قالوا لي يا أستاذ: لقد ظننا أن المقلوبة لم تعجبك!
قلت لهم: وأنَّى لكم هذا الظن، وقد أتيت على نصف الصينية وحدي؟
قالوا: ولكنك لم تأت على ذكرها وذكرنا في حديث المنصورة!
قلت لهم: ذاك حديث آخر لم يأت أوانه بعد، ولكنكم خدعتموني بذكر “البغل”!
كان هذا حديثي مع شباب جامعيين في المنصورة دعُونا لزيارتهم في بيتهم الذي يسكنون فيه، يراهم الناظر فيحسبهم شبابًا عاديين، لكن أفكارهم تسبق أعمارهم، وهمهم كيف يخدمون وطنهم.
المقلوبة رمز في عالم الخدمة لتآلف القلوب، فحول صينية واحدة يتحلق الجميع، وهي طبق واحد يغنيك عن إعداد عدد كثير من الأطباق
استقبلونا بترحاب غامر، ومودة كريمة، قلت لهم: نحن جائعون، فقال أحدهم: لم نستطع أن نجهز لكم شيئًا، فأحضرنا لكم فولاً وطعمية من مطعم “البغل” وهو من أشهر محلات الفول والطعمية عندنا.
انعقدت الدهشة على وجهي قليلا، لكن سرعان ما استسلمت للأمر الواقع، فلا إدام خير من الجوع، كما أن طرافة الأكل من مطعم يُسمَّى “البغل” تضفي نوعا من الفكاهة على الموضوع، وتجعل الذكرى عالقة في الذهن كلما لاح هذا الحيوان أمام ناظريك، أو مر ذكره على مسامعك.
التف الطلاب في حلقة أمامي، وبدأوا يطرحون عددًا من الأسئلة التي تشغلهم، أحلت بعضًا منها على رفيقي، فأجاب بمثل تركي: “الدب الجائع لا يرقص” في إشارة إلى استعجال الطعام.
كان الطلاب يشغلوننا بالحديث إلى أن يكتمل باقي الضيوف من المدعوين، حضر الضيوف وهيأنا مخيلاتنا لشطائر الفول والطعمية، ثم سمعنا طرقًا شديدًا ومتواليا على جسم معدني يصدر من المطبخ، قال أحدنا: هل يحتاج الفول والطعمية إلى كل هذا الطرق؟
فرد عليه الآخر وهو خبير بهذا الصوت: ليست هذه إلا المقلوبة!
ضحك الطلاب بصوت واحد قائلين: نعم إنها المقلوبة، لقد خشينا ألا تحوز إعجابكم فهيأناكم بخدعة “البغل”؛ حتى تحمدوا الله على المقلوبة، وتتغاضوا عن عيوبها، فمهما اعتراها من عيب فلا شك ستفضل منتجات البغل في هذه الساعة من الظهيرة!
تهللت أساريري عندما رأيت صينية المقلوبة محمولة بين أيدي الطلاب في طريقها إلى السفرة المفروشة على الأرض، مستديرة كالبدر في ليلة التمام، طبقات بعضها فوق بعض يعلوها البصل ثم اللحم وسائر المكونات، ويحوطها الزبادي بلونه الأبيض الرائق، إلى جانب السلطة بألوانها وأشكالها المختلفة، وتتصاعد من فوقها أبخرة تعبق برائحة تشد إليها الجائعين شدًّا.
تحلقنا حولها كمريدين في حلقة ذكر مولوية! وفي يد كل منا سلاحه الأبيض (الملعقة) استعدادًا للنزال.
سألني أحدهم: كيف تصف المقلوبة على هذا النحو يا أستاذ؟
أول ما يتعلمه الطالب في بيت من بيوت الخدمة هو مسئولية البيت مسئولية كاملة
أجبته: إنها ترمز إلى الاشتراكية في إعادة التوازن بين طبقات الشعب المختلفة، فالبصل وهو يرمز إلى طبقة العمال الكادحين فوق الجميع، ثم اللحم وهو طبقة الحكام يأتي في الرتبة بعده والجميع يتربعون على الأرز بالتساوي، وهو ما يشير إلى التقاسم في خيرات البلاد. بالطبع أنا لست اشتراكيًّا، وربما يغضب الاشتراكيون لهذا التصوير السطحي لاشتراكيتهم، لكن هكذا حكمتِ النكتة.
المقلوبة رمز في عالم الخدمة لتآلف القلوب، فحول صينية واحدة يتحلق الجميع، وهي طبق واحد يغنيك عن إعداد عدد كثير من الأطباق؛ ففيها الأرز واللحم والسلطة، ولذلك فهي من أسهل الوجبات التي يعدها الطلاب لضيوفهم، وإتقانها يدل على تمرسك في الخدمة والطعام، فأول ما يتعلمه الطالب في بيت من بيوت الخدمة هو مسئولية البيت مسئولية كاملة؛ من نظافة وترتيب وإعداد لوجبات الطعام خلال يوم كامل في الأسبوع بالتناوب، وهذه أولى درجات المسئولية، ولذلك يلقبونه بأم البيت في هذا اليوم.
لم تكن المقلوبة معروفة في تركيا إلى وقت قريب، وكانت مقصورة على مجتمع الخدمة، وفي شائعات إدخالها إلى هذا المجتمع يحكون أن رجلاً عربيًّا -من الشام أو العراق-أعدها لضيوفه من الأتراك فأعجبتهم، ثم راجت بينهم بعدئذٍ، وقد تزوج هذا الرجل امرأة تركية اسمها “مقبولة”، فقالوا: أعطيناه “مقبولة” وعلَّمَنا “مقلوبة”.
المصدر: موقع نسمات