي عن متابعة السير في سماء التصوف. ويمكن أن نستعرض بإيجاز أسس المنهج العرفاني عند حي بن يقظان:
أ- الرياضة والمجاهدة: رياضة الجسم ومجاهدة النفس؛ فالجسد هو سجن الروح الذي يعوق انعتاقها لتتصل بالعالم العلوي، أما النفس فهي حبل المشيمة الذي يوثقها بشهوات هذا العالم. لذلك فالحرية الروحانية هي طريق العبودية الخالصة للواحد.
بـ- العزلة: فحضور الآخر يشوش صفاء الذكر ويسرق الزمن المنذور للتقرب.
جـ- الذكر: فالذكر جلاء القلب الذي هو مرآة الحق.
د- الصمت: فالصمت هو صوم اللسان.
هـ- التأمل: وهو ذكر القلب والعقل والفؤاد، وهو استغراق في المحبوب.
و- الحب: وهو سبب الجذب لسلوك الطريق، والموقظ للهمة، والباعث على الشعور بغبطة روحانية.
ز- الفناء: وفيه يتلاشى الشعور بالوجود، وتمحى ذاتيته عندما يغوص في بحر الغيب.
حـ- المشاهدة: وهي هتك الأستار ومطالعة الأسرار ومعاينة الأنوار.
فكان ما كان مما لست أذكره
فظنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر
هناك فرق كبير بين حالة الفلاسفة عند “الاتصال” وبين حال الصوفية، ومرد ذلك إلى الاختلاف بين المنهج العقلي والمنهج الذوقي. فالأول يعتمد على الفكر والتأمل للاتصال بالعقل الفعال، في حين يعمل الثاني على جلاء مرآة القلب لتلقّي التجليات والمنح الإلهية. فالفيلسوف يجتهد بعقله الذي يستفيد المعقولات من العقل الفعال، فيخرجه من القوة إلى الفعل ويصبح “عقلاً مستفادًا”.
أما الصوفي فإنه يُعدّ المحل القابل (القلب) لاستقبال الفيض الإلهي. يبدأ العقل الفلسفي من عقل هيولاني بالقوة، ويقف عند أفق العقل المستفاد الذي هو منتهى الفاعلية الإنسانية. فالفيلسوف يسعى بعقله للاتصال بالحقيقة في فضاء العقل الفعال، بينما يرنو الصوفي بقلبه إلى مشاهدة الحق. فهل يتعلق الأمر بوحدة الغاية مع اختلاف الوسائل، أم باختلاف جذري في الوسيلة والغاية؟
الواقع أن موقف ابن طفيل يميل إلى تقريب المسافة بين الفلسفة والتصوف، على اعتبار أن الغاية التي يصل إليها الفيلسوف، هي نفس الغاية التي “يتحقق” بها الصوفي مع إقرار بأفضلية المسلك العرفاني.
صحيح أن الفيلسوف يحقق الاتصال بالعقل الفعال، إلا أنه لا يحظى بنفس اليقين الصوفي. ومع أن الفيلسوف يظل مشككًا في معقولية النهج الصوفي، إلا أن الصوفي يعترف بتعددية الطرق المؤدية إلى الحق. وبالتالي فإذا كان العقل الفلسفي يضيق عن قبول الحق في الاختلاف، فإن الصوفي يعترف بقدرة العقل على ملامسة تخوم فضاء الحقيقة المشترك.
يصور ابن طفيل العلاقة بين المنهج الفلسفي والمسلك الصوفي من خلال مثال شخص خُلق مكفوفًا، إلا أنه جيد الفطرة وقوي الحدس ومسدد الخاطر، نشأ في مدينة وتعرّف على مسالكها وأشخاصها حتى أصبح مستغنيًا عن دليل يرشده، ثم إنه بعد ذلك مَنَّ الله عليه وفتح بصره، فأصبح يمشي في تلك المدينة ولم يجد أمرًا مختلفًا عما كان يعتقده، لكنه حظي بزيادة الوضوح والانبلاج واللذة العظيمة.
فحال الفلاسفة كحال هذا الأعمى الذي بذل جهدًا للتعرف على خريطة المدينة، ومع أنه تمكن من ذلك، إلا أنه لا يمكن أن يقارن مع من فتح الله بصره وبصيرته فرأى المدينة بكل جلاء ووضوح، وأبصر تفاصيلها فتمتّع بجمال مناظرها.

3- الحكمة المشرقية والجسور المنكسرة

تجسد قصة “حي بن يقظان” حكمة الإشراق أو “الحكمة المشرقية” كما سماها ابن طفيل، وهي حلقة وصل بين الفلسفة والتصوف. وهو اتصال يستمد أساسه من وحدة الحقيقة، وتدعمه وحدة العوالم وترابطها. فالمنطلق الفكري لـ”حي” بدأ حسيًّا طبيعيًّا سرعان ما تحول إلى موقف فلسفي يسائل الكينونة والوجود، لينفتح على أفاق التصوف في لحظة الاتصال بالحق.
فمقاربة الطبيعة من خلال الحس، هو الذي مهد الطريق لإعمال العقل في مساءلة الوجود، وشكل العقل الجسر الذي عبر من خلاله “حي” نحو سلوك العرفان. فتراتبية العوالم واتصالها هو الذي مهد السبيل أمام مدارج الفكر “إذ الكل مرتبط بعضه ببعض، والعالم المحسوس -وإن كان تابعًا للعالم الإلهي- شبيه الظل له، والعالم الإلهي مستغن عنه، فإنه مع ذلك يستحيل فرض عدمه، إذ هو لا محالة تابع للعالم الإلهي”.
سيشكل لقاء “حي” مع “أسال” و”سلامان” فرصة لتقرير العلاقة بين “الحكمة” والشريعة. فقد استطاع “حي” التوصل إلى حقائق كونية وميتافيزيقية، ساعدته على بلوغ الإشراق العرفاني عندما تحول من “الفكر” الفلسفي إلى “الذكر” الصوفي. وهذه التجربة الصوفية هي المنهج التعبدي الذي بلغ به “جوهر الدين” قبل علمه بالرسالات أو الكتب السماوية، كونه عاش في جزيرة معزولة منذ نشأته، ولم تبلغه الرسالات السماوية.
التجربة الفكرية التي عاشها “حي” تجربة أسست لمنظور عرفاني يقيم الجسور بين العلم والفلسفة والتصوف والشريعة، على أساس وحدة الغاية والحقيقة. فسواء اتخذ المرء طريقه في العلم أو الفلسفة، فإنه سيصل إلى حقيقة وجود الله . هذا الحضور المتعالي في قلب إشكالات الوجود سيعاش في حضرة الحب والفناء، ليلتقي الكل العلم، الفلسفة، التصوف، الدين عند عتبات العرفان.
فبينما يمثل “سلامان” أهل الظاهر أو الشريعة، يمثل “أسال” الشخص الذي وصل إلى باطن الشريعة والحقيقة. وإذا كان الأول يقف عند حرفية الدين، فإن الثاني ينحو منحى التأويل. الأول ملازم للجماعة، والثاني مرابط في عزلته. حدث تقارب بين “حي” و”أسال”، وبالمقابل فشل الحوار مع “سلامان”. عاد “حي بن يقظان” إلى جزيرته، وانطوى “أسال” على ذاته، في حين ذاب “سلامان” في جماعته. ربما كان التنبيه على الحوار المفقود في ثقافتنا بين فقهاء الظاهر والصوفية والفلاسفة، هو المغزى من القصة كلها. المؤسف، أن ذلك الفشل ما زال يجثم على ثقافتنا، بل تعمق وتوسع.. والأدهى والأمرّ أن تحل لغة العنف محل الحوار والتواصل، ولم نتجاوز بعد إشكالية القصة.

(*) أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، إنزكان / المغرب.