الحديد كالماء بدونه يموت الإنسان أو يعتل وينقرض، بل إنه لولا الحديد لما امتلك الإنسان التقنيات ولأصبح طعامًا سهلاً للوحوش ولأضحى من الضعف والهوان، بحيث إن التاريخ يسجل الآن صعود الإنسان للفضاء الكوني وغوصه في أغوار أعماق البحار والمحيطات نتيجة امتلاكه للحديد والفولاذ الذي طوعه فأطاعه تشكيلًا ثم أوصلــه لحامًا مستجيبًا، وخلط سبائكه مع سبائك النحاس فأعطت سبيكة منيعة في خواصها معمرة في عمرها كما أسهمت الفكرة الجديدة في اختراع سبيكة الحديد والنيكل الصناعية بعد أن كان النيكل مادة مهملة، ولكن دخول هذا المعدن مع الحديد في معدن مزدوج، جعله معدن غير قابل للصدأ.
تعني كتب العلوم والتاريخ برصد علاقة الإنسان بالمعادن، منذ بدأت علاقة الإنسان بصهر الحديد ويقال إن قدماء المصريين.. أول من عرف معدن الحديد وأطلقوا عليه اسم “بيا آن بيت” وتعني (معدن السماء) ذلك لأن المصريين اكتشفوه بصورة نقية في بقايا النيازك التي تخترق الغلاف الجوي، حيث تؤكد الحقائق الثابتة أن كمية النيازك التي تسقط على الأرض وأحجامها كبيرة جدًّا بما يصل في بعض الأحيان إلى نحو ألف طن يوميًّا، وهي مادة على صورة غبار كوني دقيق يعرف في المراجع بأنه غبار نيزكي، وغالبًا ما يكون دقيقًا بحيث لا يكاد تتم رؤيته بالعين المجردة ومتوسط هذه الكمية من الحديد يمثل 28% في صورة نقية تمامًا أو على هيئة معادن السليكات وأن ما تستقبله الأرض من الحديد يبلغ ما بين 28 و280 طنًّا يوميًّا.
وقد لعبت هذه النيازك دورًا مهمًّا في ثقافة المصري القديم واعتبرها رسائل من الآهلة لها مدلولات مقدسة، فكان لا يهتم إلا بحديد النيازك كوسيلة لصناعة استخداماته المختلفة.
وقد أسهمت النيازك بصورة كبيرة في تطور الفكر العلمي حيث إن تركيبها مكون من ثلاثة أقسام رئيسية منها: الحديد والأحجار والنيكل، وكشفت فرضية أن باطن الأرض من نفس تركيبها وأنه يتكون من سبيكة الحديد والنيكل بعد أن كان يسود الاعتقاد بأن الأرض كرة هائلة من صخور الجرانيت في كل طبقاتها من باطنها إلى سطحها.
إلا أن استخدام الحديد يعود إلى بدء الخليقة منذ آدم عليه السلام وإعماره الأرض حيث كانوا يستعملون الحديد في أعمال الصيد ونحت منازل الإيواء في جنبات الكهوف وفي أغوار بطون الجبال وعمل وسائل الدفاع والهجوم من حراب ونبل وسهام أي منذ أقاصي التاريخ ومنذ أن خلق الله الإنسان وجعل له عمارة الأرض وزراعتها وتربية وصيد الحيوانات فهي جميعها كانت بدائية في بداية عهد الخلق.
حيث نجد الإنسان قام بتصنيع رؤوس الحراب والسكاكين وكذا تصنيع معدات تشكيل وتقطيع الصخور، وهي جميعها أدوات كانت ضرورية لحياة الإنسان والدفاع عن تواصل وجوده، فالبقاء للأصلح، هي عقيدة الفناء واستحلال القتل واستباحة الأعراض فهي كلها مسائل يتم فيها استخدام أدوات من الحديد التي يمكن للإنسان بها أن يدرأ عن نفسه تبعات أي هجوم دفاعًا عن نفسه وعن وطنه وعن عرضه باستخدام الأسلحة التي يتم تصنيعها من الحديد.
وقد كشفت فتوحات الإنسان في الفضاء بعد ذلك وجود معدن الحديد النقي في صخور القمر إضافة للألومنيوم والزنك والنيكل، ونالت حبيبات الحديد اهتمام العلماء وكشفت الأبحاث أن الحديد القادم من القمر لا يتغير ولا يصدأ حتى بعد تعرضه للعوامل الأرضية، ونظرًا لأن جو القمر لا يحتوي على الرطوبة والأكسجين مثلما في الأرض لذا كان من المتوقع أن معادن القمر -خاصة الحديد- لا بد وأن تتأثر بعوامل الجو الأرضي، ولكن الذي أذهل العلماء هو أن حديد القمر لم يتأثر بعوامل الأكسدة وظل على نقائه دون أن تظهر عليه أعراض الصدأ، بل أظهر مقاومة أشد من الصلب والسبائك الصناعية المعروفة.
حديد القمر لا يصدأ
كان من نتيجة الدراسات التي قام بها العلماء أنهم توصلوا إلى أن حديد القمر تعرض لما يعرف باسم الرياح الشمسية وهي مادة تتكون من بروتونات وإلكترونات تندفع من الشمس مؤثرة على الأجسام التي ترتطم بهم وفي نفس الوقت فإن الأرض لا تتعرض لهذه الرياح لوجود الغلاف الجوي الذي يحيطها، وعندما تصطدم الرياح الشمسية وما بها من البروتونات تجعله ينطلق في الفضاء، لذا فإن الحديد الذي تم نزع الأكسجين منه لا يتأثر بعوامل الأكسدة سواء على سطح القمر أو الأرض.
وعلى هذا أجرى العلماء تجربة مشابهة لما يحدث في الكون فنقشوا على طبق مصنوع من الاستانلس كلمة القمر وتم تعريض الكتابة فقط لسطح من الإشعاع الأيوني ثم تعرض السطح كله لبخار الماء الملكي وهو خليط من حمض الهيدروكلوريك والنيتريك، وحدث الشيء المذهل إذ غطى الصدأ سطح الطبق كله فيما عدا كلمة القمر التي تعرضت لسيل من الأيونات، وبهذا تكون نظرية عدم صدأ حديد القمر قد تم إثباتها، ومنها تعلم العلماء كيفية إنتاج مادة جديدة لا تقبل الصدأ.
إن الخواص التي تتحلى بها سبائك الحديد جعلت كافة المنشآت الهندسية التي يتم تصميمها لمقاومة الزلازل يتم تطبيق سبائك الحديد فيها نظرًا لما تتمتع به هذه السبائك من مقدرة فائقة على مقاومة الشروخ الانهيارية التي تصاحب الموجة الزلزالية، كما وأن من المعروف هندسيًّا أنه في حالة التحميل الزائد عن حد الخضوع لهذه السبائك يجعلها تعطي إنذارًا قبل حدوث الكسر اللدن ومن ثم فإن هذه السبائك تتمتع بمقدرة كبيرة على مقاومة الأحمال الفجائية عند درجات حرارة الجو العادية.
أما في حالة الجو البارد فقد تتحول جزيئات السبيكة وتفقد ليونتها وصلابتها وتتحول إلى مادة هاشة وحتى يحدث الكسر الهش فإننا نسمع قبل انتشار الهشاشة في المنشأ إلى صوت يشبه الانفجار ثم تنفصل المادة بعده إلى أكثر من شطر محدثة كسرًا حُبيبيًّا في مقطع الكسر، بينما في حالة الكسر المرن فإن الليونة والزيادة في الطول ونقص مساحة المقطع تؤدي مجتمعة إلى حدوث المرونة بما يجعل المادة تتحمل مزيدًا من الأحمال المتكررة نتيجة حدوث ظاهرة لا نراها سوى في سبائك الحديد، وعرفها العلماء بظاهرة الجهد الانفعالي للالتواء ،وهي ظاهرة إن حدثت تؤدي إلى زيادة صلادة المعدن وتقلل مقاومة سطحه.
إن السبائك الحديدية تنقسم إلى أنواع كثيرة بحسب نسب عناصر السبيكة ومكوناتها الكيميائية من ناحية وبحسب درجاتها الفلزية وخواصها الميكانيكية وتلك الحرارية ومن ثم تتعدد فوائد ومنافع الحديد وتتعدد استخداماته واستعمالاته من دون حدود، وهي سبائك تبدأ من سبائك الحديد الزهر وتصل إلى سبائك الصلب الفولاذية المتينة ذات المناعة ضد حدوث الكسور والانهيار.
يدعي شيخ المؤرخين هيرودوت أن صخور الجرانيت التي استعملت في بناء الهرم الأكبر بالجيزة قد شكلت بآلات ومعدات حديدية، أما الصخور الأكثر صلابة فقد شكلت بآلات ومعدات من البرونز المقوى بالسيليكا، ولكن كيف تم تشكيل هذه المعدات؟ وما هو مصدر الحديد الذي استخدم فيها؟ لا يجيب هيرودوت عن هذين السؤالين، ولا يقدم علم الآثار دليلاً على صحة ما زعمه هيرودوت! وإذا اتفقنا مع دعوى شيخ المؤرخين فإن هناك ما يدعو إلى ترجيح كفة الأصل السماوي للحديد الذي استخدم في تصنيع هذه المعدات.
رائد فن الدروع
إن النقوش التي تنتمى إلى هذه الفترة، في أماكن كثيرة من العالم، بدأت تحتوي لأول مرة على أوصاف لمعدات وآلات حديدية، حيث أخذ الحديد مكانته في الاستعمال الصناعي والزراعي، ويدل على ذلك وجود مجموعات من القضبان الحديدية، بما يوازي 176 طنًّا من الحديد، في مخزن عثر عليه علماء الآثار بين أطلال قصر (سارجون الثاني) الذي يعود إلى نحو 705 – 722 ق.م. في (خور سابار) بالهند.
ويؤكد (زيمر) على أن الحديد لم يختزل من خاماته قبل تلك الفترة، وحجته في ذلك هي وجود أمم كثيرة ومتجاورة كان الحديد فيها نادرًا، ويشار إليه كمعدن ثمين، قد كانت قيمة الحديد عند البابليين ـ مثلاً ـ تزيد على قيمة النحاس بنحو عشرين ضعفًا على الأقل، وهذا يعني أن هذه الأمم لم تكن تعلم عن فن اختزال الحديد شيئًا مذكورًا، ولو كانت تعلم لتزايد إنتاج الحديد في هذه البلدان واستمر هذا الإنتاج في الزيادة، ولانتشرت هذه الصناعة هنا وهناك.
لقد ناقش علماء الآثار موضوع اختزال الحديد في الأمم القديمة، فيقول (ريكارد) “إن هذا الفن لم يكتشف في مصر أو العراق أو فلسطين، ولكن من الموثوق به أن أول مكان صنع فيه الحديد كان تلك البقعة الجبلية القريبة من البحر الأسود”. وربما كانت هذه البقعة هي التي بنى فيها ذو القرنين سده الحديدي، ومما يدعم هذا الرأي ما ذكره الجغرافيون العرب عن بلاد يأجوج ومأجوج، فقد ذكروا أنها تقع في الشمال من بحر الخزر (قزوين).
وعلى هذا فالعلم الذي آتاه الله لنبيه داود هو علم وفن صناعة الدروع الحديدية، وليس علم اختزال الحديد من خاماته الطبيعية. ولا ينقص هذا من قدر ذلك النبي العظيم، بل على النقيض من ذلك فإن الفن الذي علَّمه الله إياه كان ذا خدمة كبيرة للبشرية وبخاصة في ساحات القتال، وقد أحسن اليهود فن صناعة الدروع عبر الزمان وإن كانوا قد توسعوا في هذه الصناعة، بحيث أصبحوا لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر حديدية (كخط بارليف!).
هكذا استطاع الإنسان أن يحوز الدنيا وأن يمتلك سبل الدفاع والمبادرة بامتلاكه مصانع إنتاج الحديد والصلب وهي من الصناعات الثقيلة التي لا تخلو أمة قوية كانت أم ضعيفة، متقدمة كانت أم متخلفة بامتلاك سبل تصنيع الحديد والصلب فإنها صناعة استراتيجية تدخل في كافة الاستخدامات الآدمية من وسائل النقل مرورَا بتقنيات البحث والتنقيب وكافة مناحي ومتطلبات الحياة، وباختصار شديد لولا اكتشاف الإنسان للحديد لما استطاع أن يحيا ويعمر الأرض.