العينان هبة الله ونافذتا الإنسان على هذا العالم. وهما مرايا للروح والنفس والوجدان والحالة النفسية، هما نافذتان صادقتان تعكسان ما يجري في الداخل، كما تلمسان ما يجري في الخارج.
ذكرت لفظة العين في القرآن الكريم 65 مرة. على أنحاء مختلفة ومفاهيم متعددة: وقرة العين هي أبرز المعاني وتطلق على الأبناء الأعزاء: “قرة عين لي ولك” (القصص: 9) وعلى السعادة والطمأنينة: “فكلي واشربي وقري عينًا” (مريم: 26) وترد بمفهوم المصابرة والثبات: “ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا” (الكهف: 24) وترد بمفهوم الخوف: “تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت” (الأحزاب: 19). وعن بياض العين من الحزن كما في قصة يوسف عليه السلام: “وابيضت عيناه من الحزن” (يوسف: 84) وترد في مجال الدعوة إلى القصد: “ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا” (الكهف: 24) وقوله تعالى: “لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ” (الحجر: 88) وترد بمعنى البصيرة: “الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري” (الكهف: 101) وفي مجال الوعيد: “لو نشاء لطمسنا على أعينهم” (يس: 66) وفي مجال القصاص: “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين” (المائدة: 45) وفي الإشارة إلى السحر والسحرة في قصة موسى عليه السلام: “فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم” (الأعراف: 116) وفي دعوة النبي إلى الثبات: “واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا” (الطور: 48).
وفي الحديث الشريف روى أنس قول النبي صلي الله عليه وسلم: “عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله”.
وفي كتب اللغة: العين مصدر، والباصرة تطلق على الحدقة، وقد تطلق على مجموع الجفن.
وتسمّى العين أو ما دار بها محجر بفتح الميم أو كسرها، وقد تطلق عليها كلمة مقلة، وهي شحمة العين أو السواد والبياض منها، فتتكون للعين ذاتها. وإنسان العين ما يُرى في سوادها أو سوادِها نفسه، واللَّحْظ باطن العين، أو النظر بمؤخرّتها، ويتبع المحجرَ الجفن، وهو غطاء من أعلى إلى أسفل، ويُسمّى رَمْشًا، أمّا الرَّمش فهو تَفتّل في أصول شعر الجفن، والهُدْب أو الهُدُب فهو شعر أشفار العين، ويكون جماله في وَطفه: أي طول أشفاره وتمامها.
وتحدثت كتب الأدب وتحدثت كتب العلوم عن لغة العيون، وخداع العيون، واختلاج العين، وبريق العيون في الظلام، واختلاف لون العيون. وتحدث الأدباء والشعراء عن عين الرضا وعين السخط. أما التراث الطبي العربي فله حديث خاص عن العيون.
ريادة العرب في مجال طب العيون (الكحالة)
تقدم العرب كثيرًا بهذا الفرع من الطب، وتخصص فيه وحده أطباء عرفوا باسم (الكحالين) ونجحوا في إجراء جراحة إزالة المياه الزرقاء عن طريق شفط العدسة المعتمة بأنبوبة رفيعة. وفي عام 400 هـ / 1010م، ظهر كتابان عربيان هامان في مجال طب العيون:
– أولهما: كتاب (تذكرة الكحالين)، لعلي بن عيسى الكحال البغدادي، وهذا الكتاب هو الكتاب المدرسي الذي أصبح قانونًا للكحالين العرب. والذي اعتبر خطوة متقدمة جدًّا إذا قورن بكتب الكحل التي ظهرت في القرن التاسع الميلادي – كتب يوحنا بن ماسويه وحنين بن اسحاق- ذلك أن الكتب الأخرى التي ظهرت في القرن العاشر لم تصل إلينا، بينما وصلت الأبواب المتعلقة بطب العيون من بعض أمهات كتب الطب العامة. وهذه الأبواب لا ترقى في مستواها ولا في اتساعها إلى مستوى هذا الكتاب الذي كتبه علي بن عيسى. ومن هنا اعتبر علي بن عيسى المؤسس الحقيقي لهذا الاختصاص الطبي عند العرب.
– وثانيهما: كتاب المنتخب في علم العين، الذي كتبه عمار بن علي الموصلي، والذي جاء حافلاً بالإبداع والمساهمات الشخصية.
أما الكتب التي ظهرت في القرن الثالث عشر والتي اتسمت بالاتساع فهي خمسة نذكرها حسب تسلسل ظهورها:
1 ـ نهاية الأفكار ونزهة الأبصار: لعبد الله بن قاسم الحريري الإشبيلي.
2 ـ الكافي في الكحل: لخليفة بن أبي المحاسن الحلبي.
3 ـ المهذب في الكحل: لابن النفيس.
4 ـ كشف الرين في أحوال العين: لابن الأكفاني.
5 ـ نور العيون وجامع الفنون: لصلاح الدين بن يوسف الكحال الحموي.
كما ألف الطبيب ابن روح محمد الجرجاني رسالتين: اليد الذهبية ونور العيون، وهما رسالتان في طب العيون.
كما تطرق الطبيب العربي محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري إلى موضوع العين وعلاجها وأدويتها عند العرب آنذاك في كتابه غنية اللبيب عند غيبة الطبيب. وأما الطبيب نجيب الدين محمد بن علي بن عمر السمرقندي فإنه تحدث عن مكونات دواء العين في كتابه أصول تركيب الأدوية.
ومن أول العلماء العرب الذين كتبوا في مجال طب العيون هو علي بن عيسى في كتابه تذكرة الكحالين، والذي يعرف أيضًا باسم: التذكرة في طب العيون، وهو أحد أعظم أطباء العيون في التاريخ. انتقل بكتب التدريس إلى أسلوب جديد في التصنيف متجاوزًا الأقدمين.
سار على منهج علمي صارم، مهتديًا بالتقسيم التشريحي للعين، فبدأ بأمراض الأجفان، ثم بأمراض جهاز الدمع، ثم بأمراض الملتحمة، ثم ينتقل إلى أمراض القرنية فأمراض القزحية وهكذا. بينما كان المؤلفون قبل عصره يتحدثون عن أمراض العين جملة واحدة دون تصنيفها حسب الأعضاء.
ويعتبر هذا الكتاب حتى اليوم قطعة فريدة بين كتب التدريس من حيث أصالته وسبقه ودقته ومنهجيته وأسلوبه. لذلك فلا نعجب إذا عرفنا أن طلاب الطب انصرفوا عن الكتب الأخرى ما عداه. وظل مرجعًا للدارسين على مدى ثمانمائة عام، كما أن الأطباء اعتمدوا عليه.
وهذا الكتاب إذا قورن بكتب حنين يعتبر خطوة هائلة إلى الأمام. ولا تعرف البشرية خلال القرون الثمانية التي تلت صدوره كتابًا يعادله في القيمة.
وقد أطلق علي بن عيسى على كتابه اسم تذكرة الكحالين، ووصفه الباحثون بأنه كتاب منهجي لطبيب مجرِّب مارس المعالجة والجراحة.
كما أن الكتاب يعتبر بحق الكتاب التعليمي الكلاسيكي عند العرب في طب العيون.
وقد أعيد اكتشاف هذا الكتاب من قبل مؤرخي الطب في العصر الحديث. ودرس بنصه الأصلي أي بالعربية. ثم ترجم إلى كثير من اللغات الأوروبية. وكذلك ترجم جزء من الكتاب ثانية إلى اللاتينية في سنة 1845م.
وعلي بن عيسى في كتابه تذكرة الكحالين مؤلف من الدرجة الأولى. عرف كتب الأقدمين واستفاد منها، وكتب للطلبة فأجاد الكتابة، إضافة إلى كونه طبيبًا من الدرجة الأولى.
شرح في الكتاب130 مرضًا من أمراض العيون، ووصف لها 143 نوعًا من الدواء، وفيه كان علي بن عيسي أول من أدرك العلاقة بين مرض الرمد الحبيبي (التراكوما) وحالات التهاب الملتحمة الحادة التي تستبقه، كما أدرك العلاقة بين حالة (السبل) وحالة (انقلاب الشعر) التي تعقبه.
وكتاب علي بن عيسى (تذكرة الكحالين) وكان الكتاب الكلاسيكي للتدريس طيلة ثمانية قرون دون منازع. وقد ظل هذا الكتاب متربعًا على عرشه رغم ظهور كتب متأخرة العهد، ككتاب صلاح الدين بن يوسف أو غيره من مؤلفي الكتب التدريسية بعد القرن الثاني عشر.
وإذا كان كتاب (تذكرة الكحالين) قد نال هذه الشهرة وهذا الانتشار، فإننا نفرد إلى علي بن عيسى هذا الشرف في أن يكون صاحب الأسلوب الذي سيطر على المؤلفات التي جاءت بعده على مدى ألف عام في مجال طب العيون.
ويؤكد المستشرق الألماني مايرهوف أن علي بن عيسى بلغ في كتابه تذكرة الكحالين أقصى درجات الكمال في طب العيون.
– ابن النفيس (607-687هـ/ 1210-1288م).
علاء الدين أبو الحسن علي بن أبى الحزم بن النفيس القرشي الدمشقي، ولد بدمشق، ورحل إلى القاهرة بناء على دعوة من السلطان الأيوبي الكامل محمد بن أحمد عام 633هـ / 1236م- وهو لم يتجاوز بعد السادسة والعشرين من عمره، وبقي بالديار المصرية حتى وفاته.
درس ابن النفيس علوم اللغة والفقه والحديث في مدينة حمص وحين بلغ السادسة عشرة من عمره رحل إلى دمشق والتحق بالبيمارستان النوري -المستشفى التعليمي الكبير الذي أسسه بدمشق السلطان المجاهد العظيم نور الدين زنكي- حيث تلقى تعليمه الطبي على يد طبيب العيون الذائع الصيت وأستاذ الطب في عصره مهذب الدين عبدالرحيم كبير أطباء البيمارستان النوري ورئيسًا لأطباء الشام ومصر، ولم يكتفِ ابن النفيس بدراسته على أساتذته في البيمارستان النوري، بل أكب على كتب ابن سينا وغيره من الأطباء يلتهما التهامًا، ويقال إنه كان يحفظ كتاب القانون لابن سينا، عن ظهر قلب، واهتم عالمنا أيضًا بدراسة الفلسفة والمنطق وعلم البيان، وتوسع في دراسة الفقه وعلوم الشريعة بدرجة أصبح معها أستاذًا لفقه الشافعية في المدرسة المسرورية بالقاهرة إلى جانب أستاذيته في الطب.
مؤلفات ابن النفيس:
ابن النفيس عالم موسوعي ألف في السيرة، وعلم الحديث، وأصول الفقه، والنحو، والفلسفة والمنطق، والطب، وابن النفيس هو مكتشف الدورة الدموية، وأول من أرسى مبادئ علم التشريح وجعله علم خاص، ففي كتابه شرح تشريح القانون ذكر مواضيع لم تذكر من قبل أهمها:
– الأهمية الوظائفية للأعضاء،
– مبادئ التشريح وآلات الجراحة،
– تشريح الأعصاب والعضلات والأوتدة العضلية (الطنب) والشرايين والأوردة،
– تشريح الدماغ والعين والأذن والأنف والقصبة الهوائية والرئة،
– تشريح القلب،
– تشريح المريء، والأمعاء والمعدة والكبد والكليتين والطحال.
وفي مجال طب العيون (الكحالة).
وكان ابن النفيس طبيبًا كحالاً ممارسًا تشهد بذلك فقرات عديدة متناثرة في كتابه “المهذب في الكحل”، وتشير هذه الفقرات إلى غنى خبرته الشخصية.
وفوق ذلك كان ابن النفيس متمكنًا من نظريات الطب المتعلقة بأمراض العين، سواء منها ما يشرح (فعل العين)، وهو الإبصار أو ما يشرح خواص الأدوية.
ويمكننا أن ندرك أن ابن النفيس كان سريريًّا وجراحًا من خلال وصفه للأعمال الجراحية التي لا بدَّ من اللجوء إليها في بعض الحالات. كما أن وصفه للأدوية العينية المركبة ينم عن باع طويل في الممارسة.
وقد ترك ابن النفيس تراثًا هامًّا في الكحالة (طب العيون):
– ففي أحد أجزاء كتابه (الشامل)، يعرض نظريته في الإبصار.
– وفي كتابه (شرح تشريح القانون) يحاول أن يفسر بعض الآليات المرضية في علم البصريات العينية، هذه الآليات التي رأى المؤلف أنها يجب أن تشرح في الفصول المتعلقة بالتشريح، باعتبار أنها جزء من علم الأمراض (الباتولوجيا).
إن كتاب (شرح القانون) قد خصص الجزء الثالث منه لدراسة الأمراض من الرأس إلى القدم.
ولم تقتصر مساهمة ابن النفيس في علم الكحل (أمراض العين)، على هذه المؤلفات التي تغطي كل فروع هذا العلم، بل تعدتها إلى ما هو أهم من ذلك، وهو أنه كتب كتابًا خاصًّا في أمراض العين سماه (المهذب في الكحل).
– المهذب في الكحل
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن كتاب المهذب، الذي هو كتاب في الكحل، أي في أمراض العين يجب أن نشير إلى أن الأطباء في ذلك الوقت كانوا يقتصرون في مؤلفاتهم على شرح كليات الطب، وخواص الأدوية المفردة، ووصف الأمراض وطرق معالجاتها، وعلم الأقرباذين، أما نظرية الإبصار فقد تركها الأطباء للفلاسفة، ونصوا على ذلك صراحة.
وكان الإغريق قد اهتموا بنظرية الإبصار، فالفلاسفة والطبيعيون والرياضيون أدلوا جميعًا بدلوهم في حقل البصريات العينية، وتفاوتت آراؤهم. وقد عرف الأطباء العرب كل هذه الآراء، وجعلوا مكان نظرية الإبصار خارج مملكتهم، فهي وفق تصنيف العلوم جزء من العلوم الطبيعية، فابن سينا على سبيل المثال يشرح نظرية الإبصار في الأجزاء المتعلقة بـ النفس من طبيعيات كتابه الشفاء.
وكتاب المهذب في الكحل من أهم كتب التراث العربي الطبي.
تقول عنه مؤرخة العلوم إيميلي سافج سمث: “قد يكون أحد أكثر كتب الكحل العربية دقة واكتمالاً”. وهو لا شك خطوة متقدمة جدًّا على طريق تطور طب العيون. إذا قورن بكتب مطلع القرن الحادي عشر يتبين مدى التطور الذي مر به طب العيون العربي في فترة هذه القرون الثلاث.
الصفات الشخصية لابن النفيس:
كان ابن النفيس مثالاً للعالم التقي الورع المنقطع إلى العلم إلى حد أحجم معه عن الزواج، وكان شجاعًا في إعلان آرائه الطبية مهما كانت مخالفة لآراء قطبي الطب الكبيرين ابن سينا وجالينوس اللذين كانت مؤلفاتهما تهيمن على عقول الأطباء في عصره، وكانت مخالفتهما تعتبر في عداد الأخطاء التي لا تغتفر لصاحبها، ويذكر لابن النفيس أن إخلاصه لربه ودينه جعله يرفض وهو على فراش الموت أن يعالج مرضه بالنبيذ، حرصًا منه على ألا يلقى بارئه وفي جوفه شيء من الخمر الذي حرمه سبحانه وتعالى.
ولقد ترك ابن النفيس لمصر صرحًا طبيًّا عظيمًا هو البيمارستان المنصوري ذلك المستشفى الكبير الذي أشرف على بنائه بتكليف من سلطان مصر المملوكي العظيم المنصور قلاون وتولى رئاسة أطبائه زمنًا طويلاً. كما وهب ابن النفيس أمواله وكتبه وداره للبيمارستان المنصوري، حبًّا واعتزازًا بمصر وأهلها.