قد يكون استخدام النانوتكنولوجي في بناء واحد من أكثر المختبرات الطبية تقدمًا هو في حد ذاته خبرًا عاديًّا، لكن الغريب هو “مصير هذا المختبر”، فمن المرجح أنْ يقوم أحد العلماء في مجالات علم وظائف الأعضاء أو الكيمياء الحيوية وغيرها، بابتلاعه كما لو كان يبتلع كسرة خبز أو قطعة حلوى.. وفي نفس الوقت توصلت الأبحاث إلى تصنيع كاميرا لوضعها في الحاسب الكبسولة، لتعمل بالتعاون مع الأجهزة الأخرى. إذن، الحاسب الكبسولة من خلال رحلته داخل أجهزة الجسم، سيتمكن من الكشف عن عديد من الأمراض الموجودة بالفعل، أو تلك التي تستعد لمهاجمة الإنسان.
إن الإعلان عن بناء مثل هذا النوع من المختبرات، قد تناوله من قبل فيلم عُرف باسم “رحلة خيالية” عن قصة مأخوذة من الكاتب “إسحاق اسيموف” تتحدث عن مجموعة من الجراحين تم تصغيرهم وحقنهم داخل جسم إنسان يحتضر، لإجراء جراحة دقيقة لإزالة تجمع دموي في المخ، وهو الفيلم الذي نال إعجاب الجماهير لاعتماده على فكرة خيالية جديدة وإن كانت مجنونة تماما، غير أن إمكانية تحقيقها بات أمرًا ليس مستحيلاً كما ثبت مؤخرًا.
إن تطوير مثل هذا النوع من أجهزة النانوتكنولوجي المتناهية الصغر، من خلال الحاسب الكبسولة المبحر داخل الجسم البشري، سيمكّّن العلماء من علاج بعض الأمراض عن طريق التعامل مع الخلايا المريضة، دون أن يكون للأدوية المستخدمة آثار جانبية على باقي خلايا جسم الإنسان، كما هو الحال بالنسبة للخلايا السرطانية التي يؤدي التعامل معها كيميائيًّا إلى إصابة الخلايا الأخرى بأعراض جانبية سيئة، كما سيمكّن الكبسولات من توصيل الدواء إلى الخلايا مباشرة دون مروره على باقي أجهزة الجسم، وما إلى غير ذلك من الاستخدامات الطبية المفيدة.
على أية حال، فإن تكنولوجيا المستقبل ستقوم على أساس مثل هذه الأجهزة ذات الحجم المتناهي الصغر، الذي أطلق عليه الغرب “التكنولوجيا النانومترية” أو “نانوتكنولوجي”. وقد بدأ الرهان على هذه النوعية من الاستثمارات، حيث تتسابق الدول الكبرى على احتلال مقعد الريادة في هذا المجال.
ذاكرة مشتركة
لعل من بين خيالات عقلاء العلماء أو العلم الخيالي، والتطورات التقنية و المعلوماتية المتدفقة بلا انقطاع، ما أذيع مؤخرًا في الأوساط العلمية عن نتائج تجربتين تحاولان إيجاد إطار مشترك يربط العقل أو المخ البشري بالحاسب مباشرة؛ بشكل عضوي أو ذهني أو حسي وشعوري.. ففي التجربة الأولى قام العلماء بإنشاء خط اتصال سلكي مباشر بين المخ والحاسب، بما قد يؤدي مستقبلاً إلى أن يجلس الإنسان إلى الحاسب، ويفكر في كتابة رسالة بالبريد الإلكتروني لصديقه فتنتقل الحروف ذهنيًّا وبشكل تلقائي -دون معاناة اليد أو تحريكها- من المخ إلى الحاسب مباشرة، وتتم كتابتها على الشاشة مباشرة.
أما التجربة الثانية فهي تحاول ترجمة الأحاسيس والأفكار الشائعة التي تشكل الذاكرة المشتركة بين الناس إلكترونيًّا، ووضعها في شكل منطقي يمكن للحاسب فهمه، والهدف هو زرع هذه الذاكرة في الحاسب لتحقق نوعًا من المعرفة المسبقة بين الحاسب والبشر تقوم على الذاكرة المشتركة بين الاثنين، فتضفي مزيدًا من السهولة والألفة في استخدام التطبيقات والبرامج المثبّتة على الحاسب، وتجعلها تقدم خدماتها لمستخدم الحاسب بشكل أكثر ذكاء وسرعة وسهولة وفهما.
التجربة الأولى جرت على مجموعة من القردة في جامعة برازن، وأعلن نتائجَها الأولية “د. دونجو” أستاذ العلوم العصبية بالجامعة، في مجلة “نيتشر” العلمية. وفي معرض شرحه للتجربة، قال إن القردة في المعامل تجلس الآن أمام الحاسب وتلعب لعبة الكرة والدبابيس على شاشته، وهي لعبة تتدحرج فيها الكرة من أعلى إلى أسفل، ويتحول فيها أحد المربعات إلى اللون الأحمر مع قفزات الكرة، وتمارس القردة تلك اللعبة ذهنيًّا من خلال اتصال مباشر بين الحاسب ومخ القرد دون أن يحرك شيئًا أو يلمس الفأرة. وقد أظهرت القردة دقة وسرعة في تحريك الفأرة كما لو كانت تحركها بكف اليد، فكيف حدث ذلك؟
طبقًا لما شرحه رئيس الفريق، جرى الاستناد في تصميم هذه المحاولة إلى قاعدة علمية يعرفها جميع الباحثين، وهي أن الناس يفكرون في المكان الذي يريدون أن يضعوا فيه أيديهم قبل أن يحركوها؛ فهناك جزء من خلايا المخ العصبية تقوم بهذه الوظيفة بسرعة فائقة قبل بدء تحريك اليدين، وحينما تمارس هذه الخلايا وظيفتها فإنها تصدر نبضات كهربية ذات خصائص معينة، هذه النبضات ترسم وتحدد في النهاية حركة اليد واتجاهاتها والأماكن التي ستتوجه إليها. ولذلك فكر الفريق في أنه إذا تم تحديد هذه الخلايا بدقة وتم رصد أو استراق السمع إلى ما تصدره من نبضات، أو إشارات كهربية في لحظة اتخاذ العقل قراره بتحريك اليد في اتجاه أو شكل ما، ثم نقل هذه الإشارات عبر “كابل” يتم توصيله بالحاسب لتقوم برامج متخصصة بترجمتها إلى الحركات التي كان يقصدها المخ، فربما أمكن نقل أوامر المخ إلى الحاسب ذهنيًّا، وليس عبر حركة اليد أو النقر على لوحة المفاتيح.
لاختبار هذه الفرضية، قام الفريق بعمل أبحاث مكثفة لتحديد وتوصيف هذه الخلايا المسؤولة عن وظائف الحركة في مخ ثلاثة قردة، وبعد النجاح في تحديدها قام الباحثون بعمل فتحات محسوبة في جماجم القردة الثلاثة، ثم ثبتوا ١٠٠ قطب كهربي في جزء من المخ الموجود به الخلايا المسؤولة عن السيطرة على الكيفية التي تتحرك بها الأذرع، ثم قاموا بتوصيل هذه الأقطاب الكهربية بأسلاك، ومرروها عبر الفتحات التي صنعوها بالجمجمة، ثم قاموا بتوصيل تلك الأسلاك بالحاسب.
الميموم البشري
كان الباحثون قبل ذلك قد درّبوا القردة على ممارسة لعبة الكرة والدبابيس، حتى تكون جاهزة عند بدء التجربة التي استهدفت إنشاء علاقة مباشرة بين عقل القرد والحاسب في التجربة؛ فلاحظ العلماء أنه حينما يلعب القرد مباراة الكرة والدبابيس على الحاسب، تولِّد بعض الخلايا العصبية الإشارات الكهربية ذات المواصفات الخاصة، وعلى الفور تم تسجيلها، أو بتعبير أدق الاستماع إليها، من خلال النبضات التي تنطلق بالقرب من الأقطاب الكهربائية.
وقام الفريق بكتابة برنامج على الحاسب يترجم هذه الإشارات إلى أوامر يتلقاها الحاسب، وفي تلك التجربة وجدوا أن المسار البديل الذي تم إنشاؤه بالأسلاك بين مخ القرد وجهاز الحاسب، جعل من الممكن أن تتم الحركة المطلوبة دون أن تستعين القردة بأذرعها.
لقد كشفت تلك التجربة -كما أوضح الباحثون- أن مخ القرد أظهر طاعة وقبولاً فائقين في تغيير نفسه من أجل القيام بوظائف جديدة، وقال الدكتور “ويليام هيتديركس” مدير برنامج البحوث العصبية في المعهد القومي الأمريكي للأمراض العصبية -وهي إحدى الجهات التي تمول أبحاث جامعة براون- إنه توقع أن تقوم الحيوانات بتعلم السيطرة على أداة الكتابة عقليًّا أو ذهنيًّا، ولكن السرعة والجودة التي تعلمت بها السيطرة على حركة أداة الكتابة كانت مدهشة، فقد استغرقت دقائق وليس أسابيع.
هكذا أثبتت التجربة أنه بالإمكان إنشاء خط اتصال سلكي مباشر بين المخ والحاسب بعيدًا عن اليدين، ليبدأ الحديث عن الحاسب الذهني أو الحاسب الذي يعمل مع الذهن والعقل دون وساطة من اليدين. وبالطبع فإن هذه الفكرة أصبحت أكثر نضجًا من الخيال العلمي، لكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى بحوث مستقبلية، ومن غير المعروف على وجه الدقة الآن إلى أي حد يمكن تطبيقها مع البشر، وإن كان رئيس الفريق أشار إلى أن مثل هذه الخطوات سوف تساعد يومًا ما المشلولين على استخدام أفكارهم في السيطرة على بعض الوظائف لدى أعضاء الجسم، أو من أجل كتابة بريد إلكتروني، أو التجول عبر الشبكة العنكبوتية العالمية للاتصالات والمعلومات.
أما التجربة الثانية التي تناثرت أنباؤها خلال الفترة الماضية، فقد أطلق عليها اسم “الميموم البشري”، أو شفرة الذاكرة البشرية، وصاحبها هو باحث أمريكي أيضًا يدعى “ديوج لينات” وهو من رواد الذكاء الاصطناعي، ويلخص مشروعه في كلمتين هما “حوسبة الأحاسيس”، ويقصد بذلك محاولة “تكويد” أو تشفير كل الأحاسيس الموجودة في ذاكرة الإنسان، وزرعها في الحاسب على شكل رموز يمكنه فهمها. والباحث “لينات” هذا، يريد أن يُنشئ شفرة أو كودًا خاصًّا للذاكرة المشتركة بين الناس، والمتداولة منذ أكثر من ٥٠ ألف عام مضى، والتي تتكون من حقائق ومعلومات ومفاهيم مصطلحات تشكل ذاكرة الإنسان التي يستخدمها مع العالم من حوله، ثم تشفير هذه الذاكرة برموز خاصة ووضعها في قاعدة معرفية يمكن للحاسب التعرف عليها والتعامل معها، لتكون ذخيرة أو موردًا يُغذي أي تطبيق أو برنامج يجري تشغيله على الحاسب.
ما تحقق حتى الآن في عملية حوسبة الأحاسيس الشائعة، شمل فهرسة وتشفير ثلاثة ملايين قاعدة أو حقيقة من تلك الأشياء التي يعلمها الشخص العادي حول العالم، بالإضافة إلى ٣٠٠ ألف مصطلح أو مفهوم من المفاهيم مثل “اللقاء الأول”، أو قاعدة مثل “الناس يكونون أكثر تأدبًا في اللقاء الأول عنه في اللقاء التاسع”. ويقول لينات: إن أشياء كثيرة من هذا النوع معروفة كحقائق من آلاف السنين مثل “إذا كنت تحمل حاوية تفتح من جانب واحد، فلا بد أن تحملها وناحيتها المفتوحة لأعلى”.
إن لينات، يخطط لأن تصبح القاعدة المعرفية للميموم البشري متاحة للجميع حول العالم. وأصدر بالفعل نسخة من هذه القاعدة تضم ٥ آلاف مفهوم و٥٠ ألف حقيقة من الحقائق الثابتة حول هذه المفاهيم. كما استعان بالشبكة العنكبوتية كي يقوم الناس جميعًا بوضع ما لديهم من معارف ومعلومات وحقائق تساعد في بناء الذاكرة البشرية عن العالم من حولهم في شتى المجالات. ويتوقع أن تكون الإضافات التي سيتلقاها مشروع الميموم البشري، ستجعل هناك المليارات من الحقائق والمعلومات والأحاسيس، المتعارف عليها والمسجلة في شفرة الذاكرة البشرية، وأنها سترتفع إلى ١٠٠ مليار في غضون خمس سنوات. وقطع لينات عهدًا على نفسه، بأن القاعدة المعرفية المفتوحة والمتاحة للجميع، ستستمر ولكن بفارق ٢٤ إلى ٣٠ شهرًا تأخرًا عن أحدث الإصدارات التي يتم التوصل إليها أولاً بأول.
(*) باحثة وكاتبة مغربية.