ضمن صيغة متفق عليها في هذا العصر أصبح العمل المؤسساتي عنوان العصر وسمته، ولا يُمكن للجهود الفردية والمتكاملة أن تُلبِّي قضايا المجتمع. فالتحديات الكبرى والأزمات التي نُواجهها في الحياة المعاصرة، والتركيبة المعقَّدة للمجتمعات والعلاقات، وتشابك المعاملات وتكثُّف الأزمات لا يُتصوَّر موضوعياً أن يفهمها أو يتصدى لها فرد، فيجدَ أجوبة على كل القضايا وكل المسائل الفكرية والاقتصادية والطبية والاجتماعية وغير ذلك.
إن الاجتهاد الجماعي الهادئ الواعي المدرك لأبعاد المرحلة ومقتضيات الواقع المعيش، خير من فتوى فرد ثائر لا يرى إلا من زاوية واحدة قد تصل إلى إضرار المجتمع أكثر من إصلاحه، وهدم إمكانيَّات البناء التي يلزم السعي إلى تنميتها.
هذان مساران واقعيَّان في مجتمعاتنا لمشروعٍ هدفه نهضة الإنسان والمجتمع، لكن لا يخفى أنَّ كلا المسارَين يُخالف أحدهما الآخر. واختلاف المُنطلقات تورث اختلافاً منطقياً في النتائج.
ينبني على ذلك أن الاجتهاد الفردي غير قادر على معالجة القضايا الأساسية الكبرى، وربما تقع الأمة تحت تسلُّط رأي واحد أو اجتهاد فردي واستبداد بالرأي، خاصة فيما يتعلَّق بمصير الشعوب ومستقبل الأمة، والاستبداد في شريعتنا منبوذ ومرفوض. هذا لا يعني أن كل اجتهاد فردي أو فتوى فردية في إطار استبدادي، فإن كثيراً من الاجتهادات الفردية المستقلة جاءت عادلة ومحكمة، قاصدة لمصلحة، برفع ظلم أو ردِّ حقٍّ؛ ولكن الأفضل أن لا نجنح إلى الاستقلال بالرأي.
هنا، يظهر مقام الاجتهاد الجماعي حلاًّ لمشكلات معضلة ونوازل معقدة مستمرة، وهو عبارة عن مجلس فقهي شوري، ويعتبر تنظيمه من ضرورات العصر لملاحقة التطورات السريعة في الظروف الاجتماعية للأمة، ولإيجاد إجابات على التحديات المباشرة وإخراجها من أزماتها الواسعة فيها. وهذا يؤدي إلى إحياء الفقه الإسلامي بطريقة جماعية تعبِّر عن إرادة الأمة في النهضة التشريعية والثقافية. وهو:
المشروع الحضاري
ينطلق الاجتهاد الجماعي من الأرضية الإسلامية من قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(الشورى:38)، وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾(آل عمران:159). ونلحظ أن النصوص من الكتاب والسنة لم تعيِّن أسلوباً محدَّداً لأُطر الشورى، بل تركتها في محور متغيِّر يناسب كلَّ عصر بحسبه.
الاجتهاد الجماعي هو المشروع الذي يمكن بواسطته إنشاء مراكز للبحوث والدراسات على المستوى العلمي والإقليمي والعالمي، ويوظف طاقات المفكرين والمجتهدين دون إضافة الجهود فيما يتعلق في تطوير أوضاع الأمة ونهوضها من سقطاتها، والخروج بالأمة من التخاذل الثقافي. فهذا المشروع الحضاري يستفيد من كل التقنيات الحديثة، ومن كل وسائل الاتصال والإعلام والمعلومات، لتحقق الإحاطة البشرية على المستوى الداخلي والخارجي والمحلي والعالمي.
الاجتهاد الجماعي يوصل إلى التعددية وإمكانية الاختلاف الفقهي والنقاش المتفاعل وقبول الرأي الآخر واحترامه، ويجيز القضية الاختلافية التي جعل الشارع لها سماحة واسعة في الاجتهاد الشرعي.
فالرؤية الجماعية لحل المشاكل واستخراج الأحكام، توصل إلى جمع الكلمة ورأب الصدع وتوحيد الصف وإن اختلفت الآراء في المجالس الفقهية، ولكن المطاف الأخير يؤدي إلى الأخذ بقول الأغلبية الذي يمثِّل الخط الأغلبي للأمة أو الخط الكلي بسبب انتشاره وتأثيره على أفراد الأمة، بخلاف الرؤية الفردية التي قد تؤدي إلى الفوضى التشريعية، حيث تتشعب الآراء وتختلف الأنظار وتزداد الاختلافات، مما يؤدي إلى تفرق الأمة وتمزيقها بدل وحدتها. وهذا لا يعني أننا نرفض الاختلاف، بل هو أمر واقع لا يتجاهل، ولكن نريد تنظيم هذا الاختلاف ضمن أطر تعود مصلحته إلى الأمة، لتقريب وجهات النظر ولاتحاد الرؤية بعد ذلك.
إن الاجتهاد الجماعي أمر يتعدى حالة الفرد وقضيته الخاصة إلى حالة المجتمع والأمة وقضاياها. فالموضوع الذي يُطرح على الفريق الفقهي يناقَش من كل الوجوه ومن كل الزوايا، وكل باحث يأتي من نافذة لم يأت منها الآخر، ويتعمَّق البحث وتُعرض الأدلة والآراء وتقلَّب وتمحَّص، ويغدو البحث أكثر إثراء، ويتركَّز البحث ولا يخرج عن الموضوع وتوضع النقاط والمقدمات والنتائج، وتظهر أدلة الأقوى.
هذا المنهج القويم والسليم، اتبعه الملهم عمر الفاروق رضي الله عنه. كان إذا وقعت نازلة ليس فيها نص عن الله سبحانه وتعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم. وكان يأمر أتباعه أن يتمثَّلوا هذا المنهج، فكان مما كتبه للقاضي شُريح: “إن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولم يسنَّه رسول الله، فاقض بما أجمع عليه الناس”. هو اجتهاد منضبِط يتكوَّن من كبار فقهاء الأمة، تتوفَّر فيهم شروط البحث ودرجة الاجتهاد الوسطى.
إن العصر المعيش هو عصر المؤسسات، فإنه لا ينفع فيه الجهود الفردية التي لا تتكامل ولا تتناسق مع الغير. والنـزوع الفردي لا يؤدي إلا إلى ظاهرة فردية مبعثرة يفوتها الخير الكثير. فينبغي تنمية الشعور بعمل مؤسسي لبناء مؤسسات اجتهادية جماعية وتنمية المسؤولية تجاهه. والإقدام على الاجتهاد الجماعي شعور متقِّدم في أهمية العمل الجماعي، لأنه ينبثق من خلال البركة المنظورة في النص الشريف: “يد الله مع الجماعة” (وراه البخاري).
أخيراً، يشكِّل الاجتهاد الجماعي محوراً فعالاً في الإنتاج الفكري الحضاري الذي يعتبَر غاية في الأهمية، ويُمثِّل القاعدة لوحدة الأمة المفقودة، ويعطي رؤية مستقبلية واضحة.