هناك فرق شاسع بين من يربي أسرته بطريقة منظمة وبناءة ومن يربي بطريقة عشوائية هدامة.
فالأول يجعل البيت مهيئًا للهدوء وموضعًا للاستجمام ومحلًّا للتلاقي والحب والحوار البناء ويسعى دومًا للتخطيط لبناء أسرته.
والثاني يسير بأسلوب ردود الأفعال، ويتخبط خبط عشواء فيدخل في صراعات، فتعيش الأسرة دومًا في طوارئ لأجل تهدئة الأجواء وإطفاء الحرائق.
فمن يسلك مسلك التربية الناجحة يستطيع الحفاظ على الهدوء في جو الأسرة، فيصبح المنزل استراحة ممتعة وليس حلبة للصراع يهربون منها.
وحتى نتخلص من الصراعات المنزلية والصخب والضوضاء ونصل للهدوء الأسري نحتاج للقيام بعدة عوامل مهمة.
وفي هذا المقال نلقي الضوء على تلك العوامل التي تساعدنا في تحقيق الهدوء المنزلي والتخلص من أسباب التوتر والخلافات وعلاج المشكلات بأسلوب علمي وبنَّاء.
الهدوء الأسري يقوم على عدة أسباب، إذا توفرت صار الهدوء هو سيد الموقف، واستطعنا علاج المشكلات في بدايتها قبل أن تتفاقم وتتحول لأزمات وفي التالي عدد من الوسائل المهمة في ذلك:
إرساء القواعد المنظمة للأسرة
القواعد المنظمة هي المبادئ التي تتفق عليها الأسرة لتنظيم حياتها وللقيام بدورها الفعَّال، وتخفف من الصراعات اليومية، وتلك من أهم ما يرسخ الهدوء المنزلي ويحفظ الأسرة من الصراعات المتكررة.
ومن الأمثلة على تلك القواعد:
– النوم الساعة العاشرة مساءً في الصيف والثامنة مساءً في الشتاء.
– ممنوع تناول الحلويات قبل الغداء.
– ممنوع اللعب قبل المذاكرة وكتابة الواجبات الدراسية.
– مشاهدة التلفاز نصف ساعة يوميًّا.
– اللعب على الهاتف للأولاد نصف ساعة يوميًّا وتزيد للضعف في العطلات وهكذا.
قبل أن نرسي تلك القواعد المنظمة، ينبغي أن نتفق عليها مع أولادنا ونستمع لنقاشهم؛ حتى لا تكون تلك القواعد ظالمة أو مبالغ فيها.
إن مناقشتنا لصغارنا في تلك القواعد قبل الاتفاق عليها يربي لديهم مهارة الحوار والتفاوض وهذه أمور مهمة يجب تعلمها استعدادًا للمستقبل.
إن ترسيخ تلك القواعد لن يكون سهلاً، وسيستغرق جهدًا عظيمًا، لكن ثماره اليانعة تستحق تلك الجهود الجبارة في ترسيخها وسنحمد عقباها.
– المحافظة على تلك القواعد عدة سنوات:
ينبغي أن يعلم الوالدان أن الحفاظ على تلك القواعد المنظمة للأسرة يحتاج عدة سنوات حتى يألفها أولادنا، وسيحاولون مرارًا هدمها وتجاوزها، فلا ينبغي التهاون فيها أبدًا أو نسمح لهم بذلك حتى لا يفتقد البيت الهدوء ويدخل في صراعات.
وينبغي أن نطبق تلك القواعد على الجميع ولا نستثني أحدًا من الصغار، لكن قد يكون هناك استثناء لبعض الظروف، ولكنه لن يكون استثناءً للأبد.
ينبغي للوالدين الصبر على المحافظة على تلك القواعد حتى يعملا على نشر الهدوء بالبيت وتجنيبه للصراعات والمشاحنات، ولا ينبغي الاستسلام لكثرة نقيق صغارنا لتخطيها، بل نصبر من أجل سلامتهم ومن أجل تحقيق الهدوء مستقبلاً في الأسرة.
غلق باب النقاش في وقته المحدد
ينبغي لأولادنا أن يعتادوا منا على غلق باب النقاش في وقته المحدد، وينبغي أن يكون غلق النقاش بعد استنفاذ أولادنا بيان وجهة نظرهم واتضاح صحة رأي الوالدين برفض هذا الأمر الذي يريدونه.
وأن يكون الغلق واضحًا وبعبارة واضحة وأسلوب معبر أيضًا، وأفضل وقت للغلق هو بعد أن يعرض الابن حججه في الموضوع وبعد الاستماع لها جيدًا والتفكير فيها بوقت كاف.
فقد يريد الولد الذهاب للمكث مع صديقه في منزله عدة أيام ونحن نعلم أنه لن يكون معهما أحد من أهل صديقه، فنخشى عليه، فيكون قرارنا الحكيم هو الرفض.
فإذا وضح لنا أن الموضوع لا يصلح فيه الموافقة فلنرفض الموضوع ولنعلن ذلك صراحة: أنا لا أوافق على ذلك، ولن أفتح معك هذا الموضوع.
وبعد ذلك ينشغل الأب بكتاب أو هاتف ولا يتكلم مع الولد مهما حاول جره للنقاش، مما يجعل الابن ييأس من النقاش ويغلق باب الحوار.
مهما حاول الوالد أن يكون لطيفًا، وحافظ على مشاعر ولده ولا يعرضه للإحباط بسبب رفضه، وحاول إقناعه، سيصبح النقاش عقيمًا، وسيطمع الولد في الموافقة.
وقد تكون حججنا مخاوف داخلية لا نستطيع التعبير عنها، وإذا عبرنا عنها صارت حججنا ضعيفة، فإذا بقينا في نقاش معهم وضحت ضعف حججنا وصعب علينا إقناعهم بها، فالغلق المبكر خير كثير.
وفي النهاية سيرفض الأب بعد سلسلة من النقاشات العقيمة، وقد يترتب على ذلك سوء أدب الولد مع والده لسبب طول النقاش وطمع الولد في الموافقة.
ولو أغلق الوالد النقاش من بدايته لانتهى الموضوع ولم يتطاول الولد على والده.
ومن أخطر المصائب التي يرتكبها الوالدان التراجع عن الرفض لكثرة إلحاح الصغار، فهذا يعلمهم أن الإلحاح يثمر، ويجعلهم يعتادون أساليب النقيق والإلحاح المقرفة مما يقضي على الهدوء المنزلي، فإذا قررنا الرفض فلا نتراجع في ذلك أبدًا.
تنفيذ العقوبات الصارمة
لا تستغني الأسرة عن توقيع العقوبات الصارمة على الصغار، فهي صمام أمان للأسرة والأولاد، والعقاب الفعَّال هو الذي ابتعد عن الإيذاء البدني والإهانة اللفظية.
وهناك الكثير من العقوبات المتاحة غير الضرب مثل: المنع من بعض الميزات ومن بعض الأشياء مثل: اللعب أو الخروج من المنزل أو مشاهدة التلفاز أو اللعب على الهاتف.
إن العقوبات إذا نُفذت بطريقة حكيمة وبعد استيفاء التشجيع المتكرر والاهتمام الإيجابي؛ ستقلل من السلوكيات الخاطئة وتعلم الصغار المسؤولية نحو أفعالهم وتجعلهم يفكرون قبل أن يخطؤوا مما يساعد في تعديل سلوكهم.
قاعدة اطلب مرتين
ينبغي أن نعتاد الهدوء في التربية ونبتعد عن التوتر والعصبية ورفع الصوت، فنعلم أولادنا ما نريد منهم، فنطلبه منهم بكل هدوء.
ففي المرة الأولى نقول لهم افعلوا هذا الأمر، مثلاً: (اكتب واجبك قبل الساعة السابعة مساءً)، وفي المرة التالية عندما لا ينفذ نقول له في المرة القادمة إذا لم تكتب واجبك قبل الساعة السابعة مساءً سنحرمك من اللعب على الهاتف نصف الساعة المخصصة لك في اليوم التالي.
وإذا تكرر منه الخطأ في المرة التالية نوقع عليه العقوبة التي اتفقنا عليها بكل هدوء. عندما يكون الخطأ كبيرًا، من الممكن تغليظ العقوبة، بحيث يصبح الحرمان من اللعب على الهاتف خمسة أيام وهكذا.
المهم في اختيار العقوبة المناسبة للطفل هو معرفة نقاط ضعف الطفل، واستخدام تلك النقاط في عقابه، لأن ما يحبه طفل قد لا يحبه آخر.
إن اتباع هذا النهج في التربية يجنبنا رفع الصوت وكثرة الصياح وفقد الأعصاب، ففي المرة الثانية نقول له سنعد حتى الخامسة، وإذا وصلنا للخامسة قبل قيامك بما نريد سنفعل كذا -عقوبة معينة تتناسب مع الخطأ- نفعل هذا بكل هدوء.
أسلوب التشجيع والكلمة الطيبة
ينبغي للوالدين تجنب كثرة النقد والكلمات السلبية، وفي المقابل يكثران من المدح المنضبط والثناء المعتدل وملاحظة السلوكيات الحسنة وشكرهم عليها، والتعليق عليها، وتجاهل السلوكيات السلبية وعدم الانتباه لها.
نشكرهم على تعاونهم ومذاكرتهم وصلاتهم وكلامهم الطيبة ونحو ذلك، ونلاحظ جميع ما يفعلوه من السلوكيات الايجابية ونعلق عليها ليكرروها، ونتجاهل السلوكيات السلبية ولا نعلق عليها حتى لا يكرروها.
وأفضل وقت لشكرهم والتعليق على سلوكياتهم الإيجابية عقب قيامهم بها مباشرة.
وينبغي أن يكون هذا الثناء والاهتمام على قسمين، فيسمى القسم الأول: الحب الشرطي والقسم الثاني: الحب غير الشرطي.
فالحب الشرطي هو أن تمدح الولد على شيء لسبب ما أنت تريده، فتمدحه مثلاً على خطه ليحسنه، أو تثني عليه للمذاكرة حتى يتفوق دراسيًّا.
والحب الغير الشرطي هو أن تمدح سلوكًا ما من غير هدف ما، فيلاحظ أنك تمدحه دون سبب تريده، فتمدحه بالكلمات الطيبة دون سبب تريده وهذا من الأمور المهمة.
وينبغي تكون تلك القسمة بالتساوي، لأن كلا الأمرين مهمين، فالحب الشرطي يعزز السلوك الجيد ويحسن من أداء الطفل ويعرفه ماذا يحب الوالدان منه وماذا يكرهان.
والحب الغير شرطي يجعل الولد يشعر بالأمان، فيحس بالقبول، وأنه محبوب للوالدين، وينبغي تجنب التركيز على الحب الشرطي فقط.
فالتركيز عليه فقط يجعل الولد لا يشعر بالأمان، فيقول في بعض الأوقات العصيبة والدي لا يحبني فقط إلا عند التفوق الدراسي.
العدل بين الأولاد
وهذه من أهم العوامل التربوية المهمة التي تشيع الهدوء في البيت، وتنشر الحب بين الأولاد، وتنزع الحقد من بينهم وتقضي على فتيل الصراع، وتجعل الأولاد يعتادون العدل وتجنب بعضهم طلب المحاباة في بعض الأمور.
ولأهمية العدل بين الأولاد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ» (صحيح البخاري).
يقول ابن القيم رحمه الله: “وَمن الْعجب أَن يُحمل قَوْله اعدلوا بَين أَوْلَادكُم على غير الْوُجُوب وَهُوَ أَمر مُطلق مُؤَكد ثَلَاث مَرَّات، وَقد أخبر الْآمِر بِهِ أَن خِلَافه جور، وَأَنه لَا يصلح، وَأَنه لَيْسَ بِحَق وَمَا بعد الْحق إِلَّا الْبَاطِل، هَذَا وَالْعدْل واجب فِي كل حَال، فَلَو كَانَ الْأَمر بِهِ مُطلقًا لوَجَبَ حمله على الْوُجُوب، فَكيف وَقد اقْترن بِهِ عشرَة أَشْيَاء تؤكد وُجُوبه فتأملها فِي أَلْفَاظ الْقِصَّة” (تحفة المودود في آداب المولود لابن قيم الجوزية).
ولا ينبغي أن يكون العدل فقط في العطية ونحوها من الأمور المادية، بل وفي الأمور المعنوية كالتقبيل والاهتمام والإنصات ونحو ذلك وهذه من خصال الوالد الحكيم الذي لا يسير خلف عواطفه العمياء فقط.
نشر الهدوء في المنزل من الأمور التي ينبغي أن نحرص عليها، عبر وضع القواعد المنظمة للأسرة والحفاظ عليها، وغلق باب النقاش في وقته، وطلب الشيء من الأولاد مرتين، وتنفيذ العقوبات الصارمة، والثناء المعتدل، والعدل بين الأولاد. أصلح الله أسرنا ورزقنا الهدوء والسكينة في بيوتنا.
المراجع:
كتاب موسوعة الأم والطفل، سارا تشانا راد، ط1، مكتبة الأسرة، مصر، عام 2009.