قرأت الرواية بحذافيرها، وكأنّي شاهدت قصّة سينمائيّة على شاشة من الوهم أتراءى فيه الأرض وكأنّها انعكاس من الجنّة بطبيعتها الخلّابة، وكلماتها المتألّقة الآسرة، خُيّل إليّ للحظة بأنّ العالم كلّه يتواطأ ضدّ العاشقين، وكأن القلب يتّقد هلعًا وحزنًا على ضحيتيْ نار الحبّ والغرام “ممو” و “زين”، كأنّ الدكتور سعيد رمضان البوطي ألبسهما ثوبًا مطرزًا ومرصّعًا بالحلي والجواهر ثمّ أمطر عليهما دموعًا وآهات احترقت بها آلاف الأفئدة مثلي متلظّاة وملتاعة، ثمّ ذهب بهما إلى عالم ساكن واجم لا يلامسه زفير الغياهب والعتمات وشهيق الآلام واللواعج، قصّة تفرّدت بنوعيّتها اللغويّة الأدبيّة البلاغيّة الثقافيّة اللامثيلة، فهذه القصّة جامعة للعاطفة الملتهبة الجيّاشة والمأساة المؤثرة الدامعة والعفّة الراقية السامية والوفاء النادر الفاخر.
هذه القصّة العاطفيّة واقعيّة من أوّل فصل فيها إلى آخر فصل، فليس للخيال فيها شأن، ألّفها الشاعر الكردي المشهور أحمد خاني بصورة ملحميّة شعريّة مشتملة على ألف ومائتين بيت في لغة كرديّة يتجلّى فيها ولهان الحبّ وتشوّقه ونغمة البلابل والعنادل الرشيقة الآسرة، ثمّ ترجمها الدكتور سعيد رمضان البوطي إلى اللغة العربيّة وقدّمها في صورة رواية بديعة ليس لها مثيل، فصبغها بنصاعة بيانه القويّة وأناقة لهجته الفصيحة، ونقش فيها الدكتور أجلى صورة للطبيعة وأبهى تعبير للحقيقة حتى قال: “أنفقت عليها دموعي أكثر مما استهلكت من مداد قلمي”، وإن الأرض الّذي نبت فيه هذا الحبّ وترعرع إلى عشق سماوي هو جزيرة بوطان المعروفة اليوم باسم –جزيرة ابن عمر- الّتي تقع على شاطئ دجلة، وحدث ذلك حوالي عام 1393م، كان بلاد الأكراد آنذاك منقسمًا إلى عدّة إمارات، والقصر الّذي تنبعث منه حوادث هذه القصّة هو قصر الأمير زين الدين، كان معروفًا بشرح صدره الواسع وقلب منفتح للجميع حتّى ذاع صيته بالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها، بل في سائر أنحاء كردستان وجوانبها.
قصّة ليس لها مثيل
كان قصر الأمير آية للجمال الباهر بلمسات عشرات الغلمان وأجمل الجواري الفاتنة في رحابه وشرفاته، لكن هذا الجمال لم ينعكس إلا من الدرتين الشقيقتين، كانتا مثلاً أعلى للجمال ونموذجًا كاملاً للفتنة والسحر الإلهي، كانتا أختين للأمير زين الدين، كبراهما “ستي”، كانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة، وأمّا صغراهما فاسمها “زين”، فقد كانت وحدها البرهان الكامل على أنّ اليد الإلهيّة قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأسمى، يفتن بها الجمال نفسه، كان اسماهما ذائعين في كلّ نواحي بلاد كردستان، لكن لم تلد أمّ فحلاً من عشّاقهما إحدى وجوههما اللامعتين.
كان الأكراد يحتفلون بعيد الربيع أو عيد نوروز في الحادي والعشرين من آذار في كلّ سنة كما يفعلون إلى اليوم، يخرجون فيه إلى ظاهر المدينة فيتمتّعون على ضفاف دجلة وسفوح تلك الجبال ليستقبلوا من وراءه ربيع سنة جديدة، ففي يوم قبله، حينما كان القصر خاليًا، كانتا متجالستين، فاتّفقتا على تطبيق فكرة في الصباح التالي، هي فكرة العثور على رجل يعجبهما، فلم تجدا فرصة للخروج من القصر قبل أبدًا، وفي اليوم التالي، لمّا لم يتخلّف في المدينة أحد من المدنيين والعسكريين، تنكّرتا في زيّ الشباب، وخرجتا من المدينة وهناك تصادفتا جاريتين، كانت فيهما مسحة رائعة من الجمال الوحشيّ القاتل، لكنّ الجاريتين ما إن اقتربتا منهما حتّى أغمي عليهما، فرجعتا خوفًا من علم الأمير، وهما ملقاتان على الأرض مغشيًّا عليهما.
أمّا الجاريتين فما كانتا إلّا تاج الدين –أحد الأشقّاء الثلاثة المعروفين بالشجاعة الخارقة والآخران “عارف” و”جكو”- والأخرى “ممو” الأخ الروحي لتاج الدين، كان شابًّا وسيمًا متخلّقًا بالأخلاق النبيلة، تنكّرا بشعر مستعار وخرجا من المدينة واختلطا كالأميرتين بالجموع، وأغمي عليهما لما هالهما جمالهما وكأنّهما شاهدا ملكًا من الملائكة، فوجدا نفسَيهما وحيدين، وقد تبدّل خاتميهما، حيث نُقش في خاتم تاج الدين اسم ستي، أمّا ممو فمنقوش على خاتمه اسم زين، فعرفا أنّهما فتاتين، وهناك تنبت الحبّ في قلوب كلا الفريقين لأخراه بالنظرة الأولى المتبادلة التي تغلغلت إلى أعماقهم وهزّت مشاعرهم.
كما كان يضطرب قلبا الشابّين حبًّا وقلقًا، كذلك نبتت حبّة شوق لقاء الحبيب في فؤاد الأميرتين، فتمكّنتا معرفتهما بواسطة مربية عجوزة ساحرة، وبأسرع وقت رضي الأمير بتزويج شقيقته ستي مع تاج الدين لشهرته الفائقة السائرة، فتتمّ مراسيم زفافهما بصخب وأبهة، أمّا ممو و زين كانا منهوكيْ العزيمة، فظلا منهزمين، وبالإضافة حقّقت الأيام مخاوفها، فكان يسمّم حاجب ماكر نمام يدعى “بكر مركور” أفكارَ الأمير حقدًا على تاج الدين وصديقه، حتّى أقسم الأمير منع تزويج شقيقته الأخرى مع ممو، وما زالا بعده تكابد العذاب والحرمان، فتقابلا لمرّة واحدة في حياتهما بالحب الخالص الطاهر حتّى زاد قلبهما اشتعالاً واضطرابًا، لكن القضاء الإلاهي أراد شيئًا آخر، فحبس ممو في أحد أبراج القلعة بمكيدة ينفّذها بكر الواشي الخبيث، وما بعد جنّ الحبيبان لشدّة هيامهما، وما زالت زين تتقد برياح الابتلاء وتنتظر له، وحوّل ممو سجنه المظلم المدلهم إلى صومعة، يعبد الله تعالى ويملأ قلبه حبًّا بالله وحده، حتّى قضت سنة كاملة على حالهما، وآنذاك جلبت زين عطف الكلّ حتّى شقيقه، فوافق على زواجهما لكن ما إن وصلت البشرى إليه فوّض روحه إلى الله وأصبح جثّة هامدة، لكن هذا الأمر المفجع أثّرها بشدّة إلى أنّها لم تستطع أن تتمالك نفسها فأسلمت الروح فوق قبره وتمّ دفنها مع ممو في قبر واحد لم يحل بينهما ذرّة تراب دنيوي وهكذا توارى الكوكبان في برج واحد.
هذا هو الأدب
إنّ هذه الرواية فريدة بنوعها بسائر نواحيها، بتشبيهاتها وبلاغتها وبيانها وتقديمها اللامثيل، جمع فيه الدكتور جلّ مشاعره الجذّابة، وكلّ أنواع المحسّنات البديعيّة، كأنّه هو الفنّان البارع نفسه، يرصف الأحجار وينقشها فيقوم بصنعة التلميع، فلم يترك ثلمة خالية من التشبه البلاغي النادر، حيث نرى أنّه يصف الأميرتين فيقول: “كانت هيفاء بضّة ذات قوام رائع، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب، ذات عينين دعجاوين أودعهما الله كلّ آيات الفتك واللطف الّتي تتسامى على التعبير”، فإنّ الدكتور قام بسرد القصّة بالطريقة السلسة الأخّاذة، كأن الملامح القصصيّة تسبح أمامنا و تتجلّى جلاء الشمس هاجر الأيّام، وما يزيد القارئين تشوّقا، هو الحبّ الطاهر الّذي ينمو ويترعرع من طور إلى طور حتّى ينضج اضطرابًا وقلقًا فينتج دموعًا مبلّلة منهمرة للقارئين وشفاء لصدرَيْ العاشقَيْن الظامئَيْن. فإنّ الدكتور يجمع بين دفّتي هذا الكتاب أساليب منفلوطي وإبراهيم المازني والعقاد والأديب مصطفى صادق الرافعي في سطر واحد، حيث تنبعث منها قدرته التعبيريّة العالية وبلاغته السامية والنزعة الأدبيّة الّتي تصدح لحنًا عذبًا وتوسر قلوب القارئين.
إنّ الأدب عند الدكتور ليس مجرّد المخيلة الفنّية المزخرفة أو العاطفة المنفعلة الفكريّة، بل يعرّف الدكتور الأدب في كتابه “هذه مشكلاتهم” يقول: “هي صياغة سامية مضمّخة بالعطر، تقدّم إلى العقول الليّنة المدلّلة، لتحبّب إليها الحقائق، أو ما يصوّر للناس على أنّه من الحقائق”، فالأدب عنده ليس التشبيه بالنساء والتشبّه بالخبائث والمكاره، بل إنّه يرى الأدب مرآة للمجتمع، يراه وسيلة أسمى للدعوة إلى الله تعالى وتوحيده، فيقدّمه بصورة حقيقة بصيصة للحوادث والأمور الإسلامي التي تُجلب بها عقول الإنسان بغضّ النظر عن التميّز الديني أو النظري أو الفكري، فإنّ هذه الرواية المترجمة تتكلّم بالتكلامة الفاضلة عن سائر نظرياته الأدبيّة على وجه أكمل، وما يميّز الرواية من بين سائر الروايات هو الحبّ الطاهر والوفاء النادر مع النظريّة الفكرية الإسلاميّة الّتي تنبثق منها جلاء، فإنّ الدكتور دعا الأدباء إلى أسلمة الأدب وتطهيره من كلّ التلوّثات الفكريّة الغربيّة الّتي تدعو إلى الفحاشة البشعة والجناية الشنيعة والجنسيّة القذرة، نرى أنّه لم يذكر في القصّة شيئًا ما يعكّر الذهن الإسلامي، بل انتظار زين الكئيبة الهزيمة يوحي أبدًا رسالة الأمل على الله وعدم القنوط من رحمة الله تعالى، ثمّ إنّ صبر ممو وانتعاش الأمل في قلبه وثباته على الحبّ الطاهر وتحويل نفسه -في قاع الزنزانة الموحشة إلى لعبة في يد الروح محفّفًا بالأنس الإلهي وبعبادة الله ومناجاته ليل نهار- يعبّر عن الروح الإسلامي الحقيقي ويدعو العالم إلى وحدانيّة الله تعالى وتزكية النفس وتصفيته مهما كانت الظروف والأحوال.