في الفيلم الديني التركي “الطفل المفقود”
إن الفيلم التركي بصفة عامة مبني على تراكم التجارب الدرامية، ومؤسس على نظرة متكاملة للقضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والنفسية، وتعدد الموضوعات التي تتطرق لها الأفلام جعل لها جمهورًا عريضًا في مختلف البلدان العربية، وقد ساعد على ذلك دبلجتها وترجمة حواراتها باللغة العربية، ولكونها كذلك فقد سخرت كل إمكاناتها وطاقاتها من أجل دراما هادفة تلامس التحولات الحاصلة في المجتمع بتقنيات فنية مثيرة.
وللفيلم الديني نكهة خاصة ضمن هذه الأفلام، وهي رائدة في ذلك إلى جانب الفيلم الإيراني مع تفاوتات فنية ورؤيوية. وفيلم “الطفل المفقود” فيلم اجتماعي ديني بامتياز، يتكامل مع كثير من الأفلام الدينية من حيث الرؤية واستحضار الخطابات والشعائر الدينية المؤطرة للتصرفات والأوضاع البشرية ضمن الأمر والنهي والكراهة والاستحباب.
قصة الفيلم
تتمحور أحداث الفيلم حول امرأة تدعى ربيعة الباحثة عن طفلها المفقود الذي هربت به متبوعة بثلاثة رجال مسلحين قتلوا زوجها، وعزموا على قتل ابنها الصغير، ولأنها تحبه فقد أخفته بتغطيته بأوراق الشجر، وعرضت نفسها للعقاب ليقبض عليها الرجال الثلاثة، ويربطونها بفرع شجرة بعد أن أشبعوها ضربًا حتى تفقد وعيها. ولحسن حظها أن راعيًا رءاها وخلصها بعد أن رأى امرأة نازلة من سيارتها وهي تأخذ الطفل منطلقة به إلى منزلها. وباستفاقة “ربيعة” من غيبوبتها صار حلمها الوحيد وجود صبيها “أدهم”، وقد أخبرها الراعي بالمرأة التي أخذته مضيفًا إلى كون الشرطة أوقفوا السيارة التي كانت على متنها هي وزوجها، وقد تمكنت من معرفة رقم السيارة وعنوان منزل الزوجين. وستذهب إليهما وسيصدمانها بكونهما لا يعرفان شيئًا عن الابن.
هكذا ستخوض “ربيعة” رحلة حزن ورحلة أمل، ستقودها إلى مخافر الشرطة وإلى المشافي مرات دون جدوى، أخيرًا يعود إليها الأمل حين تجد عند بائع الأثاث والسلع العتيقة بروشًا لا تشك في علاقته بابنها، فهو البروش ذاته الذي علقته على قماط ابنها الذي سيكون عمره خمسة وعشرين سنة، وحين ستجده أخيرًا ستتعقد الأحداث وتضطرب المشاعر بين “أم أدهم” والأم التي ربَّت الطفل حتى صار من مقدمي البرامج التلفزية، وأدهم الذي لا يعرف من تستحق أن تكون أمه رغم سماعه لقصة أخذه وتخليصه من التيه والضياع… وينتهي الفيلم بمعانقته أمه ربيعة معترفًا بأمومتها وبكونها تستحق أن يعترف بجميلها.
عمق الأمومة في الفيلم
في الفيلم تحتدم العواطف تبعًا للصراع النفسي الذي ينتاب “سوزان” التي فقدت ابنها قبل أن تعثر على “أدهم” ليصير المعوض لفقيدها. وهي في ذات الوقت تفكر في مشاعر “ربيعة” الأم الحقيقية التي تجوب كل مكان باحثة عن ابنها بقلب لا يعرف اليأس والتردد. وقد ركز الفيلم على المرأتين أكثر من غيرهما ضمن أحداث الفيلم مما جعل هذه الأحداث مفعمة بمشاعر التأنيب والعتاب من جهة الأم التي تعتقد أنها فرطت في ابنها رغم كون قصدها شريفًا عندما تخلت عنه وسط الشجر مخافة قتله من قبل الذين قتلوا زوجها، واللوم والعتاب من جهة المرأة التي تبنت الولد حتى صار رجلاً، فهل تفرط فيه وتسلمه لأمه الحقيقية أم تحتفظ به لنفسها بلا مبالاة بما يعتري قلب أمه من أحزان وشجون. وبهذه الصيغة، قدم الفيلم وفق رؤية معمقة للمشاعر حين تنضح بها قلب الأنثى لتشكل بذلك أحداثًا درامية تؤثر في المتفرج وتجعله متعاطفًا معها.
ففي الفيلم مشاهد حية ومؤثرة تعكس المكون العاطفي بصورة تحيل على حقيقته التي تفوق تصوراتنا، فقد كذبت المرأة وأنكرت عثورها على الابن وادعت أنها لا علاقة لها به، لكنها في ذات الوقت تعذب ضميرها مما يجعلها تعيش كوابيس انتهت بها إلى الإفصاح عن الحقيقة رغم مرارتها.
الجانب الديني في الفيلم
صنف هذا الفيلم في المجال الديني، ويدفعنا ذلك بالبحث عن عامل هذا التصنيف، وهكذا نجد اكتناف الخطاب الديني لحوارات الفيلم خاصة حين يتعلق الأمر بأم الطفل “أدهم”. ففي بداية الأحداث والأم تضع طفلها وحيدًا مغطى بأوراق الشجر، كانت تخاطبه بقولها: لقد تركتك في رعاية وحماية الله يا ولدي. وتردد عبر أحداث الفيلم من حين إلى آخر قولها: “كان الطائر الأسمر سيبقى لو لم ينقض عليه الذئب الظالم ويشبع بطنه بالتهامه. لو لم تهب الريح الخائنة لكان تم تتبع أثره… هذه الدنيا رحمتك يا رب”.
علاوةً على ذلك نجد كثيرًا من المظاهر الدينية ضمن الأحداث كأداء الصلاة والدعاء وذكر جزء من سير الأولياء الصالحين… تقول الأخت لأم الطفل المفقود: “أتعلمين لماذا أطلقت اسم إبراهيم أدهم على حفيدي؟ إبراهيم كان من الأولياء الصالحين، وقام إبراهيم أدهم في أحد الأيام بإلقاء إبرته في البحر، ثم قال أيها البحر أعطني إبرتي وسرعان ما جاءت الإبرة إلى الشاطئ جاءت أمام قدم إبراهيم، لماذا؟ لأنه بقدرة الله عز وجل رأى أن قلب سيدنا إبراهيم أدهم أكبر من البحر، مقدس، ونحن كل أمرنا لله في ولدنا وسوف تجدينه في أحد الأيام “وفي ثنايا الفيلم مؤشرات كثيرة تنضح بها خطابات الشخصية وتصب في الخطاب والمعتقد الديني.
نظرة عامة حول الفيلم
الفيلم محكم الحبكة، نجاحه يكمن في تركيزه على موضوع البحث عن الطفل، وهو موضوع تقاطعت فيه خطابات ومواقف الشخصيات المحركة للأحداث. ويحمل رسائل تربوية ودينية متنوعة منها وجوب التفاؤل بالخير، وحسن الظن بالله، والإيمان بالقضاء والقدر.
ورغم كون موضوعه مستهلك دراميًّا، فإن طريقة معالجته في الفيلم منحه نكهة فرجوية خاصة… فيلم قليل الشخصيات مشخص لعاطفة الأمومة والتحدي والمواجهة والبحث من أجل الطفل المفقود. فقلب الأم يُشار إليه عادة بكونه كبير وعظيم عِظَم الأحاسيس التي يحْملها والتي تجعلها تطيق الصبر في خضم المعاناة من أجل أطفالها حملاً ووضعًا وتربية وحماية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
فيلم الطفل المفقود، فيلم تركي، سيناريو: mohmet uyar، وإخراج: nazif tunç.