التربية، عمليةُ تنميةِ الاتجاهات والمفاهيم والمهارات والقدرات عند الأفراد في اتجاه معين لتحقيق أهداف محددة. فمن تلك الأهداف التي تعمل التربية على تحقيقها؛ مهارات القراءة والكتابة، وتنمية المعلومات والتفكير، والاتجاهات العلمية، وتفهّم ما يوجد حول الإنسان من ظواهر وعلاقات طبيعية، إلى جانب تنمية قدرات الأفراد ومهاراتهم، لإيجاد الحلول لمختلف المشكلات التي يواجهونها. فالتربية إذن، تسعى إلى التعرف على حاجات ومشكلات الفرد والمجتمعات، وإيجاد الحلول الواقعية لها بمختلف الوسائل. والتربية البيئية، تتعلق بمعرفة الإنسان، وتنمية معلوماته ومهاراته، فيما يرتبط بالظواهر البيئية المختلفة والعلاقات المشتركة والتفاعل بين عناصر البيئة ومقوماتها، وكذلك تنمية قدرات الفرد على معالجة الأضرار التي لحقت بالبيئة، إضافة إلى الحفاظ على البيئة وحمياتها. وتتناول التربية البيئية أيضًا، الجوانب التربوية التي تتعلق ببقاء الإنسان واستمرار رفاهيته ووجوده على هذا الكوكب. هذا بالاضافة إلى الجوانب التي تعالج كيفية تعامل الإنسان مع البيئة ومصادرها، بطريقة تكفل له حسن استغلالها وتؤدي لاستمرار التوازن بينه وبين تلك المصادر، لاستمرار وجوده وتمتعه بمستويات طيبة من المعيشة والرفاهية.

الرؤية الكلية للبيئة

أما الاهتمام بالبيئة المحيطة بالبشر فقديم قدم الإنسان. فالإنسان لا ينفك عن الاحتياج إلى بيئته والتفاعل معها، والانشغال المتخصص بها، والحفاظ على توازنها بالاستخلاف والعمارة وميزان المقاصد الشرعية من الشواغل، تقييدًا لسلطة الإنسان وحركته بإطار الخلافة لله سبحانه وتعالى وضمن أمانة الإصلاح في الأرض وعمارتها. وهكذا، دخلت علاقة الإنسان بالبيئة في مراتب الضروريات والحاجيات والتحسينات في مقاصد الشرع من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والعرض.
وقد تعرضت البيئة في السنوات الأخيرة، لإفساد كبير من قبل الإنسان المعاصر، وذلك بسبب جهله بأبعاد استخلافه في الأرض وتجاهله لما يعنيه التسخير. والتسخير هو أن يستفيد ابن آدم مما هيأه اللٰه سبحانه وتعالى له في الأرض من أسباب الحياة دون إفراط أو تفريط، ودون إخلال بالنواميس الكونية التي سنها الخالق عز وجل، والتي تستهدف الحفاظ على ديناميكية هذا الوجود واستمراريته.
ولو أخذنا معالم نظرية البيئة لوجدنا الفقه الإسلامي القديم والحديث قد تعرض لمكوناتها، ولكن في المواضع التي ترتبط بها في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع القانوني بأقسامه، أي في مكانها من خريطة العقل المسلم في تكييفه لها. فالرؤية الكلية تدخل في المكونات الإبستمولوجية للنظرية البيئية، كما تدخل -في المقابل- في العقيدة الإسلامية التي ترى الإنسان سيدًا في الكون لا سيدًا للكون، ومستخلَفًا من قبَل اللٰه سبحانه وتعالى على الكون، فلا هي -الرؤية الكلية- مركزية بشرية يستنزف فيها الإنسانُ الطبيعةَ، ولا هي مركزية للطبيعة تساوي بين الإنسان والمادة والإنسان والحيوان، وتتجاهل خالق الكون ورسالة البشر وأمانتهم المسؤولة في الدنيا والآخرة. والاستدامة تدخل -في نظرية المقاصد- في العدل كمقصدِ وحفظِ المال، ومراتب هذا الحفظ والقيم الأخلاقية، لا تقتصر على المسؤولية تجاه الأجيال فحسب، بل المسؤولية أمام اللٰه عن الموارد والكائنات، بدءًا من التوجيه النبوي بعدم السرف في الماء ولو للوضوء، ومرورًا بالرحمة الواجبة بالحيوانات التي قد تُدخل الجنة وقد تُدخل النار، ثم بالتواصل مع كل مكونات الكون النباتية، بل مع كل الجمادات التي تسبح اللٰه سبحانه وتعالى.

الانسجام الروحي مع البيئة

إن الشعور بالسلام بين المسلم وبين الحياة والأحياء، مسألة ذات قيمة شعورية، وذات أثر كبير في حياة الإنسان الواقعية. فهو يستطيع بهذا الشعور أن يمضي في طريقه مطمئنًا، ويكتشف سنن الحياة ليجعلها طريقه للخير.
فالسلام الروحي ضروري للإنسان، وأُولى مراحله السلامُ مع الكون والبيئة من حوله. لقد كان رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم يحب الكون ويحب بيئته، فكان يفرح برؤيته الهلال إذ يقول: “اللهم أهلله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك اللٰه” (رواه الترمذي)، وكان يقول صلى الله عليه وسلم عن أحد: “هذا جبل يحبّنا ونحبه” (رواه البخاري). فهذا الشعور الإسلامي الصحيح اللطيف، لا ينشأ في القلب إلا بالمعرفة الصحيحة لحقيقة الكون.
ومن روائع ما جاء به القرآن الكريم، وأكدته السنة النبوية الشريفة، تدريب المسلم إذا أحرم بالحج أو العمرة، أن يحترم البيئة فلا يُحلّ صيدها، ولا يُقطع شجرها… ولعل من أوائل ما حفظناه من الأحاديث النبوية الشريفة هو: “دخلتْ امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض” (متفق عليه)، وأن بغيا من بغايا بني إسرائيل، غُفر لها لسقيها كلبًا كان يلهث من العطش. ومن الترهيب في حديث السدرة إلى الترغيب في جعل غرس النبت من أعظم الأعمال الصالحة إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة” (رواه مسلم).
وتتميز هذه العلاقة بخصائص وأبعاد أهمها؛ أنها علاقة توازن وألفة وانسجام لصالح الحياة والأحياء بما فيهم البشر.
وقد بدأ كثير من علماء الطبيعة اليوم، يفيقون من الوهم الذي هم فيه، ويدركون ضرورة عودة الوفاق مع الطبيعة، وأهمية انسجام الإنسان مع الكون، خاصة بعد كشف كثير من آليات الطبيعة وظواهرها، والإدراك لذلك التوازن الدقيق بين قوانينها، وعلى ذلك يقول عالم الحيوان الألماني “إرنست هايكل” بـأن الإيكولوجيا (علم تناسق الطبيعة )، تستهدف تسليط الأضواء على علاقات متبادلة لم تكن تخطر على بـال.
ومن هنا، ندرك مدى دقة القرآن الكريم في التعبير عن العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به، بأن كل مكونات البيئة في هذا الكون الفسيح، قد أعدها اللٰه سبحانه وتعالى لاستقبال الحياة ولكفالة الأحياء فيقول: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾(لقمان:20).
كما أكدت السنة المطهرة علاقة المودة الصافية بين الناس وما تحتويه بيئتهم من موجودات حية وغير حية، وقد كان رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم يقول عن جبل أحد: “جبل يحبّنا ونحبّه”.. هذا الشعور بالقربى يلقي في النفس بُعدًا إيمانيًّا، يزيد من انفساحها للكون والإقبال على التعامل معه بكل الطاقات الإبداعية، وحينما قال صلى الله عليه وسلم: “أكرموا بني عماتكم النخل” (أخرجه أبو يعلى)، فذلك تعبير منه عن وشائج الألفة بين الإنسان وعناصر الطبيعة، ألفة نبتت جذورها من الوحدة المتعددة المظاهر بين الإنسان والكون. ومن البيّن أن هذا الأثر النفسي من المودة والألفة، ينفي من نفس الإنسان مشاعر الخوف والعداء التي تتأتى من اعتقاد الغربة والتناقض، وانتفاء هذه المشاعر هو الشرط الأول لصنع مناخ نفسي تستعد فيه نفس الإنسان، للإقبال على الكون والانفتاح عليه والتعامل معه بتلقائيه ويسر. ومن المبين أن افتقاد البشرية لهذا البُعد الإيماني والشعور النفسي، القائم على المعرفة الصحية لطبيعة العلاقة بين الإنسان والبيئة (الكون) -كما يعرضها المنهج الإسلامي المتفرد- هو الذي يدلنا على طبيعة الحرب التي شنها الإنسان على نفسه في غمرة انشغاله بثورة العلم والتقنية.
ومن هنا، نجد عناية الإنسان في الإسلام تمتد إلى كل مظاهر الكون، سواء هذا الكون المادي أو ذلك الكون المتمثل في الكائنات الحية من نبات وحيوان وطير. واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم غرس الأشجار وتطهير الأنهار وحفر الآبار وغيرها من الأعمال النافعة صدقة جارية فقال: “سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته” (رواه البزار).
وقد امتدت عناية الإسلام، بالرحمة والإشفاق على الحيوانات، باعتبارها أحد العناصر الحية في البيئة. فالتربية البيئية تساهم في رفع مستوى الوعي البيئي لدى الناس، وفي تغيير العادات غير المرغوبة بيئيًّا وتبديلها إلى سلوك بيئي إيجابي يساهم في تحقيق التنمية المستدامة.

مبادئ التربية البيئية

إن التربية البيئية تتطلب جهودًا مختلفة واختصاصات متنوعة لكي تستطيع تحقيق أهدافها. ومن المبادئ والمعايير الأساسية لتوجيه الجهود الوطنية والإقليمية والدولية للأوجه المختلفة للتربية البيئية الآتي:
• تتطلب التربية البيئية، تكامل العديد من الاختصاصات المختلفة مع الأساليب والخبرات التربوية، وبالتالي يكون من الضروري، أن تساهم فيها كل مواد الدراسة والنشاطات التي تشرف عليها المدرسة.
• من أهم أهداف التربية البيئية، هو الوصول إلى رفع مستوى الإدراك والوعي البيئي لدى الأفراد والمجتمعات، وإكسابهم المعرفة والمهارات، للمشاركة في تحمّل مسؤولياتٍ في حماية البيئة بصورة أكثر فعالية.
• من الضروري أن تعمل التربية البيئية على ترسيخ مفهوم العلاقات المتبادلة بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتنموية وبين عناصر ومقومات البيئة، هذا إلى جانب الترابط والتكامل بين البيئة والتنمية.
• يكون لزامًا على التربية البيئية، أن توفر المعلومات الضرورية وإكساب المهارات اللازمة، لتفسير هذه العلاقات المتبادلة بين البيئة والتنمية، وكذلك النظم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من النظم.
• على التربية البيئية، العمل على إيجاد الترابط بين الإجراءات والأساليب التربوية، وبين واقع حياة الإنسان التي تشمل -ضمن واقعها- المشكلات والقضايا البيئية في المجتمع.
• لابد من اعتبار أن التربية البيئية عملية مستمرة، وذلك لتجديد المعلومات والمهارات بما تتطلب حماية البيئة وعملية التنمية.
• يجب أن تشمل التربية البيئية أو التثقيف البيئي، جميع الفئات الاجتماعية والعمرية في المجتمع، بما في ذلك الجماعات المتخصصة المخلتفة. ولزيادة فعالية التربية البيئية، يكون من الضروري إدراجها ضمن التشريعات والسياسات والخطط التنموية للدولة.
• ضرورة إدخال المفاهيم البيئية في نسيج المواد الدراسية التخصصية، وكذلك إدخال الاعتبارات البيئية في النسيج التربوي والثقافي، في مراحل تدرجه في سلك التعليم العام. وكذلك العمل على تعميق الوعي البيئي عند التلاميذ، بحيث يترسخ في تفكيرهم، ويتحول إلى عناصر سلوكية تحافظ على البيئة، وتراعي العلاقات الوثيقة بين حياة الإنسان وصحة البيئة.

القيمة الجمالية

هناك بُعد جديد يغيب عن كثير من الباحثين والمهتمّين بشؤون البيئة، ولكنه لا يغيب عن الرؤية الإسلامية، ذلك هو البُعد الجمالي الذي ينبغي أن نضمنه للتربية البيئية للطفل والشاب المسلم. فعند استقصاء حكمة الخالق عز وجل في إبداع الكون وتكوينه، ينبغي أن يستشعر الإنسان حقيقة البُعد الجمالي في العلاقة بين الإنسان والبيئة، وهو ما يقابل القصد الإلهي في إبداع الكون؛ الجميل الصفات، العجيب التلوين والتكوين، يقول اللٰه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾(فاطر:27-28).
وهذه الدعوة القرآنية إلى تأمل الجمال الكوني، هي دعوة إلى الارتفاع بعلاقات الإنسان بالكون والبيئة، إلى مستويات عليا من السلوك والرؤية الإنسانية النبيلة، في مستويات الإصلاح والإعمار التي لا تقتصر فقط على الإصلاح المادي، بل تتعداه إلى الجمال المعنوي البادي في الكون، والذي يسعى الإنسان إلى تأمله والاحتفاظ به وصيانته، وهي دعوة إلى التفوّق في مجال العلوم الكونية، المعنية بدراسة ظواهر الكون والحياة، للإفادة منها في تطوير حياة البشر وفهم أسرار الوجود.
ويؤكد أهل العلم البُعد الجمالي في علاقة الإنسان بالبيئة، إلى الحدّ الذي يجدون فيه أن النظر البليد إلى الأرض والسماء دون إحساس بالجمال، هو نوع من المعصية وينبغي التراجع عنـه. فالمتأمل في السماء وما يسبح فيها من كواكب، وما ينتشر فيها من أفلاك، يجب ألا يغفل عن زينتها التي نبّه إليها الحق تعالى في قوله: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾(الحجر:16).
فالجمال سمة بارزة من سمات هذا الوجود، والحس البصير المتفتح، يدرك الجمال من أول وهلة وعند أول لقاء، كما أن الجمال يعتبر من كمال هذا الكون ومن تمام هذا الوجود، وهو -كذلك- نوع من النظام والتناغم والانسجام، ذو مظاهر لا حصر لها.. فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط وغيرها من المظاهر، يشعر بها الوجدان وإن لم يستطع التعبير عنها ببيان.
وعند النظر إلى الأنعام من زاوية فوائدها المادية وقيمتها كثروة حيوانية، ندرك وجوب الحفاظ على الصورة الجمالية التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾(النحل:5-6)، ولما كان الجمال مقصودًا في خلق الكون، وكان البُعد الجمالي ضروريًا في علاقة الإنسان بالبيئة، فإن ما يحدث في عصرنا من أشكال التلوث البيئي، يجب النظر إليها بأنها اعتداء على توازن البيئة المحكم، وتشويه متعمّد لشكلها الجمالي الذي جعلها اللٰه عليه، ومن ثم يكون العمل على حماية البيئة من مختلف أشكال التلوث والفساد، والإبقاء على الجمال في سطور وصفحات الكون، مطلبًا إسلاميًّا عزيزًا تستحث لأجله الهمم وتستثار الغرائز وتستنهض إليه القلوب.