رحم الإنسانية ووحدة الجنس البشري

جاء رجل إلى معاوية بن أبي سفيان فقال له: سألتك بالرَّحم التي بيني وبينك، فقال: أمن قريش أنت؟ قال: لا. قال: أفمن سائر العرب؟ قال: لا، قال: فأية رحم بيني وبينك؟ قال رحم آدم. قال: رحم مجفوة، والله لأكونن أول من وصلها، ثم قضى حاجته. تلخص لنا تلك القصة أن هذا الجفاء لرحم آدم عليه السلام قضية قديمة متجددة، بل هي أبعد من ذلك بكثير منذ فجر الإنسانية.

إن الاسلام يريد أن يظهر هذه الحقيقة المشتركة؛ وهي أن المسلم يشترك مع أي إنسان آخر في أصل الخلقة، حيث خُلقنا جميعًا من التراب، ثم من آدم وحواء عليهما السلام، ومن ثم تجمعنا قرابة الأصل حيث أمرنا الله تعالى بأداء هذا الحق، حيث قال: (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(النساء:١).

وقد فسر المفسرون الأرحام هنا بأرحام البشرية؛ لأن بداية الآية تبدأ بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ)(النساء:١).

وقد دعا الخالق سبحانه أنبياءه عليهم السلام، إلى التمسك بهذا المبدأ الراسخ (الأخوة في الإنسانية)، حتى يرتقي البشر وتعمرَ الأرض. وهذا المبدأ الإلهي أرسته كل الشرائع التي سبقت الإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان السماوية، ولحفظ ما سبقه من أديان.

إننا في مارثون الحضارة الإنسانية قد تمكنا من شتى فروع العلم ومختلف نواحي المعرفة، بما أفاد البشرية في كثير من مناحي الحياة، ولكن ثقافة الإنسان وحضارته في الوقت ذاته، قد أضرت الناس كافة في أُخوتهم الإنسانية؛ وذلك لأنها قامت على المادة، وأولت اهتمامها بالآلة اهتمامًا يفوق اهتمامها بالإنسانية. وبقدر الطفرة التكنولوجية واتساعها، والمنجز الحضاري وامتداده، فلم تطمئن الجنوب في المضاجع، ولم تجف العيون في المدامع، نتيجة هذه الرحم المجفوة (رحم آدم) وغياب شعور أن الإنسان أخو الإنسان.

وحدة الأديان السماوية في أصولها

يُرجع الإسلام الأديانَ السماوية كلها إلى أصل واحد وهو الوحي الإلهي، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد، لذلك يدعو الإسلام أتباعه إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين والكتب السماوية، فقال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)(البقرة:٢٨٥).

لقد جاءت الديانات السماوية في مجمل أصولها، لتنظيم الحياة بين البشر، وتوجيه سلوكات معتنقيها إلى ما هو خير، وإبعادهم عن كل ما هو شر، مبشِّرة معتنقيها بمجتمع ينعم بالمساواة والعدل والتسامح واحترام الآخر، والإعلاء من شأن الإنسان، والإيمان بخالق كل البشر وكل ما هو موجود في الكون. مجتمع قائم على قيم التعايش والتفاهم، ينعدم فيه الإقصاء والتعصب والعنصرية، والاحتفاء بالإنسان مهما اختلف لونه أو عرقه أو دينه أو لغته.

ولا عجب في هذا؛ خاصة إذا علمنا أن ما نطلق عليه ديانات تجاوزًا، هي في حقيقتها دين واحد بإصدارات متعددة، مصدرها واحد وهو الله عز وجل، قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، والأنبياءُ إخوةٌ من علاتٍ وأُمهاتُهُم شتى ودينُهُم واحد وليس بيننا نبي” (رواه البخاري).

فالديانات السماوية كما يقول “مروان أبو صالح” في كتابه “القيم الأخلاقية في المسيحية والإسلام”: لم تكن منفصلة عن بعضها البعض، فكل نبي إنما جاء ليكمل مسيرة من سبقوه، يصوّب ويتم ما قد بدأه الله منذ بدء الخليقة وأرسل الأنبياء. قال النبي صلي الله عليه وسلم: “مَثَلي ومثَلُ الأنبياء من قبلي كمثَل رَجُلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناسُ يطوفون به ويَعْجَبون له ويقولون: هلّا وُضِعت هذه اللبنةُ، قال فأنا اللبنةُ، وأنا خاتَمُ النبيين” (رواه مسلم). وفي هذا السياق، يقول المسيح عليه السلام: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل.

يقول المستشرق الفرنسي “هنري دي كاستري”: إن الأنبياء متحدون في المذهب منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلي الله عليه وسلم، بين الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن.

الإيمان بسنة الاختلاف

“أختلف معك لكني أحبك” عنوان رائع لأحد الأدبيات المهمة، يتماهى مع فكرة “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”. إن هذا الاختلاف -بطبيعته- اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.. إنه تخصيب للحوار وتنويع للأفكار، فمن تصادم الأفكار تبرق الحقيقة، بل نحن على يقين أنه إذا اختلف عاقلان وجد كل في صاحبه ما ينفعه. بل إن الأكثر من هذا، أننا لا نتخيل الحياة بدون وجود هؤلاء الذين نختلف معهم، على حد قول القائل: إنني أشعر بوحدة هائلة، لقد مات كل الذين أختلف معهم.

أزمة الاتفاق وتطابق وجهات النظر

نعم ليس كل اتفاق في وجهات النظر يثير أزمة، لكننا في كثير من الأحيان نجد أن الحاجة ماسة، والضرورة ملحة لتعدد وجهات النظر، وتنويع الآراء حول بعض القضايا.

إن”الفريد سلون” رئيس مجلس إدارة شركة جنرال موتورز يقول في أحد اجتماعاته بمديري شركته: أيها السادة، إننى أفهم الآن أن هناك اتفاقًا كاملاً بين المجتمعين على القرار المعروض هنا، لذلك أقترح تأجيل مناقشة الموضوع لاجتماعنا القادم، لنعطي فرصة لتنمية وجهات نظر مختلفة، فربما نفهم شيئًا جديدًا عن القرار المطلوب اتخاذه.

لا سبيل أمامنا إلا أن نعيش ونتعايش جميعًا أمةً ومواطنين، ولا حل أمامنا غير مد الجسور، ولا طريق أمامنا إلا ما نعبّده نحن بوقع خطانا على الأرض وبالسير قدما صوب أنفسنا.. وبهذا ننسجم ونتماهى مع سنة الله في الخلق؛ فإذا كانت الواحدية والوحدانية والتوحيد هي ما يخص الخالق الإله، فإن التعدد والتنوع والاختلاف هو ما يخص من سواه وما سواه.

والمهم في هذا -من باب العدالة والإنصاف وتحقيقًا للتعايش- أن نقف على مسافة واحدة بيننا وبين من نختلف معهم، أو نختلف عنهم، من حيث إتاحة الحرية للتعبير رغم الاختلاف.. لنرفع أصواتنا مع “فولتير”: “إنني وإن كنت أختلف معك، فإنني على استعداد أن أدفع حياتي ثمنًا لحريتك في التعبير عن رأيك”. فماذا لو كان ما يجمعنا مع هؤلاء الذين نختلف معهم أكثر مما يفرقنا، وكما يقول “دي بونو”: “إذا كنت لن تغير تفكيرك، فلماذا يكون لك عقل؟”. ونعود لنؤكد أننا نواجه بقائمة من المشكلات، لا يمكن أن تحل إلا بتغيير طريقة تفكيرنا.

إن من أهم الدوافع التي تقودنا للاحتفاء بالاختلاف والتنوع، أن الاتفاق وتطابق وجهات النظر، يمثل أزمة في حد ذاته، لذا كان عمر رضي الله عنه يقول: “ما سرني أن أصحاب النبي لم يختلفوا” (رواه البيهقي). نعم، إن الطريق إلى احترامنا وتقديرنا للاختلافات بين البشر، هو أن ندرك ونعي جيدًا أن الناس لا يرون العالم كما هو عليه، وإنما يرونه من خلال نظرتهم هم، وهو ما يجعلنا حبيسين لقانون المنطق الثنائي (صواب/خطأ)، ولا ندرك البديل الثالث.

أحضر أحد العلماء مجموعتين من الأفراد، وأسقط لهم عدة كلمات لا معنى لها على شاشة أمامهم، وكان قد أعطى تعليماته إلى المجموعة الأولى أن الكلمات التي سيشاهدونها تتعلق بوسائل موصلات وسفر، وقال لأفراد المجموعة الثانية إن الكلمات التي يشاهدونها تتعلق بأسماء حيوانات وطيور؛ وذلك للتهيؤ نفسيًّا للتجربة. وفعلاً ظهر أثر الاتجاه النفسي من خلال إجابة أفراد كل مجموعة؛ إذ إن نسبة ٤٧٪ من إجابات المجموعة الأولى، جاءت متعلقة بطرق مواصلات، بينما جاءت نسبة ٦٣٪ من إجابات المجموعة الثانية متعلقة بأسماء حيوانات وطيور.

ومن هذا يتبين أن سلوكنا يتوقف على كيفية إدراكنا لما يحيط بنا من أشياء وأشخاص ونظم اجتماعية، ونحن نتعامل مع المثيرات الموجودة في البيئة كما ندركها، وليس كما هي عليه في الواقع.

نعم إننا إلغائيون في كثير من أمور حياتنا؛ نتعامل في كثير منها بمنطق “إما، أو”، وننطلق وفقًا لقاعدة “كل شيء، أو لا شيء”، علما بأنه في كثير من الأحيان هناك الطريق الثالث. وقد كان الصحابي يأتي النبي ويسأله عن دابته بقوله: أأعقلها أم أتوكل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل” (رواه الترمذي)، وإن كان ضعيفًا إلا أن معناه صحيح. هذا هو الطريق الثالث، وهذه هي الوسطية، وهي ليست نقطة بين طرفين بقدر ما هي مدى بين نقطتين، نجتهد من خلاله، ونُعمل عقولنا، ونبدع في الوصول لحلول غير مألوفة. إن الاعتقاد بأن هناك رؤية وحيدة للأشياء، وحلاًّ أوحد للمسألة، يمنع من تقليب وجهات النظر.

إن من سنن الله تعالى اختلاف الناس في الأديان والأفكار والتصورات، وهذا الاختلاف هو من إرادة الله تعالى ومن سننه الماضية، حيث جعلهم مختلفين فيما سبق، حيث يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)(الروم:٢٢)، وبين الله تعالى أن سننه تقتضي وجود هذا الاختلاف، حيث يقول الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود:١١٨). يقول كثير من المفسرين: لأجل الاختلاف خلقهم؛ ومن ثم فهو تنوع في إطار الوحدة، ووحدة في ظل الاختلاف.

ومهما كانت هذه الاختلافات، فإن المشترك الإنساني بين جميع بني البشر، ثم المشتركات في أصول الأديان، والقيم العليا أكثر، تبقى أكبر وأعظم من المفرّقات، والعيش المشترك. إن الله تعالى خلق الأرض لجميع المخلوقات بما فيها الحيوانات والأشجار والنباتات، فالجميع له حق فيها. وعلى المسلم أن يعلم بأن لجميع البشر من غير المسلمين، بل لجميع الخلق حقوقًا يجب عليه أن يحافظ عليها، وأن لا يأخذ حق غيره، بل عليه أن يعطي كل ذي حق حقه.

ومن ثم فإن الآية الكريمة (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)(الرحمن:١٠) من أقوى الأدلة على ضرورة التعايش السلمي بين جميع البشر مهما اختلفت الشعوب والأقوام، وأهل الأديان والتصورات، وأن هذه الاختلافات من سنن الله تعالى لأجل التعارف والتحاور والتعاون لخدمة الجميع.

التعايش والهوية والتأكيد على الكرامة

من أهم ما يتعين علينا فهمه، هو أن التعايش بين الديانات، لا يعني عدم الحفاظ على هوية كل أصحاب المعتقدات، بعيدًا عن الإقصاء أو التهميش أو الهيمنة. ولا مشاحة هنا أن يفيد كل من الآخر ما دام لا يتعارض مع هويته.

لقد جعل الله هذا الإنسان مخلوقًا مكرمًا حيث قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)(الإسراء:٧٠ )، وهي النظرة التي تختلف تمامًا عن نظرة الماديين للإنسان. ومن كمال التكريم جاءت تلك النفخة الربانية، واللطيفة الإلهية الواردة في قوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)(الحجر:٢٩). وكأن القرآن الكريم يمهد للتعايش من خلال هذه الروح المشتركة، ويعطي للإنسان كرامة لا تضاهيها كرامة بسبب وجود تلك النفخة من روح الله تعالى فيه.

والإنسان بهذه المثابة بنيان الله، وملعون مَن هدم بنيانه سبحانه. وبناء على ذلك، فإن المؤمن بهذه الحقيقة، لا يستطيع أن يعتدى على هذا الإنسان الذي له هذه القدسية والتكريم من عند الله عزوجل، ولذلك جعل الله إزهاق نفس -أيَّ نفس- بدون حق، كقتل الناس جميعًا، قال سبحانه: (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(المائدة:٣٢). ولذلك يكون قتل هذه النفس بدون حق، أشد على الله تعالى من هدم الكعبة حجرًا حجرًا.

كما كان من تمام التكريم، أن جعل الله سبحانه هذا الكائن خليفة له في الأرض، وأسجد الملائكة إليه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون)(البقرة:٣٠).

وقد ظهر تكريم النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم للنفس البشرية في أرقى تجلياته، حتى بعد موتها في موقفه صلي الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: أن النبي (مرّتْ به جِنازة فقام، فقيل له: إنها جِنازة يهودي، فقال صلى الله عليه السلام: “أليستْ نفْسًا؟”.

(*) أستاذ المناهج وطرق التدريس والأديان المقارنة بجامعة قناة السويس / مصر.