فنون الحضارة النوبية وآثارها التراثية

في كل زيارة لي لآثار وتراث وفنون جنوب مصر في الأقصر وأسوان أو مصر العليا، كما سميت في الدولة القديمة، حين كانت موطن حكم مصر في عهد الفراعنة، أشعر أنه يجب علينا أن نعيد الفضل إلى أهله فمنذ قامت هيئة اليونسكو بتوجيه نداء عالمي لإنقاذ آثار وفنون النوبة باعتبارها تراثًا عالميًّا يهم العالم أجمـــع، نجحت حملتها الدولية وهب العالم وتضافرت الدول في إنقاذ آثار النوبة وها هو معبد الملك رمسيس بأبو سمبل ومعابد عمدا والدكة والسبوع وفيلة وكلابشة، تقف شامخة مؤكدة انتصار الوعي الثقافي الإنساني بالتراث الأثري.

من أجمل ما قيل عن آثار النوبة ما كتبه العالم الأثري الإنجليزي روبرت كيرزون في عام 1834 “إن كل موقع أثرى في مصر مثير للاهتمام.. لكن المكان الذي يلقب بالمكان الجميل هو “جزيرة فيلة” أو “لؤلؤة النيل” هذا ما سجله مع صور جزيرة فيلة”. ومن أشهر البعثات التي عملت في حفائر النوبة القديمة بعثة المعهد البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة من 61 ـ 64 والبعثة الاسكندنافية المشتركة.

حرص علماء الآثار المصريون والأجانب على تسجيل آثار النوبة بعدساتهم ولوحاتهم من خلال رؤية فنية غاية في الإبداع والإتقان.. كما أن هناك لوحات فنية للفنان سليم حسن سجلها عام 1955 عن وادي السبوع الذي يعتبر واحدًا من أبدع وأهم المعابد في بلاد النوبة الذي يقع على بعد 158 كيلومترًا جنوب سد أسوان العالي. كذلك هناك الفنان مونريه دي فيلارد الذي سجل الآثار المسيحية وقدم دراسته للتسلسل التاريخي، كما تم تقديم أول تصور للعالم عن ملامح الحضارة النوبية وتاريخها من خلال الدراسات التي قدمها العالم الأثري جورج ريزنر خلال عام 1910م.

الطبول من أجل السلام

كان الدافع الأكبر وراء تأسيس فرقة (فرقة الطبول) أهم فرقة نوبية، بالإضافة إلى المحافظة على التراث النوبي الشعبي، هو أن ثمة علاقة بين الإيقاعات النوبية والجذور الفرعونية وأطلق على الفرقة شعار “الطبول من أجل السلام”، من خلال عملية مزج وحوار الإيقاعات النوبية بالعديد من إيقاعات الدول التي تقدم فيها الفرقة عروضها.

وقد تحقق ذلك للمرة الأولى في مهرجان الفنون بكوريا الجنوبية، حيث مزجت إيقاعات فرقة النوبة مع فرقة كورية لتحدث حالة من المزج بين الموسيقى والحوار بين الطبول والإيقاعات. وقد نجحت هذه التجربة نجاحًا مبهرًا، وهي تجربة شديدة الخصوصية الإنسانية حيث جرى هذا المزج بين الفرقة النوبية وفرقة كويتية، بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

وقد تطلب هذا الأمر وقتًا طويلاً لإحداث حالة المزج والتوافق تلك بين الإيقاعات المصرية والإيقاعات الكويتية حتى لا يكون هناك حالة نشاز أو تنافر بين الإيقاعات. وحاولت فرقة طبول أن تحدث بالطبول والموسيقى والإيقاع حوارًا يدعو إلى السلام والحوار وقبول الآخر بين العديد من ثقافات الشعوب في مختلف دول العالم وليس بين الشعوب العربية فقط.

سميت الفرقة بهذا الاسم لاقتصار آلاتها الموسيقية على الآلات الإيقاعية، وهي مختلف أنواع الدفوف مع آلة وترية وحيدة هي الطنبورة. وكان الهدف من إنشاء الفرقة هو حماية التراث النوبي الإيقاعي والغنائي من الاندثار عن طريق اهتمامها بالبحث عن الجذور الإيقاعية النوبية، وعن مدى تشابه الطقوس النوبية بالمصرية القديمة (الفرعونية).

شاركت الفرقة في العديد من المناسبات داخل مصر وخارجها، حيث بدأت أول عروضها على مسرح الأوبرا المكشوف عام 1992، وقدمت في العام نفسه حفلاً موسيقيًّا بالمعهد البريطاني، وفي عام 1993 قدمت عرضًا راقصًا في مجمع الفنون المصرية تضمن أغاني من التراث النوبي القديم، وتوالت عروض الفرقة في العديد من الدول، منها إسلام أباد، وكوت دفوار، وشاركت في الاحتفالية التي أقيمت بمناسبة مرور مائة عام على السينما المصرية في معهد العالم العربي في باريس، كما شاركت في مهرجان “الشرق والغرب” في مدينة بنجلور الهندية ،كما شاركت بعروض في بعدد كبير من الدول الأفريقية والآسيوية والأوروبية الأخرى، من بينها فرنسا وإيطاليا واليابان والكاميرون وباكستان ونيجيريا وبنغلاديش والمغرب وألمانيا وغيرها.

الحلى الشعبية النوبية

تعد الحلى الشعبية أحد عناصر الثقافة المادية التي تتجلى فيها فنون التشكيل الشعبي. فهي تلعب دورًا أكيدًا في فهم مستخدميها، والوظائف التي تؤديها في حياتهم مما يدفع بهم إلى الاستعانة بها واللجوء إليها في عرض حياتهم وأيضًا مناسباتهم الاحتفالية. فالحلى هي مظهر من مظاهر الذوق الفني وأحد مظاهر تطوره، كذلك يمكن من خلال دراستها الكشف عن طبيعة العادات الشعبية الخاصة بكل مجتمع والصلات الإنسانية التي تربط بين أفراده. كما يمكن من خلال رصد ودراسة الأنواع والأشكال والخامات والعناصر الزخرفية التي تحتويها، وفهم طبيعة أذواق الناس ومفهومهم الجمالي وميولهم الروحية وإمكاناتهم المادية. فالذي يضمن لفن صياغة الحلى البقاء هو الاستعمال اليومي الدائم لها، لذا فهي تتصف بمجاراة العرف والعادات وتنتسب إلى الجماعة الشعبية.

لقد كانت للحلى الشعبية أهمية كبيرة في نفوس مرتديها، كما كانت لها علاقة مهمة بالمعتقدات الدينية والشعبية والسحرية التي أثرت بطريقة كبيرة على العناصر الزخرفية المستخدمة في تصميمها ووظائفها التي تدفع السيدات في المجتمع النوبي إلى اللجوء إليها والاستعانة بها في عرض حياتهم اليومية ومناسبتهم الاحتفالية.

إن الحلى النوبية التي كانت نتاجًا لثقافة هذا المجتمع والبيئة المحيطة به التي ارتبطت بدورها بعاداته وتقاليده. فقد تبين من خلال دراسة قطع الحلي النوبية وما تحتويه من عناصر زخرفيه، أمكن استخلاص الآتي:

أولًا: الدور الذي لعبته الطبيعة الجغرافية

لعبت الطبيعة الجغرافية والملابسات المكانية في صياغة عناصر الحلي الشعبية. وقد استطاع الإنسان النوبي بدوره أن يترجم البيئة والطبيعة المحيطة ويحولهما إلى أشكال ومعانٍ ودلالات رمزية تعبر عن انشغالاته وهمومه. وكانت تعبر كل التعبير عن الاتصال القوي والعميق بعاداته وتقاليده ومعتقداته.

ثانيًا: الدور الذي أثرت فيه الجذور التاريخية

أثرت الجذور التاريخية في تحديد العناصر المستخدمة في الحلى الشعبية. فقد لعب الفن المصري والقبطي والإسلامي دورًا كبيرًا في عقيدة الإنسان النوبي، التي انعكست على العناصر الفلكلورية في الحلى الشعبية. فاستطاع الفنان الشعبي بقدرته خلق صور وأشكال وتصاميم الحلى من تقريب المسافة بين خيالاته وواقعه، وساعده ذلك بطريقة قوية على خلق إشارات ورموز نفذها على الحلى بطرق مختلفة.

ثالثًا: التضاريس الاجتماعية في النوبة

لعبت التضاريس الاجتماعية في النوبة دورًا مهمًّا في إنجاز الأفراد إلى أشكال وأنواع وخامات وزخارف الحلى الشعبية. فقد كانت مكانة الفتاة الاجتماعية وإمكانات أهلها المادية من أهم المؤثرات في صورة الحلى. من حيث الخامة المستخدمة في صياغتها وكذلك دقة الصائغ المحترف في صياغته لنقوشه، فكلما زاد ثراء العائلة انعكس ذلك على الخامة المستخدمة، مثل استخدام الذهب بديلاً عن الفضة واستخدام الأحجار الكريمة الغالية الثمن. هذا بجانب اختلاف وضع الفتاة في المجتمع.

رابعًا: الحلي النوبية تفقد وظيفتها

التطورات والتغيرات التي طرأت على الحلى الخاصة بالنوبة سواء من ناحية الخامة أو التصميم أو طرق الصناعة، فقد كانت خامة الفضة هي السائدة في صناعة وتشكيل الحلي في النوبة، ثم قلت تدريجيًّا إلى أن اختفت تمامًا واستبدل الذهب بها

خلال الفترة الأخيرة فقدت كثير من الحلى النوبية وظيفتها سواء كانت اعتقاديه أو احتفالية نظرًا للتطور الاجتماعي والثقافي الذي طرأ على المجتمع. كما تطورت الأساليب الصناعية المستخدمة في زخرفة الحلى وأيضًا في أسلوب تشكيل وبناء الشكل الأساسي لهذه الحلى عندما تغيرت الخامة من الفضة إلى الذهب، بجانب استخدام طرق حديثة في الصناعة نظرًا للتطور الذي نتج عنه استخدم الماكينات وطريقة الصب في القوالب، الأمر الذي ساعد على كثرة وتسهيل عملية الإنتاج، مما ساعد على توفير كثير من الجهد والوقت وأدى بالتالي إلى زيادة المعروض في الأسواق من الحلى الجديدة التي تسارعت السيدات النوبيات إلى شرائها رغبة منهن في التجديد ومواكبة التطورات التي طرأت على سوق الحلى بوجه عام، ونظرًا للتطور والتغير الذي طرأ على حياة الناس في النوبة بشكل خاص.

خامسًا: صياغة الحلى الشعبية في النوبة

تعد الأشكال الهندسية من أهم الأشكال التي استخدمت سواء في التصميم العام للحلى أو على الزخارف المنفذة عليها، وكان المثلث من أهم هذه الأشكال. فبجانب أنه مشاهد في الطبيعة والبيئة في الجبال والهضاب وفي أشكال الودع كذلك، صار له مردود تاريخي فهو يظهر بقوة في الفن المصري القديم حيث إنه يتجسد في شكل الهرم، ومرورًا بالعصور التاريخية اللاحقة.

أيضًا كان استخدم عنصر الهلال والنجوم المستمد من الطبيعة الإسلامية والمردودات التاريخية، بجانب الأشكال المربعة والمستطيلة والأسطوانية والزخارف التي تعتمد على المحاور الصليبية التي استوحاها الفنان النوبي من العقيدة الدينية المسيحية.

كما استخدم شكل النخل بشكل قوي في الزخرفة الداخلية على الحلى متمثلة في استخدام سعف النخيل فقط في زخرفة الحلى النوبية. كما تنوع استخدام العناصر الزخرفية الآدمية والحيوانية في النوبة المتمثلة في أشكال وتكوينات زخرفيه تمثل شكل العين والكف والسمكة، وهذا يرجع في المقام الأول إلى المعتقدات الشعبية والسحرية التي كانت من أهم الأشياء التي تأثرت بها أشكال وزخرفة التصاميم النوبية.

سادسًا: فلسفة التصميم في الحلى الشعبية النوبية:

لقد استخدم الفنان الشعبي في النوبة الخامات المحلية، واستعان بأخرى خارجية كانت وما زالت ذات أهمية تاريخية واعتقاديه كبيرة بجانب دورها في صناعة وتشكيل تصميمات هذه الحلى المميزة. فطبيعة الخامات وطرق استخدام المصمم لها والوظيفة التي تؤديها تؤثر بشكل كبير في بناء الشكل وقدرة الفنان على الابتكار، فكلما اتسعت معرفته بإمكانات الخامة وطرق معالجتها أدى ذلك إلى ازدياد أفكاره التخيلية وقدرته على الخلق. فالتصميم الناجح هو الذي يراعي فيه الفنان كل شيء. وعندما يختلف الغرض من تصميم الحلية أو وظيفتها التي تستخدم تتغير الخامة والشكل.

 

المراجع:

*   د. سناء الصادق – التراث اللامادي النوبي – مكتبة الأسكندرية- 2013 م.

*  د.  زاهي حواس – النوبة متحف مفتوح للحضارة والفنون – مكتبة مصر الحديثة – 2009 م.

*    الشريف الإدريسي – نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.

*   خالد عبد المجيد: دراسات متخصصة في الحرف النوبية.