اللغة والهوية

لا شك في أن أكبر الأبواب التي تفتح المجال لتعريف وإيصال وإثبات الهوية هي اللغة، فاللغة ليست فقط ناقلاً للمعنى وموصلاً للمحتوى، بل هي من أكبر تجليات الأنا والهوية للأمم ونأتي بالأخص إلى الأمة العربية وخاصة الدول التي قبعت تحت وطأة الاحتلال لسنوات طويلة، سنوات لم تحتل فيها الأراضي فقط ولم تضع يدها على ثروات الشعوب فقط، بل والأهم والأخطر من ذلك هو احتلال الفكر واختلاط الثقافات، وجعل الإنسان العربي دائم الزحف نحو الآخر مقلدًا إياه لغة ولباسًا وأسلوب حياة، كالغراب الذي سعى إلى تقليد الحمامة كي يصيرا أكثر أناقة وجمالاً وملكية فلا هو حافظ على هويته ولا هو صار حمامة وأتقن دور غيره…

وقد تعمقت تلك الهيمنة على العقل العربي حتى ظل ملاحقًا للنفسية العربية شعور المهزوم أمام المنتصر شعور بنوع من الهوان والخنوع للآخر ومن جهة ثانية حس الانبهار به والتبعية له والتي استمرت وتستمر مع الأجيال تلك النظرة من الأسفل للأعلى الإحساس العميق بفقد الذات أو ضعفها. فأنا لا أفهم مثلاً تدريس مواد ببلد عربي بلغة أجنبية أو خطابات لمسؤولين مرموقين على حد تعريفاتهم يتشدقون بالكلام بلغة أجنبية، بل وكتابة الأوراق الإدارية التي يحتاجها المواطنون بينهم بلغة أجنبية بالكثير من البلدان العربية وأستحضر الآن كلمة للحسن الثاني ملك المغرب السابق رحمه الله حيث قال مخاطبًا شعبه في أحد خطاباته: إنه لا يقلقني التحدث بالأمازيغية بقدر ما يقلقني أحد المواطنين وهو يتكلم الفرنسية، وقد قال ذلك لأنه يعلم أن الأمازيغية كيفما كان الحال هي جزء من هوية المواطنين وأصالة البلاد عكس أن تتبنى لغة خصمك لغة من احتلك واغتصب أرضك بيوم من الأيام وتقرر البقاء تحت ظله بتقليد لغته وأسلوبه وقد أدى هذا إلى هذا التأخر عن الركب لأننا لم نركز على أنفسنا على ذواتنا قبل الآخر.

أتخيل لو أن عقدة النقص تجاه اللغات لم تصاحب أجيالاً بمسيرتهم الدراسية وتقصي العديد من الطاقات التي لم يكتشفها أصحابها إلا بزمن متأخر ربما وربما دفنت تحت أنقاض أعباء الحياة…  وهذا التأخر عن ركب الأمم ما هو إلا وجه من أوجه الانسلاخ عن الهوية وربما يأتي آت ليقول كيف لنا بالتقدم دون معرفة لغة الآخر وتعلم علمه والاستفادة بأحدث العلوم والتقنيات ويأتي هنا جواب بسيط مثلما صنع الصينيون عالمهم والروس عالمهم والأتراك عالمهم دون الانغماس بالآخر وهذا لا يعني عدم تعلم لغات العالم فالعلم نور وتعلم ثقافات الآخرين فوائده لا حصر لها، وإنما مع الإبقاء على الذات مع وضع السيطرة بيد اللغة الأم الأولوية والهيمنة للغتنا الأم وبعدها يمكننا البدء بتعلم أكثر اللغات عالمية… إشعار المواطن بأهمية لغته وتاريخه يعطيه إحساسًا بالاعتزاز بهويته وكينونته ولا يسعى إلى التشدق بلغة الآخر والاستعلاء على الناس عن طريق التكلم بلغة أجنبية كأنه صار أكثر حضارة ورقيًّا بذلك وهذا خطأ فادح يبين عمق عقدة النقص التي تصاحب النفسية العربية وبالأخير أظن أننا نحتاج إلى المزيد من التعمق بذواتنا وبتاريخنا، إلى البحث عنا والاعتزاز بكوننا نحن وصرف النظر عن الآخر فلينظر كل منا لما يملكه من تاريخ ومن عقول، فلنبدع بشكل يشبهنا كعرب.

أظن أننا هكذا نستطيع بناء الذات العربية بعيدًا عن السياسات وفرضيات المؤامرة فالتغيير ينبعث من القاعدة ليشمل جميع مناحي الحياة ويصل إلى أعلى القمة فالنجاح يأتي بالمثابرة والحب. لهذا فالشعوب التي لا تحمل بقلبها الولاء والاعتزاز بهويتها لا يمكنها صناعة المجد على كل حال.. لذلك أدعو إلى العودة لذواتنا أولاً إلقاء النظرة إلى الداخل قبل البحث خارجا. ولا نجد دلالة على ذلك أقوى من كتاب الله فهذا المعنى يتجلى بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11).