هامش التسامح حول مركزية الدين

إن العبادة الصحيحة هي الغاية الكبرى من خلق الله عباده، يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْـبُدُونِ) (الذاريات:56)، فـقـدم الجن على الإنس في الذكر، وهم الأسبق في الخلق والأمعن في القـدرة؛ ليثبت أن العبادة هي أولى المستوجبات على كل المخلوقات، كما سبق في علم الله أن البشر سينشغلون عن العبادة بأمور أخرى أهمها السعي على كسب الأرزاق، لذا ذكَّرهم بهذه الحجة التي سيتعللون بها قائلاً: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْـعِمُونِ) (الذاريات:57)، ثـم ختم هذا السياق بتـذيـيـل بليغ لصفاته العلا قائلاً: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُـوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:58). وتـلك الصفات التي أثبتها الخالق لذاته العلية تستوجب قياسًا بالخُـلْـف إثبات عكسها للمخلوق، فالله “الرزاق/ذو القـوة/المتين”، في مقابل الإنسان “الفـقـير/ذي الضعف/المحتاج”، وهذا يؤكـد حاجة الإنسان إلى العبادة قبل حاجته إلى الرزق.

وهذه العبادة جوهرها التوحيد الخالص لله عز وجل؛ لذا فالموحِّد هو المستحِق لمغفرة مولاه، يقول تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْـفِـرُ أَنْ يُـشْرَكَ بِهِ وَيَغْـفِـرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُـشْرَكْ بِاللهِ فَـقَـدِ افْـتَـرَى إِثْـمًا عَـظِيمًا) (النساء:48). ولقـد ورد في القرآن الكريم بأن الدين الصحيح الواجب اعتـناقه هو الإسلام، يقول تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَـلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْـدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِـلْمُ بَغْـيًا بَـيْـنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُـرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19). وأكد ذلك في السورة ذاتها قائلاً: (وَمَنْ يَـبْـتَغِ غَـيْـرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَـلَنْ يُقْـبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85). ولمَّا أكمل الله دينه بارتضاء الإسلام وتـمَّـت نعمته سبحانه على عباده: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَـلَيْكُمْ نِعْـمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3)، نجده بعدها يحذِّر من سوء العاقبة وجني الخسران بالكفر بعد الإيمان: (وَمَنْ يَكْفُـرْ بِالْإِيمَانِ فَـقَـدْ حَبِطَ عَـمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:5).

فالله بوصفه خالقًا ورازقًا وضع هذا المبدأ العام المستغرِق للجميع قائلاً: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (الرحمن:10)، أيْ الأرض كلَّ الأرض وضعها للأنام كلِّ الأنام، مما يحقق تكافؤ الفرص أمام البشر أجمعين، واستخلف الله الإنسان فيها قائلاً: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30). فإن استـشعر الإنسانُ الاستضعافَ فليهاجر في أعطاف الأرض الواسعة، مستـفهِمًا: (أَلَمْ تَـكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَـتُهَاجِرُوا فِـيهَا) (النساء:97)، مؤكدًا بعدها سبحانه وتعالى النتيجة: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَـمًا كَـثِـيرًا وَسَعَةً) (النساء:100). ولتتحقق خلافة الله في أرضه، فلا بد أن تتحقق الأخوة الإنسانية الجامعة والأخوة الإسلامية المائزة؛ لذا عبَّر سبحانه وتعالى عن أخوة الإيمان بأسلوب القصر “إنما”، قائلاً: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَـأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْـكُمْ) (الحجرات:10)، مما أوجب الصلح بينهم. فـفي أرض الأخوة تنبت بذور التسامح لتصير الأرض عُمْرَى بأهلها، والأخوة هي تلك الرابطة التي تجمع بين البشر ليس في الدنيا فحسب بل في الآخرة أيضًا، يقول تعالى: (وَنَزَعْـنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِـلٍّ إِخْوَانًا عَـلَى سُـرُرٍ مُتَـقَابِلِينَ) (الحجر:47).

ونظر القرآن الكريم إلى الشرائع التي بعث الله بها أنبياءه ورسله نظرة أشعة النور، التي تنبعث من مشكاة واحدة هي الإسلام، قائلاً سبحانه: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَـبْـلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْـتَـبِقُوا الْخَيْـرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَـيُـنَـبِّـئُكُمْ بِمَا كُـنْـتُـمْ فِيهِ تَخْتَـلِفُونَ) (المائدة:48)، وقائلاً: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَـلْـنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَـلَا يُـنَازِعُـنَّـكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّـكَ إِنَّكَ لَعَـلَى هُـدًى مُسْـتَـقِـيـمٍ) (الحج:67).

ومع احترامنا لشرائع الشعوب الأخرى، فإننا نقـرُّ بعالمية الإسلام التي نتـشرف بها في العالمين، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم، يقول تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّـدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِـيِّـينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَـلِيمًا) (الأحزاب:40)، والقرآن الكريم هو الكتاب الخاتم، يقول تعالى: (وَأَنْـزَلْـنَا إِلَيْـكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَـيْـنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَـيْـمِنًا عَـلَيْهِ) (المائدة:48)، وهذا فضلٌ لأمة الإسلام لا يُدانى، مما جعلهم شهودًا على من سبقهم من الأمم، يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَـلْـنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَـكُونُوا شُهَدَاءَ عَـلَى النَّاسِ وَيَـكُونَ الرَّسُولُ عَـلَيْـكُمْ شَهِـيدًا) (البقرة:143)، فهي أمة الوسطية دون إفراط أو تـفريط.

والمتـتـبع لسماحة الإسلام يجده ينسجم مع الفطرة الإنسانية، حيث يولد ابن آدم مفطورًا على الإسلام النقي، وتوجهه بيئته التي ينشأ فيها وهو لا يزال حديث عهـد بدنياه إلى أن يظل على إسلامه، أو تنحرف به بيئته إلى ما انحرف إليه من قبلُ آباؤه وأجداده؛ لذا فإننا نرث الدين من بيئاتنا ومجتمعاتنا مثلما نرث العادات والتقاليد، مما يدفعنا إلى أن نحمد الله على نعمة الإيجاد.. فـقـد خلقنا تـفضُّلاً دون أن يكون لنا حقُّ الخلق عنده، وأن نشكر الله على نعمة الإمداد، فـقـد هدانا للإسلام ولم تَـزِغْ بنا الأهواء أو تضلّ بنا السبل لنتَّبع غيره، وأن نتحمـل أمانة الدعوة إلى الإسلام الحنيف ما حيينا بخطاب ملـؤه السماحة.

ولقـد أسس القرآن الكريم لمعالم الفطرة الإنسانية، وأرشد الناس إلى توخِّي ما فيه مصلحتهم في العبادات والمعاملات، وبـيَّـن للجميع أنهم في قابل أزمانهم ستـتعرض مصائرهم لثـنائـيات الفتن؛ بين الإيمان والكفر، وبين الهداية والضلالة، وبين المقبول والمرذول، وبين الطاعة والمعصية، وبين الإخلاص والنفاق، وبين الأمانة والخيانة، وبين الصدق والكذب.. وغيرها، يقول تعالى: (وَهَـدَيْـنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:10)، فـ”هَـدَى” بمعنى عـرَّف وبـيَّـن وبصَّر، أيْ هَـدَى اللهُ الإنسانَ إلى طريق الخير وطريق الشـر، ويقول تعالى: (إِنَّا هَـدَيْـنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان:3)، أيْ هَـدَى اللهُ الإنسانَ إلى سبيل شكر النعمة أو سبيل كفرها، ويقول تعالى: (فَـأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَـقْـوَاهَا) (الشمس:8)، وذلك في حق النـفس الإنسانية التي تميز بين الخير والشـر.

لذا فـقـد أرسى القرآن الكريم دستورًا للحرية الدينية، ماثـلاً في أدبياته الجليلة، كقوله تعالى: (وَقُـلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّـكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَـلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَـلْيَـكْفُـرْ) (الكهف:29)، ووجَّه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم إلى توضيح سبيل دعوته السمحة، بالبراهين الدامغة التي تميل إليها النفوس وتقتنع بها العقول، قال تعالى: (قُـلْ هَذِهِ سَبِـيـلِي أَدْعُـو إِلَى اللهِ عَـلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّـبَعَـنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُـشْرِكِينَ) (يوسف:108). وبعد إرساء الله مبدأ الحرِية يفتح لعباده باب الأمل؛ لأن الإنسان وفقًا لجِبِلّته سيعصي، فيهيئ الله له أسباب التوبة، في مقابل أسباب المعصية التي سهَّلها الشيطان وزيَّـنَـتْـها النفس، وإلا استـشرى الشـر في الإنسان عند اقترافه أول ذنب، فيقول تعالى: (قُـلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَـلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَـقْـنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْـفِـرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُـوَ الْغَـفُـورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)، وقـد ذيَّـل الآية الكريمة باسمين جليلين لذاته العلية اشتقهما من “المغفرة” للذنب الواقع، و”الرحمة” التي بدونها قـد يستبدُّ اليأس بالنفس فيهوي بها في الكفر، فأطلق عليها رَوْحًا في قوله تعالى: (وَلَا تَـيْـأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَـيْـأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْـقَـوْمُ الْـكَافِـرُونَ) (يوسف:87).

ولأن رسالة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تمحورَتْ حول الرحمة كما في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، فـقـد حاول وهو يأخذ بيد الخلق إلى سبيل الحق أن يشق على نفسه، فأوضح الله له أن دوره قاصر على دعوة الناس فحسب، وما هو بمسلَّطٍ أو بجبارٍ ليحملهم على ما لا يريدون، قائلاً سبحانه: (لَسْتَ عَـلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (الغاشية:22)، ونهاه عن أن يستبد به الحزن فيهلك نفسه لعدم إيمان بعضهم برسالته قائلاً: (فَـلَعَـلَّـكَ بَاخِعٌ نَفْسَـكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف:6)، ومؤكدًا البَخْعَ بالتكرار في موضعٍ آخر قائلاً سبحانه: (لَعَـلَّـكَ بَاخِعٌ نَفْسَـكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:3). وذكَّره بأن دور أيّ نبي قاصرٌ على دلالة الهداية، أما دلالة المعونة فهي لله وحده، يقول تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْـدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُـوَ أَعْـلَمُ بِالْمُهْـتَـدِينَ) (القصص:56)؛ لذا نهاه عن التحسُّر على حصاد ما زرعوه بأيديهم، حيث قال سبحانه: (أَفَمَنْ زُيِّـنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَـلَا تَـذْهَبْ نَفْسُكَ عَـلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَـلِيمٌ بِمَا يَصْـنَعُـونَ) (فاطر:8).

ولحرص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على دخول قومه أجمعين في الإسلام، وجدناه في فتح مكة يطلق العفو العام عن جميع أهلها، حيث دخلها منتصرًا فـقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، وعفا عنهم بعدما خاطبوا فيه أصالة معدنه الإنساني، لمَّا سألهم وهو في موضع العزة والمنعة: “ما تظنون أني فاعل بكم؟”، قالوا: “خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريـم”، ولم يقولوا: نبي كريم، لأنهم لم يكونوا قـد آمنوا به بعدُ، لكنَّ سماحة خطابه دفعت الكثيرين إلى اعتناق الإسلام. فقد اتسع هامش التسامح في شخصه الفريد صلى الله عليه وسلم لينسى أنهم أخرجوه من وطنه مكة، التي وصفها بأنها أحب البلاد إلى الله وإليه، لكنه أُخرج منها عُـنْـوة، وإلا لِمَ كانت الهجرة؟ وقـد كان على حالٍ بيَّنها دعاؤه، من ضعف قـوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، فلجأ إلى ربه وهو مستضعَفٌ يستمد عونه ويرجو عفوه. ولتسامحه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، فـقـد كان قبل فتحها يؤدي العمرة ويطوف بالكعبة وحولها الأصنام ولم يهدمها لهم، ولم تُـزَلْ إلا بعد أن عمَّ الإسلام مكة كلها، حيث كانت الوثنية متغلغلة في نفوس العرب منذ جاهليتها، لدرجة جعلت الواحد منهم إذا ما نزل منزلاً يتخيَّر أربعة أحجار، ينتقي أفضلها ليتخذه إلهًا يعبده طيلة رحلته، والثلاثة الباقية لأثافيّ قِـدْرِه.

وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تـشهد بسماحته وسنته تـشريعٌ لمن تبعه، فـقـد آخى بين المهاجرين والأنصار حين أسس المجتمع الإسلامي في يثرب بعد الهجرة إليها، ولعل تـلك “المؤاخاة” تمثِّـل ما عُرف بعد ذلك في القانون بـ”المواطنة”، وجوهرها تحقُّـق العدالة في الحقوق والواجبات، لأن المواطنين أمام القانون سواء، فـلقـد حرصَتْ بعض المجتمعات الإسلامية على الحفاظ على نسيج وحدتها الوطنية.

ولعل من أغراض “المؤاخاة” في السيرة النبوية و”المواطنة” في القانون الوضعي هو محاربة فكرة “الأقلية”، ذلك المصطلح المغرِض لقيامه على التمييز ضد الفئة الأقـل عددًا في المجتمع، ومن رعاية الإسلام لهذه الفئة أن اختص الفـقه الإسلامي بدراسة مسائلها في فـقه الأقليات؛ لأهميته كفقه الضرورات وفقه الأولويات.

والإسلام بسماحته يأمر أتباعه ببرِّ أصحاب الديانات الأخرى والعدل في معاملتهم، ما دام قـد اختار كلٌّ منهم دينه الذي انضوى تحت لوائه، ولم يقاتـل غيره أو يشاغب عليه في ممارسة شعائره، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِـلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَـبَـرُّوهُمْ وَتُـقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُـقْـسِطِينَ) (الممتحنة:8)، فالوطن الذي يأوي الجميع بمنزلة السـفينة، لها أن تبحر بهم سالمين وأن يعيشوا على متـنها مطمئنين، فإن تـذرَّع بعضهم بدعوى الحرية غير المسؤولة ليخرق خرقًا في أسفلها، فيجب أن يتصدى له من في أسفلها ومن في أعلاها لينجو الجميع؛ لأنهم ارتضوا أن يستهموا فيها. فالحرية المسؤولة مهما تعـددت مفهوماتها لا تفتقر إلى الحكمة وجوهرها: “أنتَ حُرّ ما لم تَضُرّ”، فلها ضوابط تحكمها دون إلحاق الضرر بالنفس أو الغير. ويخطئ من يظن أن الحرية لا حدَّ لها ولا إطار يحكمها. والمتـفـرِّس لنسيج القرآن الكريم يجده يفـرِّق بين أمرين؛ فعن مسائل الحرام يقول تعالى: (تِـلْـكَ حُدُودُ اللهِ فَـلَا تَـقْـرَبُوهَا) (البقرة:187)، وفي السُّورة نفسها عن مسائل الحلال يقول تعالى: (تِـلْـكَ حُدُودُ اللهِ فَـلَا تَعْـتَـدُوهَا) (البقرة:229).

وحرصًا من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على توطيد العلاقة بين المسلمين، فـقـد نهى عن الأخلاقيات التي تضعفها، كما في قوله الشريف: “لا تحاسدوا، ولا تـناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَـبِعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير إلى صدره ثلاث مِرَار)، بحسب امرئٍ من الشـر أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعِرْضه” (رواه مسلم). وقـد حرص على التعبير عن الأخلاق المنهي عنها بصيغة الفعل التي تدل على التشارك، إشارة إلى أن منظومة الأخلاق تمثِّـل شراكة بين الجميع حتى يستـقيم المجتمع. كما حرص الإسلام على صون الضرورات الخمس؛ الدين والنفس والعِرْض والنسل والمال. وفي وقت الفتن حضَّ الإسلام على عصمة النفس وعدم إراقة الدم، والأسلم للمرء حينها أن يلزم خاصة نفسه، ويضرب سيفه في جدار بيته، حتى لا يشارك في قتـل نفس بغير حق، فيربأ بنفسه عن استشراء الهَـرْج. وقـد رأى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة، على ما لها في نفوس المسلمين من نفاسة وقـداسة.

 

(*) كلية الآداب، جامعة بني سويف / مصر.