مما وضعه الله تعالى نِبراسًا تهتدي به البشرية كلها: أن هدى الإنسان لأن يتعلم ويتعرف على الكون من حوله؛ بل جعل العلم هو المفتاح الأول لتكريمه، وتفضيله على غيره من المخلوقات (حتى على الملائكة أنفسهم).. ولنا أن نستشعر قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ جرى حوارٌ قدسيٌّ علويٌّ بين رب العزة سبحانه وتعالى وبين الملائكة الكرام عليهم السلام، سجَّل لنا القرآن الكريم منه هذه الآيات على جهة الإجمال كعادة القرآن الكريم في كثير من القصص.. فظنَّ الملائكة أنَّ الإنسان مخلوق للعبادة فقط وهم في هذا المجال (مجال العبادة) يعبدون عبادة خاصَّة، على أعلى ما يكون وأفضل ما يكون ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، فأراد المولى سبحانه وتعالى أن ينقلهم إلى دائرة أُخرى من البحث والنظر في التعرف على مهمة هذا المخلوق الكريم فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، فكان هذا المجلس القدسي مجلس مباراة ومباهاة، أراد الله تعالى أن يباهي ملائكته بهذا المخلوق الكريم، وكان أساس هذه المباهاة هي العلم ومعرفة الأشياء..
فقبل أنْ يهبط الإنسان إلى الأرض ليعمرها ويصلحها، علَّمَه الله تعالى ما يُعينَهُ على أداء تلك المُهِمَّة العظيمة؛ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، علم ذلك الأنبياء وفهموا أنه هو المنطلق في بناء الحضارة وإعمار الأرض.
فحينما أراد سيدنا يوسف u إدارة خزائن مصر ورفع اقتصادها، كان عِندهُ من الإمكانات التي تجعله مؤهلاً للقيام بهذه المهمة الجسيمة؛ من الكفاءة والأمانة والحفظ؛ فقال لحاكم البلاد: ﴿اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، ولذلك كانت النتيجة التوفيق والتمكين؛ ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾.
بما يُعرَف في علوم الإدارة بالتأهيل، وهو ما عَّبَر عنه العلَّامة الفرنسي “رينيه جينو” (المعروف بالشيخ عبد الواحد يحيى) بـ “التأمل”؛ فيقول: “أجمعت العقائد الشرقية والعقائد الغريبة القديمة على تأكيد أنَّ التأمل أسمى درجة من العمل، مثلمًا أنَّ الثابت أرقى في رتبته من المتغير، فالعمل الذي لا يعدو أن يكون تغيُّرًا انتقاليًّا ومؤقَّتًا للكائن لا يحمل في ذاته مبدأ وجوده ولا علته الكافية، وإذا لم يرتبط بمبدأ أسمى من دائرة وجوده العارض فإنَّه في هذه الحالة مجرد وهمٍ”، ثم يقول: “من هنا أكَّد أرسطو في العصر اليوناني القديم ضرورة وجود المحرك الثابت لكل الأشياء، والمعرفة تنهض بدور هذا المُحرِّك الثابت بالنسبة للعمل.. “
أي: لا بد للإنسان أن يتعلم ويفهم ويتأهَّل أولاً، ثم بعد ذلك يتحرك ويسعى في الحياة وإعمار الأرض، فالبداية هي أن يبدأ بما بدأ به الوحي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ﴾، فيبدأ أولاً بالقراءة والتعلم: قراءة الحياة، قراءة الأحداث، ثم قراءة الأكوان، ليرسم بذلك أُطر العلاقة بين الإنسان وبين الكون الذي يعيش فيه، وليدرك التوافقَ بين الخلق والوحي، والاتساق بين كتاب الله المنظور (المتمثل في الكون الفسيح) وكتاب الله المسطور (المتمثِّل في الوحي الشريف)، والاتساقَ بين عالم الخلق وعالم الأمر، والتناغمَ بين كتاب الله المنظور وكتاب الله المسطور، والتوافقَ بين حقائق العلم ومقررات الشرع؛ لأن الكلَّ من عند الله تعالى؛ ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
ومما يثير الأسى في النفوس أن غابت هذه المعاني عن كثير من المتصدرين من الجماعات المتطرفة -والتي يحب قاداتها ومنظروها أن ينسبوا أنفسهم إلى العلم وأهله، دون تأهيل أو تعليم حقيقي- فتصدروا للخطاب الديني قبل أن يتعلموا، ولذلك نجد أنَّ أحكامهم التي يبني عليها أتباعهم حياتهم ومعاشهم غيرُ سديدة، وأنَّ قراراتهم التي يبنون عليها خططهم ونظامهم غير مدروسة.
وإذا حاولنا أن نُلخِّص تصرفاتهم هذه ونرجع بهم إلى القضية الجوهرية المتسببة في أفعالهم وأحكامهم: نجد أنَّها تكمنُ في قضية (السعي قبل الوعي)، أي: أنَّ العمل والنشاط يسبق التفكير والمعرفة، وقد قال العلماء: إن من سمات التدهور في أي أُمة من الأُمم أن تكون الحركة والنشاط سابقة على العلم الفكر.