تعد الشاهدية الإلهية أصلاً للتخلق، أي أن القواعد الأخلاقية تتأسس على الشاهدية الإلهية، لأن الآمر الإلهي سبحانه لا تنفك مراقبته عن أوامره ونواهيه، فهو يأمر ويرى، أي أنه يشهد، وشهادته تشمل ظاهر الأعمال وباطنها؛ إنْ بالصلاح المؤدي إلى قبولها أو بالفساد المؤدي إلى ردها، لكن شاهدية الآمر الإنساني لا يلزم منها تحقيق هذه المراقبة.
ويلزم من هذا أنه “لولا شهادة الإله لهذه الأعمال وشهادته عليها، لما تم للإنسان تخلق، ناهيك عن كمال التخلق؛ وهكذا، فإن الإنسان يتخلق بحصول هذه الشهادة الإلهية التي تأتيه بالفضلين: فضل النظر الإلهي وفضل الحكم الإلهي؛ وعلى الرغم من وجود هذه الصلة البينة بين التخلق الإنساني والشهادة الإلهية، فإن الأوامر الإلهية التي هي القواعد المتبعة في التخلق استأثرت بالاهتمام إلى حد بعيد، في حين لم تُعتبر الشهادة الإلهية التي هي السبب الحقيقي الموصل إلى هذا التخلق، وإلا فلا أقل من أن النظر في الآمرية الإلهية غلب على النظر في الشهادة الإلهية.
ويفهم من ذلك أن الآمرية تجعل الإنسان يأتمر بالأوامر وينتهي عن النواهي دون حصول التخلق، فتبقى عبادته عبارة عن رسوم فاقدة للمقاصد التخلقية والمعاني القيمية، أما الشاهدية فتجعله يتزكى وتسمو أخلاقه لتعلق شهادته بشهادة الإله.
وقد تصير هذه الشاهدية الإلهية العامة في الأنموذج الائتماني شهادة خاصة بمزيد من التقرب نحو الإله، فتصير العلاقة بين الإنسان والإله “علاقة تقرُّب يذهب معها الشعور بقهر الأوامر والنواهي، ويحل محلها الشعور بالاسترواح والأنس؛ ومن ثم، فإن شعور الإنسان بالشاهدية ينزله رتبة على رتبة الشعور بالآمرية درجة؛ وعلى قدر شعوره بالشاهدية، يكون ترقيه من مكابدة المشقة في أداء الأوامر والنواهي إلى التنعم بالود الإلهي الذي يورثه التقرب بهذه الأوامر والنواهي”.
ووفق هذا الأنموذج الائتماني فإن العلاقة بين الإله والإنسان تتحول من كونها قائمة على أوامر ونواهي قهرية، إلى علاقة تقرب تجعل الإنسان الائتماني يشعر بالطمأنينة والسكينة أثناء أدائه للعبادة، وقد نلمس هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “يا بلالُ، أقِمِ الصَّلاةَ، أرِحْنا بها”، فكان اشتغاله صلى الله عليه وسلم بالصلاة راحة له لما في ذلك من مناجاة للمولى جل جلاله، لهذا جعلت قرة عينه في الصلاة، وهذا ما يمكن وصفه بالاسترواح، الذي لا يكاد يلمسه الدياني في عبادته إذا لم يتخلص من تعبده لذاته وصار تعبدًا ائتمانيًّا، “فمتى تأكد الائتماني المتعبد من أن النسبية لا تنفك عن صفاته، تصدى لاستعبادات المشقة والصورة والرياء والطمع التي تدخل على أعماله؛ إذ يتبين أن الأصل في العبادة ليست المشقة البدنية، وإنما الاطمئنان الروحي –أو قل الاسترواح-، ولا هو الصورة الخارجية للعمل، وإنما المعنى الداخلي له، ولا هو إظهار العبادة وإنما الإخلاص للمعبود، ولا هو تعظيم الثواب، إنما تعظيم التوّاب؛ كما يتبين أن الواجب في حق المتعبد هو أن يطلب الاطمئنان الروحي والعمل الداخلي والإخلاص للمعبود وتعظيم التوّاب، فيأخذ في الجد والاجتهاد للتخلق بهذه الخصال القلبية، موقنًا بأنه بقدر ما يدرك من هذا التخلق القلبي، تكون له القدرة على التحرر من استعبادات أضدادها القالبية، مشقة، وصورة، رياءً وطمعًا، فيتسع وجوده المرئي على قدر التحرر من هذه الأضداد”.
فتأكد جليًّا أن مبدأ الشاهدية يجعل التعبد الائتماني يتذكر أفضال اللطف الإلهي، وإذ ذاك لا يتعلق بظاهر أعماله ولا بباطنها، فينفتح له الوجود الغيبي كاشفًا له من الآفاق والأسرار التي يحجبها عنه وجوده المرئي ما يجعل روحه تحيا من جديد وتتذكر بما وجدته بعد نسيان في ذاكرتها الغيبية حينما ألقت السمع وهي شاهدة وشهيدة.
كما أن هذا المبدأ يوصل إلى نتيجتين مهمتين:
إحداهما: أن القيم والمعاني الأخلاقية تتحول إلى قيم ومعان جمالية، أي أن التخلق ينقلب إلى تجمل، بحيث يصبح الإحساس الوجداني مصدر اتصال، لا مصدر انفصال.
والثانية: أن القيم الجمالية تتحول إلى قيم معرفية، أي أن التجمل ينقلب إلى تعرف، بحيث يصبح الإدراك المعرفي مصدر رحمة، لا مصدر قوة.
وهذه الخصوصية الأخلاقية المبثوثة في ثنايا الشاهدية تجعل التعبد ينقلب إلى تجمل، وتجعل التجمل ينقلب إلى تعرف، وبالتالي تنقلب الأوامر والنواهي من كونها رسوم قهرية إلى كونها عبارة عن معاني وقيم جمالية، وهو ما غاب عن الأنموذج الدهراني.
أما المبدأ الثاني الذي هو مبدأ الآياتية فيفرق بين الظاهرة والآية، فالأنموذج الدهراني يتأسس على الظاهرة بعد إفراغها وتجريدها من الدلالات المعنوية، أما الأنموذج الائتماني فيتأسس على الآية مفضيًا شيئين اثنين: فأما الأول، فدلالتها على موجد لها جعلها أمارة شاهدة عليه، وأما الثاني، أنها تتضمن معانٍ روحية وقيم أخلاقية يتم النفاذ إليه بفتح البصيرة والبصر، لهذا فإن “مقتضى هذا المبدأ الثاني هو أن اتصال الدين بالعالم عبارة عن اتصال آيات، لا اتصال ظواهر”، كما رفض الأنموذج الائتماني علاقة الإنسان بالإله في التصور الدهراني المبنية على تصور خارجي معتبرًا إياها آفة تشبيه، وبذلك فإنه “ينفي نفيًا باتًّا الصفة الخارجية عن علاقة الإنسان بالإله؛ ويثبتها لعلاقة الإنسان بالدين كممارسة متصلة بالعالم، باعتبار العالم مجموعة من الآيات التكوينية والدين مجموعة من الآيات التكليفية..
ويتجلى الاتصال الآياتي بين العالم والدين في الحقائق الآتية”:
- أن العالم والدين يشتركان في الدلالة على وجود الشاهد الأعلى بالسوية؛ فلما كان العالم عبارة عن آيات تكوينية، والدين عبارة عن آيات تكليفية، مع العلم بأن كل آية من هذه الآيات عبارة عن علامة دالة على الشاهد الأعلى، فقد اشتركا في هذه الدلالة الوجودية، بل تساويا في هذا الاشتراك، بحيث يكون ارتباط العالم بهذه الدلالة على قدر ارتباط الدين بها والعكس بالعكس، يكون ارتباط الدين بهذه الدلالة عل قدر ارتباط العالم بها.
- أن الصلة بين الدين والعالم باقية ببقاء الإنسان؛ ذلك أن وضع الإنسان الآياتي يتميز عن وضع الدين والعالم، إذ أنه يجمع بين النوعين من الآيات، فهو من جهة خَلْقِه آية تكوينية كبرى، ومن جهة خُلُقه، آية تكليفية عظمى؛ ومن ثم، فإنه يظل، بفضل جانبه التكويني، متعلقًا بالعالم وبفضل جانبه التكليفي متعلقًا بالدين، ولا حياة له بغير هذا التعلق المزدوج، حتى ولو أنكر الدين، لأن إنكاره للدين لا يرفع عنه كونه هو نفسه آية تكليفية؛ ومن هنا تبطل الدعوى الدنياوية التي تقول بأن الدين آخذ في الانسحاب من العالم.
- أن مَثَل علاقة الإنسان بالدين كآيات تكليفية كمَثل علاقته بالعالم كآيات تكوينية، وجودًا وشعورًا؛ فكما أن الإنسان موجود في العالم وجودَ آية تكوينية، فكذلك هو موجود في الدين وجودَ آية تكليفية؛ ولما كان وجوده في العالم هو وجودُ من أُعطي له هذا العالم، كان وجوده في الدين هو وجود من أنزل عليه هذا الدين، فنزول الدين كعطاء العالم آياتنا؛ وهكذا، فالوجود الآياتي في الدين كالوجود الآياتي في العالم؛ وأيضًا كما أن شعور الإنسان متعلق بالعالم بوصفه مجموع الآيات التكوينية، فكذلك شعوره متعلق بالدين بوصفه مجموع الآيات التكليفية؛ ولما كان شعوره بالعالم هو شعور من يخرج إليه، فكذلك شعوره بالدين هو شعور من يَعرج إليه، فالعروج إلى الدين كالخروج إلى العالم آياتيًّا؛ وهكذا، فالشعور الآياتي بالدين كالشعور الآياتي بالعالم.
- أن علاقة الإنسان المزدوجة بالدين والعالم علاقة بطرفين متلازمين تلازم الظاهر والباطن؛ وبيان ذلك أن الائتماني يسعى، لا إلى التفريق بين الأشياء شأن الدهراني، وإنما الجمع بينهما، موقنًا بوحدة مصيرها إيقانه بوحدة أصلها، فضلاً عن إيقانه بتعلق الآيات بعضها ببعض وبأخذ بعضها برقاب بعض؛ ويسلك لهذا الجمع طريقين، أحدهما طريق الاستدلال الذي يجعله يستدل بظاهر آيات العالم على حقائق الدين كما يستدل بباطن آيات الدين على وقائع العالم؛ والثاني طريق الاستبصار، فالاستبصار إنما هو طي الاستدلال بحذف حدوده الوسطى؛ فمن جهة الوجود الآياتي، يرى الائتماني أن عطاء العالم عبارة عن ظاهر نزول الدين، وأن نزول الدين عبارة عن باطن عطاء العالم؛ كما أنه، من جهة الشعور الآياتي، يرى أن الخروج إلى العالم عبارة عن ظاهر العروج إلى الدين، وأن العروج إلى الدين عبارة عن باطن الخروج إلى العالم.
ويتضح مما سبق أن مبدأ الآياتية ينطلق مما يأتي:
- كل ما في الكون هو عبارة عن آيات تدل على الشاهد الأعلى، فالدين عبارة عن آيات تكليفية، والعالم عبارة عن آيات تكوينية.
- يتميز الإنسان الآياتي عن الآيتين التكليفية والتكوينية بكونه آية تكوينية كبرى بالنظر إلى خَلقه، وآية تكليفية عظمى بالنظر إلى خُلقه، فيكون بذلك تعلقه بالدين والعالم مزدوجًا، فتساوى بذلك خروجه إلى العالم مع عروجه إلى الدين، كما أن هذه العلاقة المزدوجة تزاوج بين الظاهر والباطن معًا جامعة بينهما.
وبذلك نتوصل إلى نتيجة مهمة من خلال هذا المبدأ مفادها أن الدين لا يقتصر في تدبيره الأخلاقي على الفرد وحده كما هو شأن العَلماني، أو بتدبير المجتمع كما هو شأن الدهراني، وإنما يشمل في تدبيره الأخلاقي للعالم كله، بل اعتبر أن هذا التدبير الأخلاقي الشامل للعالم هو لب الدين وأصله، أما تدبير الفرد أو الجماعة فهو منبثق عنه ومتفرع عنه، وهذه الغاية العظمى توصل إلى مقصد أعظم وهو أن حفظ العالم مقدم على حفظ الفرد أو الجماعة، ولا غرابة في ذلك إذا كان هذا المبدأ يقر بأنهما متفرعان عن الأصل، فحفظ الأصل مقدم على حفظ الفرع.
ولو أخذ الدهراني بهذا المبدأ لظهر له معنى الوجود واتسع أفقه، من غير أن يكلف نفسه عناء التيه في أسئلته الوجودية التي لا تزيده أجوبتها المتهافتة إلا إعراضًا واستكبارًا، ولا شك أن هذا المبدأ الآياتي لم يفصل بين الشاهدية بنوعيها الإلهي والإنساني، كما لم يفصل بين الآياتية بنوعيها التكويني والتكليفي، وهنا يظهر الفرق بين الشاهد الآياتي في الأنموذج الائتماني؛ الذي يشهد الآية، والشاهد الملاحظ في الأنموذج الدهراني؛ الذي لا يلاحظ إلا الظاهرة، ومعلوم أن هذا المبدأ الآياتي يقر بأن في كل آية دلالة على الشاهد الإلهي.