جاء وصف العصر الذهبي للإسلام، للدلالة على مرحلة تاريخية كانت الحضارة الإسلامية فيها متقدمة جدًّا، والتي امتدت من منتصف القرن الثامن حتى القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي، قام فيها العلماء والمهندسون بالمساهمة بشكل واسع في العديد من الحقول، من أهمها الهندسة والمعمار، وذلك بالمحافظة والبقاء على المساهمات السابقة، مع إضافة العديد من الاختراعات والابتكارات، الأمر الذي أوجد ثقافة فريدة من نوعها، أثرت بدورها وكان لها فضل واسع على المجتمعات شرقًا وغربًا وفي كافة القارات.
تطبيقات وحسابات وتنوع
لقد اعتمد المعمار الإسلامي على النواحي التطبيقية لعلم الحيل، وهذا يتضح من خلال تشييد المساجد والمآذن والقباب والقناطر والسدود.. إذ برع المسلمون في تشييد القباب الضخمة ونجحوا في حساباتها المعقدة القائمة على طرق تحليل الإنشاءات القشرية، لأن تلك الإنشاءات المعقدة والمتطورة للعديد من القباب مثل قبة الصخرة ببيت المقدس، وقباب مساجد الأستانة والقاهرة وحلب ودمشق والأندلس، التي تختلف اختلافًا كليًّا في النواحي الكلية عن القباب الرومانية.. كانت تعتمد في أساسها على الرياضيات المعقدة، ما مكن البُناة المسلمين من تشييد المآذن العالية والطويلة، مع اختلافها عن الأبراج الرومانية، حيث إن المئذنة في تلك الحالات قد يصل ارتفاعها إلى سبعين مترًا فوق سطح المسجد، في وقت لم تكن فيه الأجهزة الصوتية، التي توصل خطبة الجمعة أو صوت المقرئ لتلك المسافات البعيدة.. وذلك عن طريق تصميم خاص في جدران المسجد والأعمدة، لنقل الصوت من المنبر وتوزيعه على الساحة كلها.
وأقام المسلمون أيام الحكم العباسي والفاطمي سدودًا ضخمة، وشيدوا القناطر وسواقي المياه في مدينة “حماة”، حيث بهرت العالم بما تحويه من مزايا يصعب تكرارها. وكانت هناك سواقي ببعض البلاد الإسلامية تدار بواسطة الحيوانات لري المزارع والحقول، كما وُجدت السواقي التي تدور بقوة الماء، ما مكنها من رفع المياه لمسافة بلغت نحو عشرة أمتار، ليتدفق الماء في القناة فوق السور، وهي تسير بطريقة الأواني المستطرقة على غرار ما بالسواقي الضخمة أو النواعير المقامة بوضوح على نهر “العاصي” المار بوسط سوريا. وتميزت الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة، ما دامت تلك الفنون لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية. ففي العمارة نجح أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي بتشييد العاصمة العراقية “بغداد” بمنتصف القرن الثاني الهجري على شكل دائري، والذي يعد اتجاهًا جديدًا في بناء المدن الإسلامية.
إن مـعظم المدن الإسلامية -وقتها- كانت تقام بطرائق إما مستطيلة كـ”الفسطاط”، أو مربعة كـ”القاهرة”، أو بيضاوية مثل العاصمة اليمنية “صنعاء”، وكان من أهم أسباب ذلك، أن تلك المدن نشأت بجوار مرتفعات كانت تحول دون استدارتها. ويعدُّ تخطيط مدينة بغداد بطريقة دائرية، ظاهرة جديدة بالفن المعماري الإسلامي، وخاصة بالمدن الأخرى التي شيدها العباسيون، مثل مدينة “سامراء” وما حوته من مساجد وقصور خلافية عالية الفخامة. وظهرت مدن تاريخية في ظل الحكم الإسلامي، مثل البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة والرقة، بجانب مدن أخرى، كالقطائع والقيروان ومراكش وفاس والجزائر والمهدية، وغيرها من المدن.
مدن تتميز بعمرانها
لقد خلَّفت الحضارة الإسلامية مدنًا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية، مثل مدينة إسطنبول التركية بمساجدها، والقاهرة ودمشق بعمائرها الإسلامية المميزة. وكان تخطيط المدن سمة من سمات العمران في ظل الخلافة الإسلامية، التي امتدت من جنوب الصين حتى تخوم جنوب فرنسا عند جبال البرانس. وكانت المدن التاريخية متاحف عمرانية تتسم بالطابع الإسلامي، وهو ما نراه في المدينة المنورة التي وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أساسها العمراني والتخطيطي، حيث جعل مسجده بوسط المدينة، وألحق به بيته، وجعلها قطاعات حدد لها اتساع شوارعها الرئيسية، مع العلم بأن محور المدينة كلها مسجده، وجعل سوقها بقلب مدينته.
ومثلما أقيمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جرى أيضًا تشييد مدينتي الكوفة والفسطاط لتصبح الأخيرة أول بلدة إسلامية بإفريقيا، وأقامها “عمرو بن العاص” رضي الله عنه كمدينة جند، وجعل مسجده بقلبها وبجواره دواوين الجند ودار الإمارة، وكانت أيضًا مدينة القيروان المقامة بشمال إفريقيا. هذا وقد كان للتخطيط العمراني الإسلامي سماته الشرعية، حيث تشق الشوارع في المدينة الإسلامية تحت الريح لمنع التلوث، وتقام الورش خارج المدينة لمنع القلق والضوضاء والصخب. وكانت تُمنح تراخيص البناء بشرط أن يكون المبنى مكونًا من طابق أو طابقين، كما كانت الأسواق مسقوفة لمنع تأثير الشمس، ولكل سوق مراقِب يعرف بـ”المحتسب”، وهو الشخص المُتولي مراقبة البيع والأسعار وجودة البضائع، والتفتيش على المصانع، للتأكد من عدم غش السلع أو رداءة الإنتاج.
اختلاف النمط في العمران
انتشرت إقامة المساجد بكل أنحاء دول العالم ليُرفع من فوق مآذنها الأذان للصلاة. وتنوعت المساجد في عمارتها وفق طراز العمران بالدول التي دخلت الإسلام، لكنها كلها كانت موحدة في الإطار العام، وبالأخص في اتجاه محاريب القبلة بها، لتكون تجاه القبلة (الكعبة المشرفة)، وفي كل مسجد يوجد المنبر لإلقاء خطبة الجمعة.. وفي بعض المساجد توجد أماكن معزولة مخصصة للسيدات للصلاة، ولكل مسجد مئذنة واحدة أو أكثر ليرفع المؤذن منها الأذان. والمآذن أيضًا تنوعت بطرازها، وإن بعض المساجد يعلو سقفها قبة متنوعة في طرازها المعماري. ونجد في المساجد كذلك المحاريب، وهي عبارة عن علامة دلالية لتعيين اتجاه القبلة، وتلك العلامة على هيئة مسطح أو غائر مجوف أو بارز.
واستعمل المسلمون محاريب مجوفة ذات مسقط متعامد الأضلاع أو مسقط نصف دائري، وقد اختيرت الهيئة المجوفـة للمحراب لغرضين رئيسيين؛ أولهما تعيين اتجاه القبلة، وآخرهما توظيف التجويف لتضخيم صوت الإمام في الصلاة ليبلغ من خلفه في الصفوف. وكانت تجاويف المحاريب تبطَّن وتُكسا بمواد شديدة التنـوع، مثل الجص (الجبس) والرخام والشرائط المزخرفة بالفسيفساء أو المرمر.. وفي كلٍّ من مصر والشام شيد المماليكُ المحاريبَ الرخامية، التي تعدُّ من أهم المحاريب الرخامية وأكثرها إبداعًا، حيث تنتهي تجويفة المحراب بطاقية على شكل نصف قبـة، مكسوة بأشرطة رخامية متعددة الألوان.
استخدام البلاط الخزفي
ظهرت براعة الفنانين المسلمين باستخدام مختلف أنواع البلاط الخزفي لتغشية المحاريب، أما الخزافون في الشرق فقاموا باستخدام بلاط الخزف ذي البريق المعدني، والخزف الملون بالأزرق الفيروزي. وقد حفلت المحاريب بالكتابات النسخية التي تضم آيات من القرآن الكريم، بجانب الزخارف النباتية المميزة بالتوريق والأرابيسك، واستخدمت فيها المقرنصات الخزفية لتزيين طواقي المحاريب.
وجرت العادة وضع المحراب بمنتصف جدار القبلة، ليكون محور توزيع فتحات النوافذ على جانبيه بالتوازن. والمئذنة الملحقة ببنايات المساجد كان لها أيضًا سماتها المعمارية. وهناك أسماء تاريخية للكثير من كبار المهندسين، منقوشة على المنشآت الفخمة؛ فنجد منهم “ثابت بن ثابت” مهندس قصر الحير بسوريا في القرن الثامن الميلادي، وهناك أيضًا “علي بن جعفر” مهندس قصر الزهراء بقرطبة، والمهندس “فتح الدين” الذي أنشأ جامع “الزيتونة” عام ٨٠٤م، وآخرون.
قاعات البيت العربي
كانت الخيام هي المسكن الرئيسي لعرب الجاهلية، وكانت بيوتهم تتسم بالبساطة والبدائية.. ومع اتساع الفتوحات والاستقرار والرخاء، بدأ المسلمون ببناء القصور الفاخرة، وأصبح للبيت العربي عمارته المميزة وأقسامه الثابتة، وذلك على الرغم من اختلاف العصور والبلدان. وكان البيت العربي مقسَّمًا على ثلاثة أقسام رئيسية؛ فهناك الجزء الخارجي ويسمي “الحواصل” وفيه مركز الحرس والسائس والخيل والعربات، وهناك القسم الثاني وهو “الأوسط” وكان يتضمن القاعات المهمة للاستقبال والجلوس والطعام، وأمَّا القسم الثالث والأخير فكان فيه غرف النوم وقاعات لإقامة النساء، علمًا بأن الجزء الأعظم من البيوت العربية، كان بواجهات صماء خالية من النوافذ الخارجية، بحيث لا يتضح للناظر روعة العمارة والزخرفة إلا بعد أن يدخل صحن البيت، وتواجهه ساحة مفتوحة للسماء تتوسطها “فسقية” كبيرة، يتدفق إليها الماء من نوافير على أشكال حيوانية. وتحيط بالبركة العديد من أنواع الأشجار المنتجة وغيرها، وتحيط هذه الساحة غرف البيت من كل جانب، وهي مكونة من طابقين أو ثلاثة، كما ترتفع جدران الغرفة أكثر من خمسة أمتار. وإن الغرف تطل على الساحة عبر مشربيات من الخشب المزخرف المُطعم بالعاج، ولها نوافذ تسمى بالشمسيات والقمريات.
وبلغ عدد الغرف ببعض قصور بني أمية ما يزيد على ثلاثمائة غرفة، وأهم غرف القصر هو “الإيوان” الأكثر ارتفاعًا من الغرفة العادية، وفي سقفه قبة دائرية. علمًا بأن كل قصر يشتمل على قاعات شتوية في الناحية القبلية، تدخلها أشعة الشمس، وتدفأ ليلاً بالفحم. وفيه كذلك قاعات صيفية في الجهة الشمالية تبرد بملاقف الهواء أو بالنوافير. وكانت توجد بتلك القصور ملاعب وساحات ومخازن واسعة تسمى “الخزائن”؛ منها خزائن الكتب وكان عددها في قصور الفاطميين يبلغ أربعين غرفة، ثم خزائن الكسوات الصيفية، وخزائن الجواهر والطيب، ثم خزائن الأدوية.
المعماريون يدرسون كالأطباء
على غرار الأطباء كان المعماريون العرب؛ حيث كانوا يدرسون بالجامعات، مثل جامعة “بيت الحكمة” التي أنشئت ببغداد عام ٨٣٠م. أما مواد الدراسة فهي تشمل الرياضيات والحساب والجبر وعلم الحيل (الميكانيكا) والرسم، إلى جانب العمارة والهندسة، فضلاً عن العلوم الطبيعية مثل الفلك والطبيعة، والعلوم النظرية مثل الدين والحكمة، فكان منهم العلماء والفلاسفة. وظهر هذا الإلمام الشامل بالعلم في الأثر الواضح بالمباني والآثار الخالدة، التي طبقوا فيها الكثير من العلوم مثل الصوت والضوء والتهوية.
وكان المعماري يضع تصميمه للمبنى على لوحة من الجلد، وبعد اكتشاف الورق استعملوا ورقًا هندسيًّا عليه مربعات.. كانت القصور تزخر بالفن المعماري والزخارف الإسلامية التي تُنقش على الأرض والحوائط والسقوف والمحلات.. وكانت الآيات القرآنية تزين جدران البيت من الداخل والخارج، وأغلبها تذكر التواضعَ أمام الخالق سبحانه، والشكر على نعمه.. وكان المعماري المسلم يسمى بالمهندس أو الحاسب، أما رئيس المعماريين فيلقب بالأستاذ أو الشيخ أو المعلم، للدلالة على مدى تقديره واحترامه من كافة الطوائف.
ابتكارات في عمارة الحصون
إن “قصر الحمراء” بغرناطة الذي بني في القرن التاسع الميلادي، ظل صامدًا حتى عصرنا هذا، على الرغم من تعرض المنطقة لعدة زلازل دمرت كل ما حوله من بيوت ومبان، ولكن القصر بقي قائمًا. فقامت إسبانيا حديثًا بتشكيل لجنة علمية لدراسة تلك الظاهرة؛ فاكتشفوا أن بعض أعمدة القصر مفرغة من الداخل، وفيها قوالب من الرصاص الذي يصب منصهرًا، وأن هذا التصميم الهندسي يمتاز بامتصاص الصدمات العنيفة، أما حوائط القصر فصنعت بنوعين من الحجارة على التوالي، ووضعت الحجارة الحمراء مع الحجر الرملي العادي، وهذا التصميم يدعم الجدران أمام الاهتزازات.
كما أدخل العلماء المسلمون ابتكارات مختلفة في عمارة الحصون، منها الممرات المسقوفة لتقلل إصابات الجنود أثناء تنقلهم، ومنها “المزاغل” البارزة التي تمكِّن من الحركة الجانبية مثل أبراج السور، ومنها نوع من الشرفات أو المشربيات الحجرية، التي يمكن من خلال الثقوب فيها، صب الزيت أو القطران على جنود العدو.. كما تفننوا في تحصين أبراج القلاع بخوذ من الصخور الضخمة لمقاومة قذائف المنجنيق. ولقد نقل ملوك أوروبا الكثير من هذه الأفكار لبلادهم أثناء الحروب الصليبية.. ويميل مؤرخو الغرب عند تقييمهم الحضارات القديمة، إلى اتخاذ الآثار المعمارية كمقياس للتفوق الحضاري، وتتمثل هذه العمارة بالقلاع والحصون الضخمة، وتماثيل الملوك والمقابر الفاخرة، والقصور الزاهية، والنقوش والزخارف.
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(١) عبقرية الحضارة العربية، تعريب: عبد الكريم محفوظ، منشورات وزارة الثقافة (دمشق) ١٩٨٢م.
(٢) الفن والزخرفة في الإسلام، سليمان حسن، مجلة الوعي الإسلامي، العدد:٥٣٢، أغسطس ٢٠١٠م.
(٣) التمثيل والإبداع في العمارة الإسلامية، بركات محمد مراد، مجلة حراء، العدد:٣٥، مارس – أبريل ٢٠١٣م.
(٤) فضل المسلمين على أوروبا في النهضة العلمية الحديثة، أحمد شوقي الفنجري، جريدة الحياة، العدد:١٣٤٨٩، ١٥/٢/٢٠٠٠م.