والاستشراف بصفة عامة يمكن أن يعرف على أنه “عملية فحص منهجي منظم للمستقبل طويل الأجل، وبناء المسارات المتصورة للمستقبل في مجال ما بشكل يؤكد النظر إلى القادم بنظرة ثاقبة، بغية تصور الواقع الحاضر واستيعابًا للماضي، ويقصد به أيضًا كل اجتهاد إنساني لاستطلاع أحداث الزمن الآتي في المستقبل مستهدفًا تحديد احتمال وقوعها، حيث يتناول أحداثًا لم تقع بعد ويشير إلى فترات زمنية لم تأت بعد، واستشرافًا لمستقبل يوجد في الذهن الواعي، والخيال الابتكاري وإبداعاته، والخطط التي يرسمها لاستباق الزمن القادم ومحاصرة المشكلات المتوقعة قبل حدوثها”.
أما الاستشراف التربوي فيعرّف على أنه “رؤية نقدية مستقبلية واعية للمتغيرات العالمية والمحلية في مجالات التربية، ومن خلاله يمكن التعرف على طبيعة التحديات المحتملة وتأثيراتها المباشرة على هذا القطاع، وتحديد الإمكانات والخيارات المتاحة لمواجهة التحديات والتغلب على المعوقات، والتمكن من تطوير العمل التربوي بما يتناسب مع مطالب التنمية واستدامتها في المستقبل”.
وتأتي أهمية الاستشراف في المجال التربوي من كونه يمنح فرصًا أفضل لإعادة هيكلة نظام التعليم، ووضع أسس واضحة لصيغ الإنفاق المستقبلية على عناصر العملية التعليمية، وتحقيق التطور اللازم في المناهج لتتلاءم مع المستجدات والتطورات التي يشهدها المستقبل، كما تأتي أهميته من كونه يعطي رؤية مستقبلية واعية للمتغيرات العالمية والمحلية في المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها من مجالات الحياة، تؤدي إلى التعامل مع التحديات المحتملة وتأثيراتها المباشرة على التربية، وتحديد الإمكانات الممكنة والخيارات المتاحة لمواجهة هذه التحديات والتغلب على المعوقات، والتمكن من تطوير التعليم بما يتناسب مع مطالب التنمية البشرية واستدامتها في المستقبل، كما أن أهمية الاستشراف التربوي تأتي من كونه يساعد على الوقوف على الاحتياجات المتجددة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولتهيئة مؤسسات العمل والإنتاج في المجتمع لمخرجات التعليم مستقبلاً، أضف إلى كل ما سبق أن الاستشراف التربوي يفضي إلى رؤية مستقبلية تساعد على وضع توجهات إستراتيجية عامة لتطوير التعليم، وإلى خطط عمل مناسبة تنفذ بآليات محددة في فترات زمنية متتالية، تُفصّل برامجها ومشروعاتها وفق الحاجات المتجددة والظروف المتغيرة، كما أنه يهدف إلى ترشيد القرارات التعليمية بغية الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة؛ أي تحسين مستوى الكفاءة في توظيف الموارد العامة في مجال التعليم.
إن الاستشراف التربوي -تأسيسًا على ما سبق- إنْ أوليناه الأهمية التي يستحق، سيمكننا من معرفة “كيفية الانتقال من محوريات المعلم والمتعلم والمعرفة التي طغت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات ونهاية القرن العشرين إلى محورية جديدة وحاسمة تتعلق بقدرة التعليم على تهيئة أجيال قادرة على خوض تجربة التعلم الذكي بما يشمل العلاقة الإيجابية مع العمل قيمة وتطبيقًا. وقد تكون من أهم سمات المقاربة الإصلاحية الجديدة، محورة قيم التعلم وتطبيقاتها حول العمل، كقيمة وكهدف للتعلم التطبيقي المنطلق من التعامل الذكي مع الوقائع والظواهر والأوضاع، كما قد تكون مواجهة أشكال الأمية الجديدة، أي أمية اللغات وتصاعد مؤشرات التعامل “الغبي” أو غير المنتج معرفيًّا مع التكنولوجيات الحديثة، هي من أولى خطوات اليقظة الممهدة لصناعة المستقبل”.
فبالاستشراف التربوي إذن، نستطيع تكوين جيل من المتعلمين، عدّته مجموعة من المهارات المختلفة التي ستمكنه حتمًا من مواجهة تحديات عالم سريع التغير، كما أنه بالاستشراف التربوي سيكون بإمكان المتعلمين “امتلاك معرفة تمكنهم من أن يكونوا سباقين في التفاعل، بدلاً من أن يكونوا دائمًا متلقين بسلبية في تعاملهم مع التحديات. فبدون استشراف سيصبحون على الأرجح ضحايا عالم متقلب، غير مجهزين للواقع الذي يعيشون فيه”.
وللقيام بعملية استشراف تربوي أكثر نجاعة، يؤكد المختصون على ضرورة توفر بيانات ومعلومات إحصائية متكاملة عن السكان، وعن القوى العاملة، وعن الاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى المعلومات التربوية المتعلقة بأعداد الطلاب وأفواجهم ونموهم، والقوى العاملة في الحقل التربوي، والمباني والتجهيزات، ونتائج البحوث التربوية، ومصادر تمويل التعليم ومخصصاته من الميزانية العامة للدولة وغيرها.. فتوفر هذه المعلومات والبيانات والإحصائيات ذات العلاقة بالتربية والتعليم، أمر ضروري في أي دولة تسعى إلى إعداد خطط تنموية، اقتصادية أو تربوية، أمر ضروري للقيام بعملية الاستشراف التربوي، بل إن عملية الاستشراف التربوي تكون عملية عبثية ما لم تتوفر لها هذه المعلومات.
إن النظام التربوي بإجماع الدارسين بصفته متغيرًا تابعًا للتحول المجتمعي، وبصفته كذلك محركًا أوليًّا لهذا التحول، هو بحكم دوره وطبيعته أكثر جوانب المجتمع عرضة للتغيير. وبناءً على ذلك فالمتغيرات الحادة التي ينطوي عليها المستقبل وما يفرضه من تحديات، ستُحْدِث بالضرورة هزات عنيفة في منظومة التربية؛ في فلسفتها وسياستها ودورها ومؤسساتها ومناهجها وأساليبها، مما يفرض على القائمين على هذا الحقل، ضرورة إعادة النظر في مسؤولياتهم وطرقهم في تهيئة الأجيال، واستشراف آفاق المستقبل للإعداد لها، وإيجاد صيغة مقبولة متوازنة للنظام التربوي، باعتبار أن الاستشراف التربوي السليم يقتضي تطويرًا متوازنًا ومتفاعلاً لجميع عناصر العملية التعليمية. فالأمم التي تعي هذه الحقيقة وتعترف بها، تعمل من أجل الإعداد لهذا المستقبل، وتصبح التربية هاجسها الأول وهدفها الرئيسي، كما أنها تصبح حريصة على نوعية التعليم التي يتلقاه أبناؤها، لأن المرحلة القادمة -نظرًا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية التي يشهدها عالم اليوم- يجب أن تشهد وضوحًا في النظرة المستقبلية للتعليم، وبشكل ينسجم مع حجم السكان واحتياجاته الفعلية، لكي ينتقل المجتمع وخاصة العربي من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج، ومن مرحلة التبعية إلى مرحلة القيادة، ومن مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة، ويستلزم ذلك وضع خريطة متكاملة لواقع التعليم ومستقبله، تحتوي على تحسين مناهجه وتطوير نوعيته، لتحقيق نتائج تساعد على تلبية متطلبات التنمية.
بالاستشراف التربوي إذن، نستطيع طرح نموذج جديد لمدرسة المستقبل، مدرسة تستطيع بما تتملكه من عناصر قوة وأدوار متعددة وأشكال متنوعة من “مواجهة الأخطار والتحديات؛ فعالم اليوم وعالم المستقبل هو عالم التكنولوجيا المتقدمة، عالم سريع التغير والتطور، وهو ليس بمعزل عن ثقافة المجتمعات التي تصدره، وبالتالي يترك تأثيره في ثقافة المجتمعات التي تستورده، لذا من الطبيعي أن تتغير أهداف المؤسسة التعليمية بتغير أهداف العصر ومستجداته، كما أن عصر القرن الحادي والعشرين ستتضاعف فيه المعرفة، وبالتالي تصبح الإحاطة بها كاملة، أمرًا غير ممكن، وإنما الممكن هو أن يهيأ الأفراد من خلال التعليم لمتابعة حركتها، والقدرة على الوصول إليها، والاختيار منها، والتحقق من دقتها. كما أن من ملامح القرن الجديد -الحالي- إزالة الفواصل والحدود بين الدول والمجتمعات، فبفضل التكنولوجيا الجديدة والتطور التقني زالت كثير من الفواصل والحدود، وبالتالي سيترتب على المؤسسة التعليمية أن تعيد النظر في فلسفتها وأهدافها من جديد؛ بغية صياغة جديدة للقدرات والمكونات والمهارات التي تريد أن تنميها في الفرد”.
من هنا، نرى ضرورة تسطير أهداف واضحة لعملية التدريس في القادم من الأيام في مقدمتها “التدريس من أجل المستقبل”، ولن يتحقق هذا الهدف “إلا إذا تم التخطيط وتدريب القائمين على الشأن التربوي على استخدام الأساليب والإستراتيجيات التدريسية التي تعتمد على تنمية مهارات المستقبل، من خلال الأنشطة التعليمية التعلمية المختلفة التي تشحذ قدرات المتعلمين، وتساعد على تنمية مهارات البحث والاطلاع والتنبؤ بالأحداث والمواقف المستقبلية، على اعتبار أن ممارسة المتعلمين لتلك الأنشطة يساعد على نمو قدراتهم وميولهم، إلى جانب تعديل سلوكهم في ظل العمل والمشاركة والتعلم بما يتفق مع استعداداتهم”.
ختامًا، يمكن القول بأن الاستشراف التربوي بصفة خاصة واستشراف المستقبل بصفة عامة، ليس عملية تنبؤية فحسب، “وإنما هو محاولة لرسم صورة واضحة بمنهجية علمية محددة تكشف عما يمكن أن يحدث مستقبلاً، وذلك في ضوء معطيات الحاضر الذي نعيشه، بل يتخطى ذلك إلى إيجاد علاقات جديدة، إبداعية، تستلزم إطلاق العقول والخيال ووضع تصورات وإسقاطات علمية، تفترض الواقع تارة، والمأمول تارة أخرى، دون أن تنتهي إلى قرار بتحقيق أي من هذه الصور، فهذا أمر يدخل في حيز التخطيط، والقصد هو اطلاع القيادات بوصفها القوى الفاعلة في المجتمع، لكي تعمل على تغليبها على غيرها من الصور، وتوعيتهم كذلك بالنتائج التي يمكن أن تترتب على بدائل معينة قد تبدو مقبولة بالنظر إليها نظرة جزئية، في حين أن النظرة الكلية لها، تبرز العكس”.
إن الاستشراف التربوي يمنح المنظومة التعليمية القدرة على التطور والنهوض والتقدم، وذلك من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة لها، اعتمادًا على طرق علمية وإحصاءات ومعادلات رياضية تبدأ بدراسة الماضي والحاضر، وربطهما بالمستقبل من أجل السيطرة عليه والتحكم فيه وتجاوز منزلقاته، ولهذا يصعب التفكير في المستقبل دون أن نفكر في التعليم ومؤسساته، أو أن نخطط للمستقبل دون أن نخطط للتعليم.
(*) باحثة في علم النفس / المغرب.
الاستشراف التربوي يفضي إلى رؤية مستقبلية تساعد على وضع توجهات إستراتيجية عامة لتطوير التعليم، وإلى خطط عمل مناسبة تنفذ بآليات محددة في فترات زمنية متتالية، تُفصّل برامجها ومشروعاتها وفق الحاجات المتجددة والظروف المتغيرة.