أصبحت دراسة المستقبل أمرًا مصيريًّا للدولة التي ترغب في أن تساير العصر وتحقق التقدم والرخاء لمواطنيها، فالمستقبلية علم يهدف إلى توقع الأحداث القادمة والاستعداد لها ومحاولة التأثير فيها، وكذلك تطوير طرق أفضل للتفكير في أمور عالم الغد وفحص ودراسة الأساليب البديلة للتعامل مع مجموعة كبيرة من الظروف المستقبلية المتوقعة، ويجب ألا ننسى أننا جميعًا نصيغ المستقبل بما نفعله أو بما نفشل في أن ننجزه في حياتنا اليومية.
المستقبلية بالمعنى العام: هي دراسة وتوقع وتأمل وارتياد وبحث لأحداث الغد المتوقعة وهي كانت دائمًا محورًا رئيسًا للأحوال الإنسانية، فبقاء الإنسان نفسه يعتمد إلى حد كبير جدًّا على قدراته الواعية على تنظيم الأحداث الحالية في ضوء الخبرات السابقة والأهداف المستقبلية.
لقد تطورت المستقبلية بغية مواجهة التحديات التي سببتها التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية، وعلاوة على ذلك فإن المنظومات المختلفة وأفرع العلوم الداخلة في هذا المجال وتشمل الرياضيات وعلم الاجتماع وعلم الأحياء وعلم النفس والإدارة وغيرها، كانت لها مساهماتها المتعددة، وأظهرت المستقبلية قابليتها للتفاعل والاستجابة للبيئة الاجتماعية والثقافية التي إن لم تكن منبثقة عنها.
إن المستقبل يحدق فينا وهذا ما يحدث حقيقة، بحيث إن ما كان يعتبر من قبل بعيد المدى أصبح الآن قصير المدى لدرجة أن سرعة التغير تبدو كأنها تضغط السنوات إلى شهور وأيام.
هناك عدة طرق للتنبؤ بالمستقبل منها التنبؤات التفسيرية المتعلقة بالمستقبل الممكن والمقبول التي تبدأ بالأحداث والظروف الراهنة، وتعالج أي بيانات تاريخية ذات علاقة بالموضوع، ثم تطرح النتائج البديلة المحتملة للأحداث والظروف المستقبلية، أما التنبؤات المعيارية فتتعلق بإنجاز وتحقيق أحداث وظروف مفضلة مطلوبة في المستقبل. وهناك أيضًا التنبؤات الاستقرارية للاتجاهات التي تفترض أن الأحداث أو التطورات التي حدثت في الماضي سوف تستمر في المستقبل.
ونحن نتساءل: ألم يكن ممكنًا أن ندبر أمورنا بشكل أكثر فعالية؟ وذلك في الوقت الذي يبدو أننا فقدنا فيه التوجهات والتصورات الموحية بالمستقبل، إذ بدأت تؤثر فينا التصرفات الفردية والجماعية التي تحدث في بيئتنا إلى مدى أكبر مما كان يحدث من قبل، وأصبحنا نبحث عن وسائل مواجهة المستقبل، فلماذا لا نأخذ الثقافة العلمية كمثال لأحد هذه الوسائل.
ماهي الثقافة العلمية؟
إن الثقافة العلمية ببساطة هي المعرفة التي نحتاجها لكي نفهم العالم من حولنا، إنها خليط من الحقائق والمفردات والأفكار العلمية، وهي ليست الأمور التي يتخصص فيها الخبراء، ولكن المعلومات الأكثر عمومية، فالهندسة الوراثية والمواصلات الفائقة والجسيمات دون الذرة والمواد الذكية وغيرها من الأبحاث العلمية الحديثة أصبحت تحتل عناوين بارزة في الصحف اليومية.
إنها موضوعات هامة ومثيرة وتتناول القضايا التي تؤثر على حياتنا بالإضافة إلى التهديدات التي تهدد كوكبنا مثل التلوث بكل أشكاله وتأثير الصوب الزجاجية وزيادة ثاني أكسيد الكربون واحتمال اصطدام مذنبات أو كويكبات بكوكبنا الأزرق “الأرض”.
في الوقت الحاضر أصبحت قدرتنا على فهم هذه القضايا وتلك الأمور لا تقل أهمية عن قدرتنا على القراءة، وإذا أمكننا التعامل مع الأخبار حول العلم بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع كل شيء آخر يبلغ علمنا أو يصل مسامعنا، فإننا نكون مثقفين علميًّا.
الطفل والثقافة العلمية
إن “الأمية العلمية” تجعل الإنسان يشعر بالاغتراب والضعف عندما لا يكن قادرًا على تفسير بعض الموضوعات العلمية، إذ كيف يأمل أي شخص في تقدير الخيوط الكامنة العميقة للحياة الفكرية في عصره دون أن يفهم العلم الذي يتماشى معها؟ والعلم تنتظم حلقاته حول بعض الأفكار المحورية التي تشكل أعمدة يرتكز عليها البناء بأكمله، وهو أحد وسائل مواجهة المستقبل.
يجب أن تبدأ الثقافة العلمية مع الطفل، ويجب أن نحرض وسائل الإعلام بمختلف أشكالها على خلق المناخ العلمي للطفل بحيث ينشأ محبا للموضوعات العلمية وقادرًا على ممارسة التفكير العلمي، ومن ثم يستطيع مواجهة عالم الغد دون أن يصاب بصدمة المستقبل.
لكننا حتى الوقت الحاضر غير قادرين على إمداد أطفالنا بالثقافة العلمية وفق المرحلة العمرية التي يمرون بها، بحيث تكون الصورة معبرة أكثر من الكلمات في مرحلة ما، بينما تشرح الكلمات البسيطة الموضوع العلمي في مرحلة أخرى، وهذا ما يطلق عليه “تبسيط العلوم” أي تقريب النظريات العلمية بأسلوب بسيط مشوق للطفل، ومن ثم نبني الإطار الذي سوف يمكنه من فهم قضايا المستقبل والمشاركة فيها بفاعلية.
إن مشاهدة البرامج التلفازية المخصصة للأطفال تبين بوضوح مدى الإهمال والسطحية وعدم القدرة على وضع فقرات علمية يستفيد منها أطفالنا ولا أدري إلى متى يستمر هذا الاستخفاف بعقلية الطفل العربي وقد انقضى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ لا أتصور عدم وجود مجلة علمية للطفل في الوطن العربي تشرح له الموضوعات العلمية بأسلوب بسيط وتعتمد على الصور الباهرة في جذب انتباه القارئ وحرصه على التعرف على الحقائق التي يتضمنها المقال العلمي، ومن ثم ينشأ الطفل محبًّا للعلم، خاصة ونحن نعاني من الميول الأدبية لمعظم شبابنا واتجاههم إلى الكليات النظرية التي تشهد تكدسًا غير مسبوق
إن أطفالنا بحاجة إلى منظومة للثقافة العلمية تشارك فيها كل وسائل الإعلام بتنسيق متوازن وحرص على مستقبل أبنائنا فهم أمانة في أعناقنا، وكل أملي أن أشاهد أطفالنا وهم يتمتعون بالجمال والروعة الفكرية للثقافة العلمية، مسلحين بالعلم والتكنولوجيا.
كيف نبني الخصوصية العلمية العربية؟
إننا نعيش عصر المعرفة وانفجار المعلومات حيث يتجه العالم، -وبخاصة الدول المتقدمة- نحو وحدة المعرفة إذ ينبغي الربط بين العلوم التطبيقية والرياضية والإنسانية، فيما يعرف باسم العلوم البينية بدلاً من اعتبار كل علم أو مجال وحدة منفصلة، وهو نوع من المفهوم المتكامل للعلوم والثقافة العلمية تتطلبه طبيعة العصر الكوني أو العولمي الذي نعيشه.
على أن الأمر الهام هنا الذي تفتقده الخبرة العربية هو ارتباط العلم كنسق خاص للمعرفة بالنسق العام الفلسفي والاجتماعي لها في اتجاه متنامِ حتى دارَ الأخير في فلك الأول مما أسس لعلاقة وثيقة قوامها التداخل المعرفي بين العلم والأيديولوجيا في الثقافات الحية المدققة، إذ جعل لهما أرضية مشتركة هي الواقع التاريخي اللذان يسعيان أصلاً إلى تفسيره، وبهذا المعنى تحركت الأيديولوجيات –الحقيقية لا الوهمية– تجاه المعرفة العلمية حتى خضعت لسلطانها وأخذت تدير الجدل معها من داخلها لأنها استندت في هذا الجدل إلى نموذج المقياس العلمي التاريخي.
ويبقى السؤال الأهم: كيف نبني الخصوصية العلمية العربية؟ في تصوري أن الخصوصية العلمية هي تلك التي تتضمن فضلاً عن النسبية الثقافية “قدرة الفعل التاريخي” مع تحقيق التوزان بينهما كما أتصور أن بلوغ هذه الخصوصية في الحياة الثقافية العربية يستلزم عددًا من الشروط أهمها:
أولاً: تجميد صيغة الأصالة المعاصرة التي حملت لواء التعبير عن الخصوصية طيلة القرن الماضي، ليس فقط لأنها حُمِّلت عنوة بتراث ميتافيزيقي كبير غطى معالمها وأحال مفرداتها لخيال أسطوري ولكن أيضًا لأنها تقوم في مبناها على علاقة سلبية بالزمن تجعل منه أو تتصوره مضادًا للأصالة ونقيضًا للهوية التي لا تجد تجسيدها الكامل والفاعل إلا في تلك اللحظة عند بداية التاريخ وبالتالي فإن حركتها تجاه اللحظة الراهنة لم تكن سوى معول هدم لفاعلية وتحقق هذه الهوية وعندئذ فالماضي بالضرورة هو الأنبل أما المستقبل فمليء بالمخاطر والشكوك.
ثانيًا: اعتماد صيغة بديلة لها تقوم على علاقة الثقافة العلمية بالواقع، وهي الخصوصية الكونية، في تصوري أن هذه الصيغة هي الأنسب لطرح الشكل الثقافي للحوار العام، وذلك لأنها توفر عدة مزايا هي:
أنها لا تقوم على تناقض مبدئي مع التاريخ ولكنها تؤسَّس على تمايز نسبي في إطار الواقع والمقدس لديها ليس الماضي ولكن الهوية هو أمر مشروع تمامًا لأن الهدف يصبح تأكيد الخاص بعيدًا عن تجميد التاريخ، فالخصوصية هنا ليست أصالة الماضي، ولكنها أصالة القيم المستمرة في التاريخ حفظًا للذات، أما الكونية فهي قمة تداعي المعاصرة لتأسيس بنية تحتية قادرة من خلال العلم على استحضار العالم كمتصل لا كمتجانس في سبيلها للإحاطة به دون قدرة غالبًا على دمج أطرافه في داخله بغض النظر عن أية دعاوي تكذبها ممارسات الكونية نفسها.
إن عملية الفرز بين مقومات الخصوصية الكونية تبدو أسهل كثيرًا منها بين الأصالة المعاصرة رغم وحدة المشكل عمليًّا لأنها من ناحية تدور في فلك حقبة تاريخية شاخصة أمامنا وتدور على أرضية نموذج قياسي علمي نعيشه، ولذا فإن هناك إمكانية لحضور التاريخ في لحظته والعلم في نموذجه عند تصور بناء خصوصية تغدو في هذا السياق نسقًا معاشًا مجسدًا في حياة الجماعة القائمة بالفرز، لا في حياة أسلفها القدماء فهم أقدر على الإحاطة بمقوماتها وأهدافها المستخلصة من واقعهم.
إن التأسيس الجديد للهوية عبر صيغة “الخصوصية الكونية” بما يتضمنه من علاقة الثقافة العلمية بالواقع سوف يتيح فرصة ذهبية لتجاوز نسبي للانقسام الآخر الأفقي والأشد وطأة بين ثقافة النخبة وثقافة المجتمع مما يساعد على زيادة تجانسها كضرورة لأي مشروع يحتاج لتعبئة اجتماعية قادرة على حفز جهود الجميع من أجل خلقه.
وبإيجاز فإن الإمكانية المتزايدة لتجاوز هذا الانقسام الأفقي سوف يتيحها انتقال مشكلة التجدد الثقافي من كونها أحلامًا تحلق في ذهنيات نخبة التجديد نفسها أو النخبة المثقفة على أفضل الأحوال لتصبح أيديولوجيًّا قطاع كبير من الجماعة العربية، وذلك من خلال تعددية القضايا المتولدة يوميًّا من الواقع المعاش التي يمكنها تغذية الجدل بين الثقافة والمجتمع.
هل من نهضة بعد الكبوة؟
إن المجتمع العربي بحاجة إلى الإيمان بالعلم كوسيلة مهمة في تحقيق أهدافه وحل مشاكله، فانتشار الوعي بإمكانات العلم يدفع ويساند التطور العلمي المنشود وقد يكن إعطاء اهتمام أكبر بتدريس العلوم في المراحل الأساسية والجامعية، وكذلك عقد الندوات والمحاضرات العامة بغرض تثقيف الجماهير علميًّا، إحدى الوسائل المتعددة لتوفير هذا المناخ الثقافي العلمي.
كما أن مجتمعنا العربي في حاجة إلى دعم الاتجاهات العلمية وتخليص تراثنا الثقافي والعلمي من بعض الرواسب التي لا تمت لثقافتنا العربية الأصيلة بصلة، وبالتالي فإنها تعوق تقدمنا العلمي، وقد يكون من المفيد أن تتجه أساليب تدريس العلوم من الناحية التلقينية إلى تعليم التلاميذ أسلوب التفكير العلمي كأسلوب حياة.
كما أن الإعلام العربي له دوره المهم في إحاطة المواطن العربي ببيئة ثقافية علمية مناسبة لنمو هذا الاتجاه وكذلك فإن الربط بين العلوم الطبيعية والإنسانية سيدعم القيمة الاجتماعية التي ستدفع إلى استخدام العلم استخدامًا سليمًا.
فهل لنا من نهضة بعد هذه الكبوة؟ نهضة قائمة على ثقافة علمية ودراسات مستقبلية أساسها العلم والتكنولوجيا؟
إنها طريقنا لمواجهة تحديات المستقبل وسط عالم مادي لا يرحم.. فإما نكون أو لا نكون.