لنكن صرحاء؛ فإن “القرَف” هو ردّ الفعل الذي يعاني منه القارئ وهو يتعامل مع مساحات واسعة من معطيات الأدب العربي في العقدين الأخيرين. أما القرّاء الجدد، أولئك الذين لم يصلب عودهم بعد، فإن “القرَف” قد يدفعهم إلى الانسحاب من معركة “المطالعة” وقفل الأبواب نهائيًّا على عالمها المترع بالخصوبة والجمال والعطاء. يقول أحدهم: إنني لست مستعدًّا لأن أرهق أعصابي وأستنفد طاقتي الذهنية وأنا أقرأ هذا الديوان أو ذاك، وأطالع هذه المجموعة القصصية أو تلك، وأتابع هذا التحليل النقدي أو ذاك، دون أن أصل إلى نتيجة إن على مستوى الفكر أو على مستوى الحسّ والوجدان، وأنا أحاول فك الألغاز وحلّ الطلاسم والرموز في كل فقرة، بل في كل سطر أو كلمة، إن التواصل بيني وبين العمل الأدبي منعدم تمامًا، وإقامة الجسور أمر مستحيل.
الوفاق المرتجى بين اللغة والتجربة
وإذ لم يكن هؤلاء القراء “الجدد” قد استَذْوقوا أدب العقود التي سبقت هذه الموجة الضبابية العارمة، وتعاملوا مع عطائه الخصب، الممتع، المثير، المتميز بالوضوح الذي لم يكن يومًا نقيضًا للعمق وللقدرة التعبيرية عن التجربة في أعمق أغوارها وأبعد آفاقها… أدب الوضوح العميق أو العمق الواضح إذا صحت التعابير.
إذ لم يكن هؤلاء قد تعاملوا مع هذا التراث الذي ربى العديد من الأجيال المعاصرة، وعلّمها وملأ حياتها بالمتعة في الوقت نفسه، فإنه قد يكون مبررًا موقفهم ذاك، أن يغادروا -وإلى الأبد- ساحة القراءة، وألا يسمحوا لأيديهم أن تكتوي بنار العبث الذي يفرزه حشد من الأدباء الجدد ما كان بمقدور أحدهم يومًا أن يعبّر عن “التجربة”، بالشروط الفنية المتعارف عليها وباللغة القديرة على الرسم والتعبير. وهم من أجل تغطية عجزهم عن تحقيق الوفاق الهندسي الباهر بين اللغة والتجربة، يلجأون إلى هذا الإغماض والتعتيم والألغاز، لكي ما يلبثوا أن يصيبوا الإنسان بالقرف، لعله من خلال الدوار والغثيان، يفقد قدرته على إصدار حكم نقدي عادل يضع هذه المعطيات في المكان الذي تستحقه.
فأما أولئك القراء الذين عايشوا أدب الكبار، واستذْوقوه وتعلموا منه، أولئك الذين هزّتهم حتى الأعماق أيام “طه حسين” ورسائل “الرافعي” وتراجم “العقاد” وترجمات “الزيات” وشهرزاد “الحكيم” وثلاثية “محفوظ”…إلخ، فإنهم سيجدون أنفسهم مضطرين لأن يبعدوا هذا الغثاء، يدفعون أكداسه ذات اليمين وذات الشمال لكي يجدوا الطريق مفتوحًا أمامهم إلى أحد عالمين، حيث يجدون فيهما ما افتقدوه ها هنا: الأدب المؤثر والفن الجاد، عالم الأدباء الكبار أولئك، وعالم الأدب فيما وراء دنيانا العربية، حيث يعرف الإنسان كيف يتحقق الوفاق المرتجى بين اللغة والتجربة في إبداع فنيّ يتميز بالوضوح والعمق معًا.
ومَن منا لم يقرأ -على سبيل المثال- الحرب والسلام لـ”تولستوي”، والأخوة كارامازوف لـ”دستويفسكي”، وقصة مدينتين لـ”ديكنز”، والبؤساء لـ”هوغو”، ووداعًا للسلاح لـ”همنغواي”، والطاعون لـ”كامي”، والحقيقة ولدت في المنفى لـ”فانتيلا هوريا” وأفول القمر لـ”شتاينبك”، والساعة الخامسة والعشرون لـ”جيوروجيو”، والدكتور زيفاغو لـ”باسترناك”، والدون الهادئ لـ”شولوخوف”، ولعبة الكرات الزجاجية لـ”هيسة”، ومائة عام من العزلة لـ”ماركيز”… وغير هؤلاء كثيرون من الأدباء الكبار الذين إن لم نتعلم منهم شيئًا، فيكفي أن نتعلم كيف أن الأدب والفن العظيمين لا يتحققا إلا بجهد قاسٍ وكفاحٍ صعب من أجل تحقيق التواصل بين الأديب والفنان وبين الجمهور المتلقي.
أدباء الألغاز وعشاق الغموض
وتتهافت -من ثم- واحدة من المقولات الخاطئة بهذا الصدد، وهي أن أدباء الألغاز والتعتيم هؤلاء، يريدون أن يتوجهوا بعطائهم إلى الجماهير. فإن أية إحصائية سريعة عن إقبال الجماهير على هذا الأدب أو ذاك، سوف تعرض أدباء التعتيم للسخرية، وسوف تتركهم عرايا ولا من يستر على أجسادهم التي يلفحها برد العزلة والغربة والانزواء.
وإنها -إذن- لجناية مزدوجة على الأدب يرتكبها هؤلاء، مرةً بحق الأدب نفسه؛ بتزوير حقيقته وتزييف مهمته لتغطية عجز في التعبير أو ضمور في التجربة، ومرةً بحق القراء والمطالعين بصدّهم عن الفن الجميل بهذا القرف الذي يركمونه عبر الطرقات، وكأنهم -بهذا- يحكمون على القارئ بالأشغال الشاقة المؤبدة، حيث لا سبيل إلى التحرر من متاعب هذا الركام وغباره الذي تضيق معه الأنفاس.
ولا يخطرن على البال -ها هنا- بأن الهجوم على هذا الغثاء الجديد، هو رفض للجديد نفسه وتشبث تقليدي بالقديم. فالجمال لا عمر له ولا وطن… وقد ذكرنا عددًا من أسماء كبار الكتّاب في العالم وهم محدثون ومعاصرون لنا، لكي نقطع الطريق على هذه المقولة الخاطئة. فليأتنا طلاب مدرسة “الغثيان” هذه، بعمل كبير على مستوى ما قدمه أولئك الكبار، ليأتوننا به في سبعينات هذا القرن أو ثمانيناته أو فيما وراء القرن الراهن كله، فإنهم سيجدون يومها التوجهَ الحقيقي الذي يبتغونه تقديرًا وإعجابًا.
والمسألة -إذن- ليست أمر عقد مضى أو عقد يجيء، إنما هي ضرورة أن يكون الأديب أو الفنان متحققًا -لو بالحدّ الأدنى- من شروط ومواصفات الأدب الجاد والفن الجميل.
وثمة سؤال يحيك في الصدور ونحن نتحدث عن هذا الأدب “الجديد”: ماذا عن المذاهب الفنية والأدبية الغربية التي تميزت هي الأخرى بقدر كبير من الألغاز والغموض، ولكنها مع هذا، فرضت نفسها في ساحة الآداب والفنون؟ ماذا عن الرمزية والدادائية والسريالية وموجات الغضب والعبث واللامعقول؟
لغة الأدب الغربي في مخاطبة الكون والحياة
الحق أنه بمراجعة متأنية لنماذج من معطيات الأدب الغربي التي تميل إلى “الإغماض”، تتبدى واضحة حقيقة أن القوم هناك لا يتعمدون ذلك لغرض الإغماض، أو لشهوة تميل إلى التعتيم والألغاز اللذين يختفي وراءهما أي هدف على الإطلاق، وإنما يفعلون ذلك بسببٍ من الرؤية التي يحملونها تجاه الكون والعالم والحياة والإنسان، أو المذهب الأدبي الذي ينتمون إليه والذي يحتم عليهم هذه اللغة أو تلك في التعبير، وهذه الصيغة أو تلك في طرح الرؤى والمواقف والمعطيات.
وبغض النظر عن المنطلقات الخاطئة لمعظم تلك المعطيات، فإنها -على أية حال- تفرض أوّلياتها ومفرداتها على صيغ التعبير فيحاول أن يغطيها بالتكافؤ المطلوب، فلا تكون المحاولة -من ثم- سوى ضرورة وليست ترفًا أو تجوالاً في الفراغ.
هنالك -على سبيل المثال- المذهب الطليعي أو “مذهب العبث واللامعقول” الذي يرى الكون عبثيًّا لا مجديًا يلفه الغموض، فيعبر عنه -أو يجابهه بعبارة أدق- بالمعطيات الأدبية التي تنطلق -كما يرى رواد هذا المذهب- من مواقع الصدق والأمانة فتغمض وتعبث.
وهنالك المذهب السريالي الذي يريد أن يكسر قشرة الوعي، ويتوغل إلى الأعماق حيث تضطرب المعاني وتتداخل الرؤى والأحلام، ويفرز العقل الباطن معطياته المترعة بالغبش والضباب… فيجيء التعبير الأدبي مغبشًا مضببًا محاولاً أن يتكئ على القوة الباطنية للكلمة وعلى قدراتها المخفية، لكي يحقق الهدف المطلوب بالتعبير عن ذلك العالم الهيولي المتحرك أبدًا والذي لا يثبت على شيء.
وهنالك المذهب الرمزي الذي يسعى إلى عدم مجابهة الواقع وجهًا لوجه أو الوقوف قبالته لهذا السبب أو ذاك من الأسباب الموضوعية أو الجمالية البحتة، فيسعى إلى اعتماد إمكانات اللغة المجازية ويستخدم رموزها ودلالاتها للتعبير عن هذا الموقف أو المعنى أو ذاك.
وهنالك مذهب “الرواية الجديدة” الذي يدعو إلى إلغاء وجود الزمن في العمل الروائي، وتفكيك سلسلة الأحداث، وإلغاء الشخصيات واستبدالها بأخرى لا تملك أسماءً ولا وجوهًا ولا ماضيًا ولا حاضرًا ولا مستقبلاً، وتصفية العقدة والحبكة، الأمر الذي يحتم على الرواية أن تنحو منحى جديدًا غير مألوف ولا متعارف عليه.
وهنالك مذهب الغضب الذي يسعى إلى مجابهة أخطاء العالم وجرائمه ولا إنسانيته بالعنف الفني الذي قد يصل حدّ الهذيان والسِّباب، ويعتمد لغةً يتعمّد أصحابُها أن يكسّروها وهم يرمون بها في وجه العالم كما يرمي الإنسان الغاضب بإناءٍ زجاجي فيتفتت وينكسر على هذا الرأس أو ذاك.
وهنالك مذهب الإغراب “الملحمي” الذي يتعمّد أن “يغرب” في لغته وتكتيكه، لكي يحقق الانفصال بين القارئ أو المشاهد وبين العمل الذي يعرض بين يديه، فهو يمارس ما يمكن اعتباره ضربات مفاجئة بين الحين والحين، لكي يحافظ على هذا الانفصال ويضع المشاهد أو القارئ قبالة العمل وليس فيه، لكي يتعلم ويثور.
ومع ذلك، فنحن نقرأ -مثلاً- لـ”يوجين يونسكو” أو “جان جينيه” أو “صمويل بكت” من كتّاب الطليعة فنفهم ما يقولونه، ونقرأ لـ”رامبو” أو “إيلوار” أو “أبوللينير” من شعراء السريالية فنستطيع أن نلتقط بعض ما يقولونه، ونقرأ لـ”إليوت” شاعر المجاز المعروف، فنعرف جانبًا مما يريد أن يعبّر عنه، ونقرأ لـ”جنتر جراس” وهو واحد من أتباع الرواية الجديدة، فنعرف جيدًا لماذا تنمحي الشخصية الروائية وتتسطح وتغدو مجرد رقم من الأرقام، ونقرأ لـ”أوزبورن” رائد المسرح الغاضب، فنغضب معه ونعرف تمامًا لماذا هو غاضب، وما الذي يريده شخوصه مما يصدر عنهم من أقوال وأفعال، ونقرأ لـ”بيتر فايس” و”برتولد برخت” بعض معطياتهما المسرحية الملحمية فيتحقق الانفصال الذي يريده الرجلان، ونتلقى من أعمالهما التعاليم التي يريدان أن يوصلاها للناس بغض النظر -مرة أخرى- عن صدق هذه التعاليم أو زيفها وارتطامها مع قناعاتنا وتصوراتنا للكون والحياة والوجود والإنسان.
لن يتسع المجال هنا لطرح النماذج التي قد تقنع عشاق الغموض في بلادنا بخطأ موقفهم وتهافته، بل لن يتسع المجال حتى لطرح بعض النماذج والنصوص الفلسفية أو النقدية التي يبّرر بها أتباع تلك المذاهب الغربية سيرتهم الجمالية تلك، ولكننا نمرّ سريعًا ببعض ما قيل عن المذهب الطليعي (العبث واللامعقول) لكي نعرف الأسباب.
الطليعيون ودكتاتورية العقل
يذكر “رتشارد كو” في كتابه عن “يونسكو”؛ كيف “أن كل النزعات التي كبحتها دكتاتورية العقل خلال قرنين من الزمان اندفعت إلى السطح، وشهد النصف الأول من قرننا العشرين عدة حركات ثورية؛ كالتكعيبية والمستقبلية والسريالية والتعبيرية والدادائية والوجودية، وكلها حركات تسعى -بطرائقها الخاصة- إلى إلقاء الضوء على موقف الروح الإنساني في كونٍ غاب عنه المنطق. وعندما يختفي المنطق تختفي أيضًا مبررات الوجود. وهكذا نرى أن “يونسكو” -مثل كامي وسارتر- يرى في وجودنا حقيقة لا هي بالمنطقية ولا هي بالمبررة. إنها حقيقة ولكنها حقيقة عبثية، فالوجود الذي لا يبّرره منطق عبث”.
ويمضي “ريتشارد كو” يبّين كيف سعى الطليعيون إلى إلغاء النظرة القديمة “الكلاسيكية” إلى قواعد الكون الأساسية؛ الزمان والمكان ووحدة الشخصية، وكيف أنهم كتبوا “دراما الساعات المكسورة” بمعنى أن أبطالهم يعيشون في عالم توقفت ساعاته. وحين يفقد الإنسان الشعور بالزمن تصبح “السن” كلمة لا معنى لها. وما دمنا قد محونا الزمن فقد محونا “تراكم التجارب” التي يأتي بها الزمن، وعلى ذلك فلا معنى للقول بأن الشيخوخة -مثلاً- تأتي بالحكمة. وقوانين المكان -من ناحية أخرى- لا معنى لها، فهي تعسّفية، وصدقها وكذبها رهن بالإنسان الذي يدركها، وغياب التتابع المنطقي يستلزم غياب وحدة الشخصية. فليست الشخصية سلسلة متصلة من الصفات كما يزعم الكلاسيكيون، وإنما هي حالات دائبة التغيّر يتبع بعضها بعضًا. وما يقوله “م” يمكن ببساطة أن يقوله “ب” دون أن ينجم عن ذلك ضرر كبير. إن الـ”أنا” ما هي إلا انعكاس للعالم الخارجي، أو قُلْ إن العالم الصغير هو صورة مصغرة مثالية للعالم الكبير، ففوضى الأول وتشتته تتبدى في الثاني على نطاق أوسع، وليس هناك خط واضح يفصل بين الإثنين.
ويبيّن يونسكو -بعبارة واضحة- تهافت الشخصية الإنسانية لأنها ليست -بعد أن تكشف عبث العالم- سوى قطعة من ملايين القطع التي يعبث بها الكون: “إن كل شخصياتي على خصام مع الدنيا… لقد غمرهم القلق التاريخي الذي يسود العالم وتورطوا فيه”.
إنه عالم رهيب -يقول يونسكو- إلا أنه عالم لا يمكن أن يؤخذ مأخذ الجدّ، فهو يوشك لفرط سخفه أن يكون مضحكًا. ومن ثم فإن رؤية الطليعيين هذه للعبث، لم تتح لهم أن يطمئنوا للشكل المسرحي العقلي “الأرسططالي” أداة للتعبير، فالمضمون في العمل الفني هو الذي يحدّد الشكل. لذا تمرد “يونسكو” ورفاقه على الواقعية المسرحية، ورفضوا الواقع المنقوص الذي تصدر عنه وتصوره وتفرضه اعتسافًا، وانصرفوا إلى عرض ما كان يتراءى لحسّهم الفني ووعيهم الإنساني كواقع شامل بكل ما فيه من مأساة ومن مهزلة، وكل ما فيه من عبث وخواء وتناقض.
ومع الواقع تتفكك اللغة، وتتهاوى قطعًا متناثرة، وتفرغ من كل معنى وتفقد قدرتها على التواصل بين الإنسان والإنسان.إننا نفهم إذن، الأسباب التي دفعت بالطليعيين وغير الطليعيين، إلى اعتماد اللغة والصيغ التعبيرية الخارجة عن المألوف. ونفهم -كذلك- معطياتهم كانعكاسٍ صادقٍ لرؤيتهم للكون وفلسفتهم في الحياة… ولكن المرء يصعب عليه أن يفهم ما الذي يريد أن يقوله لنا حشد من أدبائنا الجدد.. ولماذا؟
يقول أحدهم: “الأقمشة الممزقة ممنوحة لي عبر الشمس، والمدينة مخدوعة بمعاطف السبت. هذا الفسق ماذا يعرف عن يدي؟ في الباحة، المعلم الهولندي يلتقط الجواهر -ويخسرها أيضًا- والساهرة اليتيمة تعتقل الرغبة هناك. ما أجمل المتوكلين المحبوبين. رامبو، حين طار جسده مات، ملاجئ التأرجح. تروتسكي لم يمتلك خجل الفنادق. جـ: تتدفأون على وحشة القلب متشبثين بصبوات القصيدة”. ويقول آخر:
“أصعد البرق
في منتصف الجسر أي قهقهة فيك
امرأة صغيرة تفتح شفتيك وتنزل
تأخذك بطمأنينة.. الحب.. العار لا يعرفها..
سحرت نهرًا. يصعد ظهر الغشاء. سحرت الغشاء
حربي ذلك السرّ. لعاب سلاحي يخشخش فرحًا
رأس يوسف النجار على كتفي، وجميع العصافير ترن فيه”. وما هما إلا شاهدان من تيّار صاخب عنيف.
استيعاب الخبرة وتطويع اللغة للتعبير
إن تراكم الخبرة الثقافية-الجمالية، والنقدية على وجه الخصوص عبر العصور وبخاصة في العقود الأخيرة من قرننا العشرين هذا، والتأثير العمقي لهذا التراكم على المعطيات الأدبية والجمالية عمومًا، يتوجب أن يجعل الأجيال التالية أعمق وأخصب خيالاً، وأكثر قدرة على التوغل في مجاهيل الكون والعالم، وامتلاكًا لناصية التعبير المؤثر الجميل عن معطياتهما… أكثر بكثير مما كان عليه أدباء القرون الماضية، بل أدباء النصف الأول من هذا القرن.
ولكن الذي يحدث -للأسف- وعلى مساحات واسعة من أدبنا الحديث، أن يتحول هذا السلاح إلى أداة مضادة نشهرها ضد أنفسنا بتحويل الخبرة إلى عالم ملتوي الدروب معتم الآفاق، يضيع في غبشه وضبابه المفتعل ذوو البصائر والألباب.
ولن تكون “الخبرة” الغنية بحال المشجب الذي نعلّق عليه أخطاءنا، لأن أدباء العالم لم يفعلوا هذا ولن يفعلوه، بل إنهم ازدادوا بالخبرة نضجًا وعمقًا.
وأغلب الظن أن الخطأ يكمن في الأدباء الجدد أنفسهم، في عدم قدرتهم على استيعاب الخبرة وتطويع اللغة للتعبير عن التراكم السريع في معطياتها، فيلجأون إلى “الاختباء” خلف دوّامات الضباب والتواءات الإغماض والتعقيد. ولن يكون بمقدور الأرض البور أن تتفجر بالأنهار وأن تزهو بالحدائق ذات البهجة. لن يكون بمقدورها إلا أن تنبت الشوك والحسك الذي يجرح ويدمي فلا يعطي الجمال المرتجى.
بإيجاز شديد، فإن “الموقف” البديل الذي يتوجب أن يعتمده أدبنا المعاصر بصدد الثابت والمتحول، الستاتيك والدايناميك، في تيار الإبداع الأدبي، إنما هو موقف يقوم على رفض السكون التام من جهة، والحركة العمياء من جهة أخرى… موقف يحترم عناصر الديمومة والثبات من جهة، وينفتح على قوى التجديد والتغيير والتحول من جهة أخرى.
إن قبول الجديد المتغيّر، يتوجب ألا يكون على حساب التفريط بأي من العناصر الثابتة التي تمثل عصب الإبداع وهيكله العظمي -إذا صحّ التعبير- وإلا غدا العمل الأدبي رخوًا، متميعًا، رجراجًا، لا يشده رابط ولا تمسك به شخصية مستقلة متبلورة. وإن الالتزام بـ”التوصيل” لهو واحدٌ من أهم العناصر الأساسية التي يتوجب احترامها، وإلا سقنا معطياتنا الأدبية وقراءنا أيضًا إلى الضياع.