التفاؤل والطمأنينة في القرآن الكريم

حينما قرأت القرآن الشريف صباح يومي العبوس وقع نظري على آيات تحمل في نبضها كيمياء التفاؤل وتوحي إلى منهج وسيم قام بتطبيقه ربنا الذي أحسن كل شيء خلقه “فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا, فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا, وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا” هذه آيات تشرح فنًّا صبيحًا يتناغم مع الحياة، وتنادي القارئ إلى مبدأ فخور بالمعاني وذلك لأن المحاط بالله آمن.

عذراء بني إسرائيل سيدتنا مريم عليها الصلاة والسلام أدركت أن لها ربًّا يطعمها ويسقيها وإذا مرضت فهو يشفيها رغم أنها عانت من عديد الصعاب حتى قالت “يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا”  وكانت لها ميزة خلدتها في ذاكرة التاريخ وأعلى بها الله  شأنها، وبيَّن براءتها  وجعلها مثالاً يحتذى به, هو اليقين بالله المتواصل الذي يجعلها تقول قولاً ثابتًا: “من عند الله”  عندما سأل زكريا عليه السلام وقد وجد عندها رزقًا يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا وهي ملكت فلسفة استثنائية تمكنها تطوف حول ربها العظيم، وتأوي إلى كهف محاط بالأمن والسلوان فنشر لها ربّها رحمته وهيّئ لها من أمرها مرفقًا.

هذه سنة لله في عباده اقتضت أن تتولد الآمال مع اشتداد النوازل وإعداد رباني لخليفته في الأرض جعله يسير فيها ليالي وأيامًا غير آمن بل الله معه يحفظه من كل بلاء ومصيبة ويظله من كل حرارات المعيشة ويجعل له من كل ضيق مخرجًا، إن القرآن يعين نهجًا قيمًا للحياة السعيدة يبعث طاقة إيجابية في حياة البشر تمنحهم الأمل وتبعد عنهم فكرة التشاؤم، بل لا يأخذه إلا من كان قلبه مطمئنًّا بالإيمان.

التفاؤل في القرآن

إن القرآن ليس هو حفنة الحروف بل هو بحذافيره معرض يحضن فيه جميل الأفكار وعظيم المبادئ على نحو يفوق الخيال، يلوح في أفقنا بجمالياته الساحرة مثل الأسلوب والمعنى والشمولية. هناك روعة بالغة من حيث إنه لا يغادر ما يطلع عليه الإنسان ويعانيه من حالة نفسية وقضية اجتماعية وسلوكية، إنه يتناول سياسة الحياة التي بما فيها من الصبر والأمل والتفاؤل، يمكننا العثور على العديد من الآيات التي تسطر حروفًا من الأمل والتفاؤل.

إن مع العسر يسرًا هاتان سجيتان فطريتان لهما دور بارز في معترك الحياة الإنسانية. لا تعتدل ولا تستقيم الحياة إلا بالجمع بينهما بشكل متوازن.. إن الآية تحمل بين جنباتها فلسفة سلوكية ناجحة وبشارة عظيمة، ومن ضاقت به الأرض وانطفأ بريق شمعة أمله يقارنه اليسر في طيات العسر، جميل ما فسره الشيخ الشعراوي في تفسير هذه الآية (تعريف العسر في الآية يدل على أنه واحد وتنكير اليسر يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين. وفي تعريفه بالألف واللام الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر -وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ- فإنه في آخره التيسير ملازم له).

وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ألم تكفيك يا ترى، إن الله يضمن لك أن يعطيك عطاء أعظم مما يدور في الخيال، فيمتعك بنعمه العليا ثم ترضى رضًا لا جفاء بعده، ومن أجَلّ ما يعطى العبد هو الرضا “ورضوان من الله أكبر” قال الإمام البيضاوي في تفسيره العظيم في معنى هذه الآية “وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه”

لا تحزن إن الله معنا نقرأ هذه الآية بعين القلب فتنير عتمة المسافات وتضيئ دياجير الحياة، يا لها من إحساس رائع يغشى قلوبنا ويمس مشاعرنا قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصديق وقد أحاط بهم الكفار، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: نَظَرت إِلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤُوسِنا، فقلت: يا رسول الله، لَو أنَّ أحَدَهم نظر تحت قدَمَيه لأَبصَرَنا، فقال: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكرٍ بِاثنَينِ الله ثَالِثُهُمَا».

الطمأنينة في القرآن

قال لا تخافا إني معكما أسمع وأرى من أعظم آيات الطمأنينة والسلوان، تنعكس فيها آثار المحبة الخالصة وترتدي لغة الاكتراث والعناية وتجعلك تتخيل أنه جليس فؤادك الذي يكون معك ظلًّا ظليلاً وتشاطره كل ما يدور بخلدك يفهمك وينصحك ويعاتبك ويكافئك ويساعدك ويواسيك، يقول الله تعالى هذا القول الكريم إخبارًا عن موسى وهارون عليهما السلام: أنّهما قالا مستجيرين باللّه تعالى شاكين إليه {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}.

إن القرآن طوى بداخله آيات تنير القلوب العاتبة، وتغرقها اشتياقًا وإيناسًا وتجعلها تحلِّق فوق السماء وإن كانت مظلمة وتمطر قطرات أمل على ضفاف خواطرها الصامتة تصاحبها زوارق الرجاء ولا تزال تبقي لفيفًا من المشاعر الصادقة التي تلوح في جبهتها قطرات فأل تعيد الحياة من جديد، وتفتح ألف درب للمسير إلى الله ومحبته، ومما لا يختلف فيه اثنان إنه أعظم العلاج لطرد الحزن والخوف لأنه هو الذي يورث المحبة والشوق، والأمل والرجاء، والإنابة والتوكل، وسائر الأحوال التي بها القلب يحيى وينبض.