التحضر وضع كسبي يستحدثه الإنسان بإرادته الحرة وفق عوامل ذاتية وموضوعية تفضي إليه. وهو جهد جماعي مدفوع بتصور حقيقة الوجود وموجهًا بالغاية من الحياة. فهو في مبدئه واطراده محكوم بتلك الغاية وقائم من أجل تحقيقها. ومن ثم فإن قومًا لا يملك تصورًا بيّنًا لحقيقة الوجود، ولا تصورًا واضحًا لغاية الحياة، لا تنمو حياته إلى وضع من التحضر، بل يبقى على حال من البداوة أو ما هو شبيه بحال البداوة.
الحضارة والثقافة أية علاقة؟
قال بعضهم إن الحضارة Civilization والثقافة Culture مصطلحان يحملان معنىً واحدًا كما قال بذلك “تايلور” عالِم الأنثروبولوجيا البريطاني، وذهب البعض الآخر إلى أن المصطلحين يختلفان عن بعضهما ولكل منهما معنى محدد؛ حيث بينوا أن الحضارة تقتصر على التقدم المادي للمجتمع، في حين تقتصر الثقافة على أفكار وعقائد الإنسان. وتحدّث “تزفيتيان تودوروف” عن أنهما مستقلتان في مفهوميهما لكن غير متعارضتين، فوجود الثقافة شرطٌ أساس لتكوّن الحضارة. ويرى المفكر “حسين مؤنس” أن الثقافة هي ما تُميّز كل بلد عن آخر، فهم -مثلاً- يجتمعون في العلم، وهذه العلوم لا تختلف من بلد إلى آخر؛ فالطب في فرنسا هو نفسه في إنجلترا، فصميم العلوم وقواعده واحدة، ولا تختلف من بلد إلى آخر رغم اختلاف اللغة بينهم.. أما إذا نظر الإنسان إلى ناحية أخرى، فسنجد الأدب في بلد يختلف من ناحية الموضوعات واللغة المُستعمَلَة من الأدب في دولة أخرى، فالأدب يختلف باختلاف البلد والأديب نفسه وذوق البلد وأهله.. وهكذا الحضارة والثقافة هي الأمر نفسه؛ ذلك أن العلوم تعبّر عن الحضارة وليس عن الثقافة، أما الأدب الذي يختص به بلدٌ عن آخر ويختلف من شعب لآخر، فهو الذي يحدّد ثقافة بلد معين أو أمة معينة من الأمم.
عوامل قيام وسقوط الحضارات
إن حركة الوجود تخضع لسنن ونواميس إلهية، ولقد عالج القرآن الكريم إشكالية السنن التي تحكم حركة الوجود حفظًا له من الفوضى والفساد. ولما كان عمران الأرض مقصدًا من مقاصد الرسالات السماوية، كانت سنن المداولة والمدافعة والاستبدال والاستدراج وغيرها من السنن الحضارية، هي الحاكمة على الواقع. ومن ثم فإن السيرورة الحضارية للأفراد والأمم، محكومة بهذه السـنن الشاملة والثابتة والقوانين المضطردة، وهي سـنن محايدة، وهـذه السنن المحايدة تعتبر سننًا جزئية تعطي كل من يوظفها على قدر سعيه في تسخيرها والتعامل معها. غير أن هناك سننًا كلية هي السنن التي جعلها الله مفتاحًا لقيام الحضارات بمفهومها الشامل كسنَّة الإيمان.
وما ينبغي ملاحظته، أنه لا غنى للسنن الجزئية عن السنن الكلية، ولا غنى للسنن الكلية عن الجزئية. فحضارة تؤمن بالله ولكنها لا تكتشف سنن الآفاق والأنفس، هي حضارة عاطلة؛ وحضارة تستنطق السنن الجزئية يومًا بعد يوم، هي حضارة تائهة ضارة لنفسها نافعة لغيرها عند اكتشافها لسنن الرقي المادي، وهذا يعني أن لهذه الدنيا مقاييسها التي تجري على الجميع. وفي كل أمر جعل الله له في هذا الكون الحسي -عالم الشهادة- سنة يجري عليها، والإنسان مهما تكن عقيدته ومهما تكن نيته وباعثه، يمكن أن يستثمر هذا الكون ويستفيد من هذه السنن. ويعتبر التحضُّر مظهرًا للسلوك الجمعي، فالحضارة ظاهرة إنسانية إرادية قيامًا وانحدارًا، وتدخل هذه الظاهرة ضمن دائرة محكومة بقانون الأسباب الإرادية؛ فإذا شاء الإنسان أن يتحضر فإنه يتحضر، وإذا شاء أن ينحدر فإنه ينحدر، تلك مسؤوليته التكليفية في نطاق القدر الإلهي العام الذي يدور فيه الوجود كله.
ومن يلاحظ عوامل قيام وسقوط الأمم والحضارات، يجدها تكمن في صميم الموقف البشري، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقات المادية. فأي تغيير ناجح في عالم الشهادة لإحداث التحضر أو استعادته، لا بد أن يبدأ من تغيير ما بالأنفس، ويتحقق هذا عبر المنظومة الإيمانية التي تنبثق عن شرعة الإسلام وعقيدة الإيمان بالله وتوحيده.
فالدين طاقة دائمة، وحافزية متجددة، وقابلية انبعاثه أمر واقع لا مراء فيه، من هنا كان الدين يمثل أكبر مُقَدَّرات التجييش، وأَنفس ذخائر التحشيد التي يمكن أن يرصدها الإنسان للرهانات الحضارية الكبرى، والتحديات المجتمعية المصيرية. ودين الإسلام بما هو مكوِّن تعبدي وسلوكي يومي، بات هو مَحْضن القيم ومستزرعها، والنسيج العضوي الذي تنمو فيه وتتشكل، وتأخذ صورها وألوانها. وأمور الإيمان به التي تقوم عليها الحضارة، فيها من جانب القوى التي تحلّي الإنسان بالأخلاق الجميلة والملكات الحميدة وتعمل على تنميتها والمحافظة عليها، وفيها من جانب آخر جميع القوى التي تحرضه على الرقي والتقدُّم في الدنيا وتؤهله لاستثمار أسباب الدنيا ووسائلها، وهي إلى هذا، تنشئ فيه الأخلاق الفاضلة التي لا بد منها لإحراز الرقي والتقدم الحقيقي، وفيها أكمل قدرة على أن تنظم قوى الإنسان العملية، وتحركها بنظام وتصونها من عوامل السقوط.
الأخلاق والأمراض الحضارية
يقوم الصالحون المصلحون عند النهوض والإقلاع الحضاري، بنشر صلاحهم ليشمل مجتمعاتهم. فكونهم صالحين هذا شأن خاص بهم، أما أن يكونوا صالحين مُصلحين فهذه رسالتهم لتجنب الهلاك. ومن رسالتهم الأخلاقية الحضارية، التأكيد على أن البر بالأوطان امتداد للبر بالوالدين، والتوعية المستنيرة بخريطة الفروض الحضارية، وتنمية التأهب لفروض الكفاية كما الحال سواء بسواء عند القيام بفروض العين. والعمل على تكريس ازدواج قيم العلم والدراية، والحفظ والأمانة، عند تولي أمور الحياة العامة، مع استمرار المحاولات الدؤوبة، والفكر الأواب كثير الرجوع إلى الحق والصواب.. ففي النظم الحضارية تحتل قضية الفكر الأواب مركز الثقل اعترافًا بالقصور الإنساني وعدم الإحاطة بكل شيء، وتبقي القيمة، والمكانة ليست بقيمة ممتلكات الناس ومظاهرهم، بل بقيمة أعمالهم وجوهرهم ومحاولاتهم الدؤوبة وفكرهم الأواب.
ذلك لأنه إن لم يتم تشخيص أسباب العلة وتوفير سبل العلاج، ستبقي كل الأدواء موجودة، بل مُستفحلة. إنها سنن الفطرة، وأسس الطب والمداواة، ومدار العلاقات الأسرية والاجتماعية والحضارية.. وإن تشخيص العلة الجيد، يتبعه علاج جيد، وما لم تعالج أسباب المرض، سيبقي الداء مستشريًا وعُضالاً. ينطبق هذا على أدواء المخلوقات، وأمراض المجتمعات، ولعل أمراض المجتمعات أشد خطرًا لعموميتها وضراوة خطرها، من أمراض أفرادها، لأنها تأخذ وقتًا لعلاجها وكُلفة لالتئامها.. ومن ذلك أن الله وضع لكل غريزة فطرية مثل الرغبة في الطعام والشراب والتناسل والمال.. في نفس الإنسان وظيفةً محددةً، بغية بناء الجسم والانتشار والتكاثر وعمارة الأرض، والإنفاق في سبيل الله تعالى.. فمن فصل الغرائز البشرية عن وظائفها الفطرية، وطلبها لذاتها منفصلة عن غاياتها المنشودة، فقد تعدى على أمور الفطرة وميزان الحياة، مما يؤدي إلى ارتكاسات فردية ومجتمعية وحضارية خطيرة. يؤدي كذلك إلى ضعف بذل الجهد الجماعي لإنجاز الترقي المادي والمعنوي، وإلى إشكالية عرقلة التوجه المجتمعي نحو التعاون والتحاور والتعايش الداخلي والخارجي. لقد بات من المتعارف عليه، أن الكلمة يرد عليها بالكلمة، والفكر يحاجج بالفكر.. لكن العيب كل العيب والفشل كل الفشل، أن يرد على كلمة اللسان بالسنان، أو أن يواجه الفكر بالقهر، تلك سنة ماضية يقاس عليها في عالم الأفكار والأفراد والمجتمعات والثقافات والحضارات. ولقد نحت المفكر الجزائري الكبير “مالك بن نبي” مصطلح “القابلية للاستعمار”، إشارة لتوافر أمور من شأنها تيسير استعمار الشعوب، بيد أن الاستعلاء النفسي المنبثق عن الثقة بالله تعالى، ثم المستمد من الإيمان بعظمة القيم الحضارية النابعة من الإسلام، ستقاوم تلكم الظاهرة (القابلية للاستعمار).
جناحا الإقلاع الحضاري
للإقلاع الحضاري جناحان لا غنى عنهما؛ جناح المعاني والأفكار والبشر، وجناح الماديات والحرف والحجر. فمن استثمر في الحجر فقد أضاع البشر، ولن ينهض من كبوته وتخلفه عن الركب، ومن نهض بالبشر دون الحرف والحجر فقد بات مكتوفًا، لا يجد ما يسد رمقه، ولا ما يستر جسده، ولا يداوي علته.. ولقد كانت تجربتنا الحضارية السابقة، -والمأمول استعادة انطلاقها- لم تحدث إلا في إطار مفهوم “الأمة”، وهو مفهوم قرآني إسلامي، متجاوز لمفاهيم أخرى كالقبلية والعشائرية والقومية والأيديولوجية. لذا ستنهض الأمة من كبوتها، وتفيق من غفوتها، وتتجاوز تأخرها، وتداوي علتها عندما تستثمر في إنسانها وتماسك مجتمعاتها، كما تحافظ على مواردها وثرواتها، وتصون عقيدتها وقيمها، وتشحذ فكرها وتستلهم تاريخها، وتنهض بعمرانها وعمارتها، وإصلاح تعليمها وتنمية وعيها، وتعالج أمراضها ومثالبها، وتضبط بوصلتها نحو أهدافها العليا، وتستشرف -بعلم وعمل وعزم وصبر- مستقبلها، وتستعيد ريادتها، وتنشر رسالتها، وتحقق خيريتها.. ولا يظن ظانٌّ أن التغيير المجتمعي الحضاري يسير في نهج خطي مستقيم، بل إنه فعل دائري تراكمي.
ولعل ما لحق بنسقنا الحضاري الشامل، إنما هو انعكاس للحال التي وصل إليها إنسان الحضارة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات ودولاً. بيد أن عوامل الإقلاع الحضاري متوافرة للنهوض من جديد متى ما تم الاستعانة بها. والحضارة لا تتجدد ولا تعاود النهوض مرة أخرى، إلا في إطار منطلقها الأول وخصائصها الذاتية واستحضار ماضيها وربطه بحاضرها؛ لأنه من المحال الانسلاخ عن منجزات التاريخ. ولن تستطيع تدمير أمة علمت وعرفت ووعت تاريخها.. فهو وقودها لصنع حاضرها واستشراف مستقبلها.
بعد طول بحث وتفكر من خلاصة ما توصل إليه الفلاسفة وأصحاب الماورائيات، أنه بدون “وحي سماوي” سيظل العقل البشري في حيرة واضطراب وذهول وبعد عن اليقين والسعادة، وما قيمة الدين إن لم تُنظم وتهيمن شرائعه وشعائره على الحياة والدين هو الحياة، كما أنه لا عقل ولا علم إلا بصلاح الدارس والمُدرس، والعالم والمتعلم، والمنهج والمنهجية، ومن قبل وبعد الرؤية والإستراتيجية. كذلك علينا تقبل تنوع مشارب من نعيش معهم، حتى يتحول تنوعنا إلى تنوع مثمر لا إلى تصادم مدمر. فكل ذلك وغيره، يقوم على تهذيب الملكات، وقيام الحضارات، وإرشاد النفوس، وإشراق الشموس، والهداية إلى صراط مستقيم، وانعقاد ميزان العدل والحق.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.