الإنتاجية تعني قدرة الإنسان على حل المشاكل الموجودة في محيطه وفي عصره الذي يعيش فيه، وتوفير حلول لما سيحدث في مستقبله من مشاكل، بتحصيل الوسائل المادية والمعنوية، البسيطة والمركبة.. ومن الحكمة الربانية أن الإنتاجات المادية -بكل أنواعها ومستوياتها- تابعة للإنتاجات العلمية والفنية شكلاً ومضمونًا، لذلك يميل جمهور علماء النفس في تعريفها على أنها ملكة فكرية طبيعية، عاكسة لشخصية وذكاء صاحبها. الإنتاجية هي الملكة المناسبة لمقام عمارة الأرض، كل النصوص الشرعية تؤكد أن الإنسان جاء إلى هذه الأرض حاملاً رسالة تعمير، ولم يأت إليها ليتحمل تحدياتها البيولوجية والاجتماعبة.
لا ينجح نظام تربوي حتى يقوم على فلسفة تربوية نيرة وناضجة، وهي بمثابة المقدمات الفكرية التى تعطينا صورة عن الإنسان الذي نريد صناعته وتخريجه.
والإنسان المنتج لا بد أن يتوفر لديه هذه المواصفات:
1- قوة الشخصية: إن تكامل أبعاد شخصية الإنسان بصورة منسجمة، يؤهله لأن يكون سيدًا يدور في فلكه الكون العظيم قادرًا على تكييف محيطه، والشرط الوحيد لهذه السيادة؛ “الحرية” بمعانيها الحقة، وهي تجعله ينظر إلى الحياة نظر تكافؤ وإخاء ومحبة. ويتحرك أو يسكن حسب القناعة المدعومة بروافد العلم والمعرفة، المستقاة من المنابع الصافية للحق والفضيلة، وتستمد هذه الشخصية قوتها من قوة ارتباطها بالمصدر المطلق للقوة، ألا وهو رب العزة جل جلاله. إن القوة لله جميعًا. فهذا الارتباط وهذه العلاقة، هو المسمى في مصطلح الدين بـ”الإيمان”.
2- القيادة الاجتماعية: الإنسان في التعريف الرياضي، دائرة ناشئة من التقاء دائرتين المادة والروح، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)(ص:71-72). والمجتمع البشري بدوره دائرة ناشئة من التقاء دوائر متعددة، فهي مسرح كسابقتها لصراع مستمر وصارم. فاستعلاء الجانب الفطري من الإنسان وهيمنته على هذه العوامل المكونة للمجتمع يحقق له هذه القيادية الاجتماعية، إذ تفتح أمامه باب المسؤولية والريادة.
3- القضية: يكاد يتفق مؤرخو العصر الحديث على أن أكثر اختراعات الإنسان المعاصر، تمت في فترتي الحرب العالمية الأولى والثانية. نعم ذلك لأن الحاجة إلى هذه المخترعات كانت ملحة في تلك الفترة، بحيث لم تكن مسألة رفاهية، ولكنها مسألة حياة أو موت، وعبروا عن هذه العلاقة بين الحاجة والإنتاجية بمقولتهم المشهورة “الحاجة أمّ الاختراع”، صحيح ولكن الحاجة نفسها قد تكون أم التبعية والاستهلاكية إذا لم تتمكن التربية من غرس وترسيخ القيم المذكورة أعلاه، من حرية وإيمان وقيادية ومسؤولية في الإنسان.
4- الرؤى: الجهود البشرية بكاملها لايكون لها أي معنى أو قيمة، أو تقدر على توجيه حركة التاريخ، أو تحقيق سعادة للإنسان على هذه الارض، إلا إذا كانت منبثقة من رؤى تصورية واضحة للحياة. فهي المنطلق الصحيح لكل المشاريع التعميرية، ومنها تنشأ الدوافع القوية للحركات التغييرية التي حددت -ولا تزال تحدد- مصير الأمم والمجتمعات، بدونها تتجزء الحياة بأطوارها شذر مذر. فالإنتاجات كلها خادمة لرؤى إنسانية تحاذي خط سير التاريخ، لأن الإنسان في حالة رشده لا يقوم بأفعال منعزلة عن قصة الحياة الكبيرة التي نصطلح عليها بمصطلح “التاريخ”. يأتينا من هذه الزاوية فهم لهذه الآية الكريمة:
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)(الكهف:82). فالخدمة الربانية التي نفذها عبد الله “الخضر” عليه السلام بإقامة هذا الجدار، تظهر فيها الأبعاد الثلاثة التي هي أركان الرؤى الكاملة والرشيدة.
أ- النظرة التاريخية: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)؛ فعمل الخضر عليه السلام كان استمرارًا لمشروع بدئ قبله من قبل رجل صالح بكل معاني الصلاح، فمنه استمد جذوره وشرعيته.
بـ- التضحية في الحاضر: وتنحصر تحتها معاني الإنتاجية والفعالية، إذ تستمد روحه من دوافع التاريخ واستشراف المستقبل. وتتجسد هذه الخدمة في مؤسسات تتصدى بكل واقعية لتحديات الساحة والساعة(فَأَقَامَهُ).
يكاد يتفق مؤرخو العصر الحديث على أن أكثر اختراعات الإنسان المعاصر، تمت في فترتي الحرب العالمية الأولى والثانية.
جـ- النظر والعمل للمستقبل: وهو بُعدٌ لا يؤتى لكل أحد، لأن الإنسان إما أن يكون منغمسًا في يومياته وعصرياته، وإما أن يبتلى بداء الأنانية الفتاك، فلا يفكر إلا في المصلحة العاجلة، ولا يرى ما رآه الخضر عليه السلام (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
وجود هذه الرؤى الشاملة بأبعادها الثلاثة، يفرض على الإنسان المنتج، وضع خطة وانتهاج منهج. فـ”الخدمة” المباركة التي هي بمنزلة العافية لهذه الأمة المريضة، مهدتها رؤى منبثقة من لب الإسلام وجوهره، وتبلورت عبر الأزمنة إلى أن تصل إلى الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ومنه إلى الأستاذ فتح الله كولن. فهي الآن برامج وخطط جاوزت مراحل التنظير، لذلك نلاحظ جميعًا هذه الخفة الحركية وروح التنفيذ والتضحية في شباب “الخدمة”.
5- كفاءة ذاتية: الإنسان مهما بلغت به روح القيادية والمسؤولية وألحت عليه الحاجة إلى الإنتاج، فإنه لن يستطيع أن ينتج أبسط شيء في أي مجال ما لم يتمتع بالشخصية العلمية المدعومة بالآفاق النظرية والمكاسب التجريبية، كما أنه إذا كانت متمتعة بهذه الكفاءة الذاتية، ولم تكن لديه سابقاتها، فإنه يظل أداة بيد إنسان آخر يستغله كأي ماكنة . وإذا أراد المولى جل وعلا أن يحقق للإنسان هذه الخلافة السامية، سخر له أسباب الإنتاج وجعله حلاًّ لأزمات عصره، كقصته مع نبيه سليمان عليه السلام؛ إذ سخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.
هذا هو الإنسان المنتج، والسؤال المطروح الآن هو: ما هو المنهج التربوي الذي يقدر على صناعته وتخريجه؟
المنهج الذي وضع لتخريج هذا الإنسان يجب أن يتمتع بالآتي:
• تكامل شروط المنهج: المنهج التربوي منظومة ينخرط فيها جميع العناصر الأساسية، لتكوين الإنسان الراقي من علمية، وتقنية، وأدبية، وروحية، وفنية، وثقافية.. إلخ، على تعددها واختلاف طبائعها، ولكنها منسوجة ومنسقة بنسب مضبوطة، وبمعادلات خاضعة لرؤى حضارية سامية وأهداف تقدمية واقعية، فهو بمثابة أي جهاز، جملة من عناصر مركبة، كلها في غاية من الأهمية، بحيث إنه إذا تخلف عنصر منها حدث اختلال في توازن الجهاز وفي نتاجه. وهذا الاختلال هو ما حدث -للأسف الشديد- لكثير من نظمنا التربوية. فقد تبعثرت هذه العناصر في جملة من البرامج التربوية، فبرنامج ديني يرعاه رجال الدين ويهدف إلى تخريج الرجل المسلم المتمتع بالعلوم الشرعية، وبرنامج آخر يرعاه دعاة الحداثة، يهدف إلى تخريج الرجل العقلاني المتمتع بالشخصية العلمية الصارمة، وبرنامج آخر يفتقر إلى التدوين والتكريس. ولكن الواقع يفرض التنشئة الاجتماعية، ويهدف إلى تخريج إنسان متفاهم مع بيئته الاجتماعية، عاكس لصورة مجتمعه.
الإنسان مهما بلغت به روح القيادية والمسؤولية وألحت عليه الحاجة إلى الإنتاج، فإنه لن يستطيع أن ينتج أبسط شيء في أي مجال ما لم يتمتع بالشخصية العلمية المدعومة بالآفاق النظرية والمكاسب التجريبية.
• فلسفة تربوية: لا ينجح نظام تربوي حتى يقوم على فلسفة تربوية نيرة وناضجة، وهي بمثابة المقدمات الفكرية التى تعطينا صورة عن الإنسان الذي نريد صناعته وتخريجه، وهذه الفلسفة هي التي تقرر مصير النظام خطأ وصوابًا.
• إنسانية التعليم: عملية التربية في أحدث تعاريفها، رجوع بالإنسان إلى أصوله، وهو التعريف الإسلامي للتربية: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(التين:4-6). وفقدان النظم التربوية الحديثة لهذه الميزة الضرورية (الإنسانية)، جعل منها مصانع منتجات للمجتمع المستهلك، منتجات أكثرها تسعى إلى تخريب الإنسان ذاته.
• الهدفية: من الأزمات التربوية التي ابتلينا بها وتكاد تفتك بحياة الأمة، إشكالية الوسائلية، معناها انقلاب الوسائل أهدافًا، ونكرس فيها حياتنا، ونقيّم أهميتها بالمقارنة مع غيرها، ونفر من مقارنتها مع أهدافها، فترانا نتعلم الكثير ونفني العمر في استيعاب دقائق الوسائل وضبط تفاصيلها، كمن يقرأ علم القراءات ولا يتوصل بها إلى علم التفسير، ويتعلم العربية ولا يتوسل بها إلى العلوم الشرعية أو الإنسانية.
• وعي جمعي متحمل: كل النظم التربوية الناجحة في صناعة الإنسان المنتج، لا بد أن تحتضنها نهضة فكرية شاملة لأوجه الحياة الإنسانية، علميّها وتقنيّها وروحانيّها، ويرعاها وعي جمعي تمثلها برامج سياسية رشيدة وواقعية، ومجتمعات مدنية متنورة وقوية.
(*) الرئيس السابق للاتحاد الوطني لجمعيات المدارس القرآنية / السنغال.