لقد ارتفعت بوابات الإنترنت على غرار ياهو العجوز، وفايرفوكس، وألكسا، وميجاتولبار، وموزيللا، وأوبرا، بمواصفات محرك البحث الخاص بها نحو أعلى المستويات، بالإشارة الخاصة إلى البوابة الشهيرة “جوجل”. والآن يشير عدد من تقني المعلوماتية، إلى إمكانات تطوير أدوات جديدة تعتمد على نظام الذكاء الاصطناعي بشكل غير مسبوق للبحث عن كافة المعلومات، حيث إن الإمكانات المتوفرة حاليًّا في تحليل الوثائق الإلكترونية المخزنة على الشبكة العنكبوتية، وفي تطوير عملية المعالجة الإلكترونية السريعة للنصوص والصور والملفات السمعية والبصرية، لا تبدو كافية لتأمين حاجتنا الماسة في هذا العصر للبحث عن الإنترنت.
يسعى الاتجاه إلى خدمة أدوات البحث بنظم الذكاء الاصطناعي، إلى رؤية منجزات جديدة تعبر الجسر الذي يزعمون بناءه بين الإدراك البشري ودقة الآلة، مما سوف يتيح لنا -مثلاً- التعرف بسرعة على التيمة الأساسية في رواية بعينها، بدلاً من البحث في قوائم الأسماء والعناوين بمحركات البحث الأصغر وإعطاء نتائج جافة مهما بلغ ثراؤها، أو على قائمة بأسماء مفكرين ناقشوا فلسفة قديمة خلال السنوات الخمس الأخيرة، أو إمكانية استيعاب وشرح الإستراتيجية الكاملة لدور شطرنج من أوله إلى آخره، بدلاً من النقلات المفردة التكتيكية القائمة في الأساس على الانتقاء من بين احتمالات.
وتتمتع نظم الذكاء الاصطناعي بسمات تقربها من فهم اللغة الإدراكية التلقائية، وبخاصية تعرفها على الأشياء، وتعلمها المتواصل عبر التكرار الإحصائي للإشارات الداخلة إليها، وبهذا فإنها توفر إمكانات أكبر من محركات البحث الحالية. يقول “ألين رابوبورت” رئيس شركة طورت محرك بحث -هو “ميدستوري”- يختص أساسًا في البحث عن المصطلحات الطبية، ومراجع الأمراض والتشخيص والعلاج في مجال الطب البشري: “إن هذه التطويرات ليست سوى بدائل لتحويل الشبكة العنكبوتية إلى أداة لخدمة المتصفحين، خدمة ذكية دقيقة، وتخليصهم من المهمات المرهقة المتعلقة بالبحث عن البيانات”.
وعرضت الشركة أسهمها في السوق شهر يوليو عام 2006، ونقل موقع “سي نت” الإلكتروني عن “رابوبورت” أن ازدياد كمية المعلومات على الشبكة المعلوماتية بوتيرة هائلة، يتطلب بل ويجبر المصممين على تطوير نظم ذكية للتنقيب عن المعارف بأداء عالي الكفاءة، و”ميدستوري” ليس هو التصميم الوحيد للمحركات الذكية على الشبكة العنكبوتية، إذ بدأت شركات ناشئة بالخوض في هذا المضمار بالفعل، مثل شركتي “باورسيت” و”ريا”.
وفي الغالب، فإن ما يحدث هو أن محرك البحث الحالي، يرى كل الشبكة العنكبوتية كهيئة أو ككتلة مليئة بالكلمات المحشورة في مليارات الصفحات سوية مع صلاتها مع إخوتها بالشبكة العنكبوتية التي تربطها بالبعض الآخر. وتجسدت إحدى مزايا محرك “جوجل” التي أدت إلى نجاحه، في كفاءته في الربط بين الكلمات، وتحديد علاقة الكلمة في النصوص، وقربها من الكلمة التي يبحث عنها، إضافة إلى عدد الوصلات الإنترنتية التي تشير إلى الصفحة، أي مدى شعبتيها.
كلنا نعرف أن محركات البحث لا تفهم معاني الكلمات، إذ تفتقد إلى الإدراك البشري الذي وإن كان قاصرًا على إجراء جهد البحث بنفسه في غابة البيانات العنكبوتية العملاقة، إلا أنه يظل متفردًا بقدرته على ربط المفردات، وحذف الزوائد، واستنطاق المعاني.. هذه المحركات مبرمجة فقط لمقارنة الكلمات فيما بينها للتعرف على مدى تطابقها، ولذلك فعندما يطلب أحد المتصفحين -مثلاً- عبارة “الطرق الصوفية”، فإنه سيرسل محرك البحث للركض وراء كل واحدة من كلمتي العبارة “الطرق” و”الصوفية” بدلاً من البحث عن المعنى المقصود نفسه، وبالتالي سوف تظهر لك نتائج، مثل الطرق السريعة، الطرق الجبلية الوعرة، طرق تحضير الكعك، المنسوجات الصوفية، حيوانات الماموث الصوفية المنقرضة.. ونتائج محدودة جدًّا زائدة على الموضوع الذي تبحث عنه بالذات.
لذلك -وكنتيجة مباشرة- فإن محركات البحث لا تستطيع التقاط سمات اللغة البشرية. مثلاً إن طلبت من محرك “جوجل” أن يبحث لك عن المؤلف “ستيفن كينج”، أو التي تتحدث عن ملوك “ملك”، والبحث عن الكتب التي كتبت عن أمريكا بإدخال عبارة “كتب عن أمريكا”، فإنه قد يبحث عن كلمتي “كتب” و”أمريكا”. وبالتالي فإن نتائج بحثه تتقارب من نتائج البحث عن عبارة “كتب أمريكا” أو “كتب من (أو إلى) أمريكا”.
يقول “بارني بيل” رئيس شركة “باورسيت” ومقرها في بالو ألتو في ولاية كاليفورينا الأمريكية، الذي صمم محرك بحث بنظام للذكاء الاصطناعي: “إن مشكلة محركات البحث، اهتمامها بالكلمات، ولذلك فهي تحاول ترويض الإنسان وتدريبه على اختيار كلمات البحث فقط، وبذلك فهي تضغط بقوة على ذكاء الإنسان، كي يتمكن الكمبيوتر من فهم “اللغة التلقائية” لهذه المحركات.
إن التحول الكبير في المجتمع، سيقع عندما تتطور قدرات الكمبيوتر نحو التعامل مع التعابير الطبيعية للإنسان، بدلاً من تحويل تعابيره إلى ما هو سهل للكمبيوتر كما هو الحال اليوم، ولن يعكف محرك بحث “باورسيت” على تدريب الكمبيوترات على قراءة الكلمات فحسب، بل الربط بين الكلمات ووضع الاستنتاجات حولها. وبهذا الأسلوب فإن المحرك يمكنه التفكير، ثم إعادة تجديد العلاقة الرابطة بين الكلمات، للعثور عليها خارج صفحات الشبكة العنكبوتية الأكثر شعبية، وخارج المواقع الإلكترونية التي تزدحم بهذه الكلمات التي تظهر عادة في مقدمة قائمة نتائج البحث.
التحدي القادم وفقًا لـ”إيستر دايسون” التي ساهمت في استثمار “باورسيت”، سوف يتمثل في التعرف على كل شيء آخر على الشبكة العنكبوتية عدا الكلمات.. والعثور عليه، مثل العثور على وصف معين لأحداث.. وعلى حبكة القصة أو إستراتيجية الشطرنج في دور معين أو للاعب بالاسم.
والمشكلة الضخمة التي تواجه إنتاج محركات بتقنية الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، أنها تحتاج إلى قدرات حسابية عالية، ولذلك تكون مكلفة من الناحية الاقتصادية، إلا أن الإعلانات قد تشكل حلاًّ لهذا، خصوصًا أن نجاح بوابة “جوجل” رفع قيمتها إلى 6 مليارات دولار سنويًّا. ومن ثم فإن مصممي محركات البحث الذكية، يتوجهون نحو مجالات محددة، مثل المجال الطبي الذي يعمل فيه محرك “ميدستوري”، أو تطوير محركات ذكية خاصة بقطاع الأعمال، أو بميدان التسلية أو الترفيه، لأن كلفتها الاقتصادية أقل.
يقول “رابوبورت”: “إن التطورات الحديثة في الذكاء الاصطناعي، تسهل التحول من الاعتماد على الإنسان في الربط بين مختلف البيانات، إلى الاعتماد على المحرك في قيامه ببرمجة الكمبيوتر لتنفيذ هذه العملية”.أيْ التحول إلى عملية “هيكلة المعرفة”.
ويشير توم ميتشيل رئيس قسم تعليم الآلات في جامعة “كارنيجي ميلون” الأمريكية، إلى أن الحواسب الآلية تتعلم بواسطة نظم الذكاء الاصطناعي معالجة اللغة إحصائيًّا، أو تتعلم مبادئ البرمجة التي تمكنها من قراءة النصوص.
يعتمد محرك “ميدستوري” الطبي الذكي في عمله، على الربط بين الأجزاء الثمينة من المعلومات في صفحات متناثرة على الشبكة العنكبوتية، مثل ربط وثيقة حول أعراض داء السكري بوثيقة أخرى لتحليل عملية علاج ذلك المرض بعقار محدد.
ابحث -مثلاً- عن تعبير “تصلب الشرايين”، عند ذاك ستأتيك النتائج بقائمة تحتوي على مواضيع حول العقاقير، والأعراض، والغذاء الخاصة بهذه الحالة.. وداخل كل من المواضيع الرئيسية لتلك النتائج، توجد مواضيع فرعية تشمل قائمة بغالبية العقاقير المتوفرة، وقائمة بالأغذية والمكملات الغذائية والموانع، مثل السجائر والدهن الذي يمكن وضع مؤشر الشاشة عليه لإظهار وثائق جديدة حول مضاره الصحية.. إلخ.
وتقدم محركات البحث الذكية عروض نتائجها بشكل جذاب ومشوق. ومن بين المحركات الذكية المحرك الذي تطوره شركة “ريا”، ومقرها في “سان ميتيو” في كاليفورينا، الذي يبحث أيضًا في الصور؛ ويمكن للمتصفح من عرض صورة ما (مجموعة من أوراق اللعب مثلاً)، وطلب إظهار شيء مماثل له، ويقدم المحرك نتائجه بالصور، إضافة إلى المحلات والمتاجر التي يمكن الشراء منها. وحتى الآن ظل البحث عن الصور يجري بواسطة كتابة الكلمات الخاصة بمحتواها أو معناها.
أما محرك “ريا” فإنه يطلب البحث بالصورة، ثم يقوم بالتدقيق فيها، بحثًا عن بياناتها واعتمادًا على نظم الذكاء الاصطناعي داخله، وبعد استخلاص “التوقيع الرقمي” للصورة، تجري عملية مقارنة له مع مثيله في الصور الأخرى.
وتتيح هذه التطويرات في تقنيات الذكاء الاصطناعي، إنتاج نظم “للرؤية المعلوماتية” يمكن للحاسب الآلي التعرف بواسطتها على ملامح الوجه مباشرة أو من تفاصيل الصورة. واستعمال هذا الذكاء فيه تحديات مستقبلية أكثر تعقيدًا، مثل ترجمة نص أدبي، أو تأليف نص أصيل، أو رسم لوحة فنية بأسلوب رسام شهير، أو صنع أقلام لفنانين راحلين، أو نقد وتحليل خطة حربية.
(*) متخصصة في مجال التربية النفسية والسلوكية / مصر.
المراجع
(1) رهانات الإنترنت، العلوي شوقي، بيروت، المؤسسة التعليمية للدراسات والنشر والتوزيع 2006م.
(2) المعلوماتية مواجهة تاريخية جديدة، عياش مرتضى.
(3) المكتبات الرقمية على الإنترنت، لينة ملكاوي، مجلة هاي (HI)، إبريل 2005م.