محاولات لا تنتهي لسبر أغوار (الصندوق المغلق) جسم الإنسان، وفهم أسباب علله وأمراضه، وإيجاد سبل دوائه وعلاجه. وكان الفيلسوف/ الكاهن / الفلكي المنجم/ حكيم القوم يحيط أو هكذا يظن أنه يحيط بأنواع المعرفة المتداخلة، ويتسيّد بهذا العقول والقلوب والأبدان. ومع تنوع المعارف وتعمقها، ونشأة المؤسسات العلمية والتعليمية الكبرى كالجوامع والجامعات، ظهر مصطلح “البحث العلمي”، وأصبح لكل علمٍ علماؤه المقدّمين فيه يراجعون كل جديد، ومطابقته بما هو متوافر من حصيلة علمية ومعرفية.
وفي المضمار الطبي يحتاج الأطباء لاتخاذ قرارات علاجية مبتكرة وأحيانًا عمل تعديلات بخطة العلاج لمواجهة حالة طارئة أو للوصول لتحسن جذري للمريض. ولكن قبل اتخاذ تلك الخطوات ثمة رغبة قوية في وجود (برهان)/ دليل evidence يدعم هذا الإجراء. إذ أنه منذ القرن الثامن عشر ظهرت ممارسات أطباء إنجليز تحاول تقليل الاعتماد على الآراء الذاتية، وإسناد المقاربة الطبية إلى برهان متاح. وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر رفض بعض العلماء الفرنسيين مثل بيير لويس الآراء الطبية المفروضة من المؤسسات الرسمية دون أدلة مقنعة. وصوّبوا إليها سهام النقد لاستخراج دليل أصح من المتابعة الجيدة لمرضاهم. وتم صك مصطلح “الطب المعتمد على البرهان المسنَد بالدليل” عام 1992، من قبل العالم “جوردن جويات” Gorden Guyatt وفريقه في قسم الوبائيات الإكلينيكية والإحصاء الحيوب/ جامعة مكماستر في أونتاريو الكندية.
والطب المعتمد على البرهان/ المسنَد بالدليل Evidence Based Medicine: ممارسة علمية طبية ترتكز على تطبيق أقوى الأدلة العلمية المتاحة من الدراسات والأبحاث الحديثة، مع احترام ملابسات المرضى وأحوالهم، وعدم إغفال الخبرة الطبية العملية للأطباء. وهي طريقة متطورة لمساعدة الأطباء ومخططي السياسيات الصحية على تحسين عملية “صنع القرار”. وذلك عبر مواكبة مستجدات البحث العلمي الطبي ودمج الخبرة السريرية مع علم الوبائيات السريرية والإحصاء الحيوي وباثولوجية الأمراض. كذلك دمج الممارسة السريرية مع الأدلة المستنبطة من البحوث جيدة التصميم والتنفيذ وكذلك أفضل التداخلات الطبية المتاحة والواجب استعمالها وتلك التي يجب تأجيل تطبيقها بانتظار برهان مقبول على مدى فعاليتها.
ويذهب الطب المسند بالدليل لما هو أبعد من الدعم التجريبي إذ يصنف الأدلة بحسب قوتها ومصدرها الذي يجب أن يكون مراجعة منهجية أو تجارب سريرية مكتسبة من أعداد كبيرة من الناس لينصح بها بشدة. أما “تقرير حالة (case report)” فلا ينصح بها لضعفها وصلاحيتها الضئيلة وكونها لم تعتمد علي مجموعات تحكم control groups)) لمقارنة النتائج.
أمثلة توضيحية
– قديمًا كانت مشكلة “الكبد الدهنى” Fatty liver لا تؤرق طبيب الباطني فيقول: «هذا مجرد كبد دهنى»، لكن الآن لا بد أن يؤخذ الأمر بمنتهى الجدية، فقد أثبتت الدلائل والبراهين علاقته بسرطان الكبد.
– وكان أطباء الغرب دائمًا يوصون بوضع الرضع على بطونهم حين النوم وذلك تخوفًا من الارتجاع أو الاختناق، مما يؤدى إلى وفاة الرضع فجأة. وفى ثمانينيات القرن العشرين تساءل بعض الأطباء عما إذا كان هناك دليل يدعم هذه النصيحة الطبية. واتضح أن نسبة الوفيات نتيجة للإصابة بمتلازمة الوفاة المفاجئة للرضع كانت أقل بكثير لدى الأطفال الذين يرقدون على ظهورهم، مما أدى إلى إنشاء البرنامج الوطني «النوم على الظهر» وتطبيقه فى أمريكا.
– وكان الأسلوب التقليدي لدى أطباء الرمد فى علاج سحجات القرنية البسيطةcorneal abrasions هو تغطية العينين ووضع قطرات تحوى موسعًا للحدقة ومضادًّا حيويًّا، ولكن لم يسأل أحد أبدًا عما إذا كان ذلك مفيدًا، فقد كان ذلك هو «الشىء المنطقى»، واتضح أن هناك على الأقل خمس تجارب (عشوائية) مضبوطة بالشواهد حول تغطية العين أو عدم تغطيتها، وجميعها خرجت بنفس الإجابة: ليس لتغطية العين أي فائدة، بل ربما تقلل من سرعة الالتئام وتزيد من عدم شعور المرضى بالراحة.
– فى نهاية ثمانينيات القرن العشرين، لاقى عقارا إينكانيد (encanide) وفليكانيد (flecainide) رواجًا كبيرًا باعتبارهما منظمين لضربات القلب، ويرجع ذلك إلى قدرتهما على السيطرة على عدم الانتظام البطينى ventricular arrythmia، ولكن أظهرت تجربة (عشوائية) كبيرة ومضبوطة بالشواهد (case-control study) أن نسبة الوفيات كانت أعلى بكثير بين من تلقوا أحد هذين العلاجين مقارنة بالشواهد (من لم يتلقوا العلاج)، وهذا يوضح مشكلة الاعتماد على نتائج «وسطية» أو نتائج تتعلق بالداء فقط مثل تنظيم دقات القلب، وليس النظر إلى مقاييس أكثر أهمية للفرد والمجتمع مثل نسبة الوفيات، وجودة الحياة.
مبادئ الطب البرهاني
أولاً: التقييم الجيد لمشكلة المريض وتشخيصها وشدتها عبر صياغة المشكلة السريرية فى سؤال محدد وواضح. وتحديد المشاكل الآنية التي تحتاج إلى تدخل، أي تحويل حالة المريض إلى سؤال، وحصر الإجابات المحتملة.
ثانيًا: إيجاد المراجعات المنهجية أو التجارب السريرية المعاشة التي تقدم براهين عن جدوى المداخلات الطبية الممكنة. وذلك عبر البحث في المصادر الموثوقة خاصة المحدثة أولاً بأول على الإنترنت، عن الأدلة المتوافرة على هذا التدخل أو ذاك.
ثالثًا: تقييم ما إذا كانت هذه البراهين تتوافق مع واقع المرضى والإمكانيات العلمية والمادية. ولا يغيب عن البال تحديد التدخلات الطبية السارية ولا يوجد برهان علمي على فائدتها (عدم توفر برهان يدعم تدخلاً ما لا يعني أنه خاطئ)، مع وجوب إعادة التقييم تجريبيًّا بحثًا عن برهان يدعمها أو يلغيها. ومراجعة صلاحية الرسائل العلمية التي أفرزت هذا الدليل.
رابعًا: وهو أصعب الخطوات حيث يمزج الطبيب خبرته العملية، وتقييمه للحالة، بما وجده من أدلة قوية صالحة ومعبرة عنها، مع احترام رأي المريض وقيمه الخاصة وتوقعاته، وكذلك مراعاة الإمكانيات المادية المتاحة للمؤسسة الطبية. وكل ما سبق يصب في طريق اختيار التدخل الأمثل للتعامل مع حالة المريض، وتطبيق التدخلات الطبية المدعومة ببرهان.
خامسًا: المراجعة التقويمية المستمرة للعملية السابقة، وعمل دراسات إحصائية للتأكد من نجاح القيام بها، ومدى الفارق الذي أحدثه تطبيق هذا المسار في معدلات العلاج أو الوفاة ومعدلات احتياج المرضى للمستشفى من جديد وإصلاح أية أخطاء تظهر في المحاولات السابقة.
طب الخطوط التوجيهية Guidelines
سيكون من الصعوبة بمكان وقتًا وجهدًا، القيام بهذه الخطوات لكل حالة. وهنا ظهرت الـ Guidelines لتنقل الطب البرهاني نقلات نوعية. فستوفر نصف وقت وجهود الخطوات السابقة، وتمنحك ظهرًا أقوى، وأقدامًا أكثر رسوخًا في الممارسة الطبية. وطب الخطوط الإرشادية/ التوجيهية Guidelines أحد التجليات البارزة لتطبيق الطب البرهاني. حيث يجتمع المئات من البارزين في مختلف التخصصات الطبية، سواء على مستويات محلية أو قارية أو دولية، في مؤتمرات كبرى، وورش عمل مكثفة، لمراجعة آخر ما توصلت له الدراسات العلمية الطبية في كل تخصص، وتمييز هذه الدراسات تبعًا لحجمها وصلاحيتها، وقيمة نتائجها عمليًّا وإحصائيًّا، والتحليل الجماعي لأقوى هذه الدراسات التي تمت مراجعتها. وتبعًا لذلك يتم إصدار تعديلات سنوية أو كل بضعة أعوام على كافة الممارسة الطبية في هذا التخصص، فيتم إقرار ما زادت دلائله ورسخت، ويتراجع خطوة أو خطوتين أو يلغى تمامًا ما ضعفت أدلته، أو فاضَلَها غيرها.
ومن أشهر الخطوط التوجيهية ما تصدره الجمعية الأوروبية لأمراض القلب European Society of cardiology guidelines والتي يتلقاها بالقبول، وينتظر جديدها، معظم أطباء أمراض القلب حول العالم. فتصدر كتيبات تفصيلية خاصة بالممارسة الطبية في كل الموضوعات الهامة في طب القلب، وتصدر منها ملخصات موجزة، ولها تطبيق للهواتف الذكية جيد الإخراج وعملي الاستخدام، وشامل الموضوعات، ويتم تحديثه أولاً بأول. وكل ما عليك كطبيب قلب تمتلك هاتفًا ذكيًّا، أن تخرجه من جيبك، وتفتح التطبيق الخاص بالخطوط التوجيهية، وتبحث عما يلتبس عليك تشخيصًا وعلاجًا، وفي دقائق قليلة تكون قد وصلت إلى مبتغاك من آخر ما أكدته الأدلة العلمية والعملية وأوصت به عصارة بحث وتدقيق جهابذة تخصصك عبر العالم. كل ما عليك هو إسقاط هذه المعلومات على حالة مريضك، وظروف بيئة العمل الخاصة بك.
في الختام: نعم. العقل الفردي هو الذي يفهم الدليل، ويقرأ الوقائع أمامه، وينتقي الأنسب لمريضه في بعض الأوقات التي تتقاطع فيها الآراء، أو تتباين نتائج الدراسات. لكن لم يعد مقبولاً ـ طبيًّا الآن أن يكون الرأي الفردي هو الأساس، بل ينبغي الحصول على الطب المسند لدليل من الكتب المدرسية الموثوقة عالميًّا high-quality textbooks، ومن توصيات الممارسة practice guidelines، ومن المنشورات الثانوية secondary publications، ومن المراجعات المنهجية systematic reviews، ومن التحاليل البعدية meta-analysis. فالطب المسند بالدليل يعتمد على “الدليل والبرهان”، لا على “الاعتقاد والتخمين”. ويؤكد على وجوب اقتران رأي فردي اجتهاد الطبيب الشخصي -الذي قد يكون محدودًا بسبب الانحياز والفجوات المعرفية- بالأدبيات والأبحاث الطبية والأدلة القوية، فالدليل العلمي هو الركن الركين للمعرفة والممارسة الطبية الحديثة وهو الآن يساوي حياة.