الدبابير الطفيلية.. إلهام للجراحة الحديثة

استلهم العلماء من الطبيعة أفكارًا إبداعية لحل أعقد المشكلات، ومؤخرًا سلطت الأبحاث الضوء على الدبابير الطفيلية، التي قد تكون مفتاحًا لتطوير تقنيات جراحية أكثر كفاءة. علمًا بأن هذه الدبابير وُهبت أداة تُعرف بـ”المسرأ”، وهي إبرة مجوفة تستخدمها لوضع بيضها داخل مضيفاتها -مثل اليرقات- بطريقة دقيقة للغاية.

أظهرت دراسة حديثة نُشرت في دورية “آفاق الهندسة الحيوية والتقنيات الحيوية” (Frontiers in Bioengineering and Biotechnology)، أن المسرأ ليس إبرة عادية، بل يتميز بآلية متقدمة، حيث تتكون بنيته من شفرات دقيقة تتحرك بشكل متناوب للأعلى والأسفل، الأمر الذي يسمح له بالتغلغل في الأنسجة بسهولة ودقة متناهية.

آلية المسرأ في الجراحة الحديثة

بعد دراسات معمَّقة حول هذا المخلوق الصغير، استلهم العلماء التقنية الموجودة فيه، لتطوير إبرة جراحية مرنة وقابلة للتوجيه، ويمكنها الوصول إلى مناطق عميقة داخل الجسم لإجراء عمليات طبية معقدة -مثل إزالة الجلطات الدموية أو استئصال الأورام- دون الحاجة إلى تدخل جراحي كبير. تمتاز هذه الإبرة التي استُلهمت من الدبابير الطفيلية بفوائد عديدة؛ فبتصميمها العجيب تقلل هذه الإبرة من تلف الأنسجة السليمة، كما أنها تمكِّن الأطباء من الوصول إلى المناطق المستهدفة بأقصى دقة، وتقلل -كذلك- الحاجة إلى الشقوق الجراحية الكبيرة، مما يقصِّر فترة التعافي ويخفف من المضاعفات المحتملة.

القسطرة المرنة مستوحاة من الدبابير

وباستلهام من الدبابير تمكَّن باحثون في جامعة بريطانية من تطوير نظام قسطرة مرن يمكِّن الأطباء من الوصول إلى المناطق العميقة في الدماغ لعلاجها، وهو إنجاز طبي غير مسبوق، حيث إن القساطر التقليدية تعاني من صعوبة الوصول إلى تلك المناطق بسبب صلابتها المحدودة. وفقًا لموقع “Medgadget” المتخصص في التقنيات العلمية، كانت ثمة عيوب جوهرية في القسطرة التقليدية، أبرزها افتقارها للمرونة اللازمة للتوغل بأمان في المناطق العميقة من الدماغ دون الإضرار بالأنسجة الحساسة.

وعلى النقيض من ذلك، تتمتع القسطرة الجديدة التي طورها باحثون في جامعة “إمبريال كوليدج لندن” بمرونة استثنائية، إذ تعتمد على ذراع آلية موجهة بدقة عالية باستخدام الذكاء الاصطناعي، ما يمكنها من الوصول إلى المناطق المستهدفة في الدماغ، دون الإضرار بالأنسجة الحيوية. وما يجعل هذا الابتكار أكثر تفردًا، هو أن الباحثين استوحوا تصميمه من الطريقة التي تستخدمها الدبابير الطفيلية عند وضع بيضها داخل لحاء الأشجار، حيث تمتلك هذه الدبابير أداة مكونة من أجزاء متشابكة تنزلق فوق بعضها البعض، لتوفير دقة عالية أثناء الاختراق.

الدور المحوري للإبر المستوحاة من الدبابير

تتكون القسطرة الجديدة من أربعة مكونات متشابكة، الأمر الذي يمكِّنها من الحركة بسلاسة وانسيابية داخل أنسجة المخ. كما أن الألياف الضوئية الممتدة على طول القسطرة، توفر للجراحين رؤية واضحة ودقيقة أثناء العمليات الجراحية، ما يعزز من فرص نجاح التدخل الطبي بأقل قدر من المخاطر. تُدار القسطرة عبر نظام ذكاء اصطناعي متقدم، وهذا يجعلها قادرة على التفاعل مع بيئة الدماغ الحساسة، حيث يمكن للجراحين توجيهها بدقة عالية للوصول إلى المناطق المصابة بأمان دون الإضرار بالخلايا السليمة. هذا التطور يعزز من قدرة الأطباء على تشخيص وعلاج الأمراض العصبية المعقدة بفعالية غير مسبوقة.

ومع استمرار التقدم في مجالات الهندسة الحيوية، أصبح للإبر المستوحاة من الدبابير الطفيلية دور محوري في العمليات الجراحية الدقيقة في الطب الحديث، لا سيما في علاج الجلطات الدموية وإزالة الأورام، أو الأمراض التي تتطلب استهداف مناطق يصعب الوصول إليها داخل الجسم بطرق الجراحة التقليدية.

الدبابير الطفيلية في عالم الزراعة

تنتمي هذه الدبابير إلى رتبة غشائيات الأجنحة التي تشمل النحل والنمل أيضًا، ولكن على عكس هذه الحيوانات، لها أسلوب حياة فريد، إذ لا تقوم هذه الدبابير ببناء أعشاش لها أو رعاية صغارها، بل تعتمد على طريقة غريبة جدًّا لضمان بقاء نسلها. تقوم الإناث منها بحقن بيضها داخل أجسام الحشرات المضيفة، التي تكون في معظم الأحيان من الآفات الزراعية، مثل الذباب واليساريع.

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن الدبابير الطفيلية في عالم الزراعة، جنود مجهولة تعمل على حماية المحاصيل من الحشرات الضارة، ما يجعلها من أقوى الأسلحة الطبيعية في مكافحة الآفات. وعلى الرغم من صغر حجمها، فإن تأثيرها البيئي عظيم للغاية؛ حيث تساعد المزارعين على الحد من استخدام المبيدات الكيميائية، وتحافظ على التوازن البيئي بطريقة طبيعية فعالة.

نظام تكاثر فريد

تتميز الدبابير الطفيلية بأحجامها الصغيرة التي تتراوح بين ١ إلى ١٠ ملليمترات، وأجسامها النحيلة، وأجنحتها الشفافة، بالإضافة إلى “المسرأ” التي هي أداة بيولوجية دقيقة شبيهة بالإبرة، تستخدمها الإناث لوضع بيضها داخل أو على الحشرات المضيفة كما ذكرنا آنفًا. وبعد أن يفقس البيض، تبدأ اليرقات بالتغذي على المضيف من الداخل، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى موت المضيف وتلفه. وعند اكتمال نموها تخرج الدبابير من البيض لتبدأ دورة حياة جديدة، وهذا يجعلها وسيلة طبيعية فعالة في القضاء على الآفات.

(*) كاتب وباحث تركي.

المراجع

(١) https://modernagritec.com/the-hidden-world-of-natural-control-parasitic-wasps-silent-sentinels/

(٢) https://www.eremnews.com/sciences-technology/yw9iunvaqc