ذكر “إدوارد كاسنار” و”جيمنر نيومان” في كتابيهما “التخيلات الرياضيات”، أن عمر الخيام بالرغم من شهرته في قصائده المسماة بـ”الرباعيات” التي لا تخلو منها مكتبة من مكتبات العالم أجمع، إلا أنه فوق هذا كان رياضيًّا بارعًا وفلكيًّا أصيلاً. ويقول عنه “عمر كحالة” في كتابه “العلوم البحتة في العصور الوسطى”: “كان عمر الخيام من أنبغ الذين اشتغلوا بالرياضيات ولاسيما الجبر”.
ولد الخيام في نيسابور عاصمة خراسان في عهد السلطان أرطغرل أول ملوك السلاجقة عام 436هـ/1044م، وتوفي عام517هـ/1123م في عهد السلطان سنجر. والجدير بالذكر أن شعره اشتهر برباعياته التي ترجمت إلى لغات مختلفة نظمًا ونثرًا، وقليل ممن يلمون بشعره يعرف إبداعه الملحوظ في العلوم المختلفة، مما دعا علماء الشرق والغرب على السواء، إلى تلقيبه بـ”علاّمة الزمان”.
إن الخيام نشأ نشأة فاضلة هذبته حتى أصبح حكيمًا من حكماء الإسلام وفيلسوفًا من الفلاسفة الأعلام، بل أصبح علاّمة الزمان في الطبيعة والرياضيات وعلم النجوم والفلك.. لذا ندبه ملك شاه السلجوقي مع جماعة من العلماء، لتعديل تقويمه السنوي، عام 467 هجرية. وقد كانت نتيجة عملهم تقويمًا قيل إنه لا يخطئ إلا يومًا واحدًا كل 3770 سنة، أي أنه أدق كثيرًا من تقويمنا الحالي الذي يخطئ بمقدار يوم واحد كل 3330 سنة. وفي نفس الوقت كان عمر الخيام حجة في الدين والفقه، بل ويرجع له الفضل الكبير في وضع أصول قراءة القرآن الكريم، فضلاً عن أنه كان ضليعًا في اللغة العربية متعمقًا في أسرارها.. وقد تميز شعره ورباعياته بتضمنها الكثير من الحقائق العلمية، فضلاً عن سماتها الخلقية واتصافها بصبغة الفلسفة والحكمة.
الخيام ورباعياته
إن قلة من المسلمين ينظرون إلى رباعياته المشهورة فقط، دون باقي كتبه وعلمه وما وصل إليه في مجالات كثيرة، فيرون أنه شاعر مستهتر في دينه وخلقه، حر النزعة، إباحي المذهب، على الرغم من أن شعره مثل شعر كثير من الصوفية؛ مشحون بعبارات رقيقة ووجدانية تحتمل التأويل على طريقة الصوفية في الرمز والألغاز، لكن مهما اختلف الحكم عليه إلا أنه لا يمكن لأحد أن يقلل من موهبته وشاعريته الفذة.
لقد اصطبغت رباعياته -وما أكثرها- بالطابع الصوفي الوجداني الذي يحث الناس على تنزيه النفس الإنسانية بتطهيرها من المؤثرات المادية والحسية، وتحريرها من الطمع الدنيوي الذي يعوقها عن الاعتقاد الحق، ويسمو بها في السماوات العلى. ولذلك نظر إليه بعين الإجلال والإعظام من معاصريه، وقد كان ملك شاه السلجوقي يُجلسه على كرسي خاص جانب عرشه في ليالي مسامرته وأنسه.
وقد عدد رباعياته المؤلفون؛ فبعض المؤرخين اعتبرها في عدد لا يزيد على ثلاثين أو أربعين، ذات دلالة مهمة في النهضة الإسلامية، وبعضهم زاد على ترجمة مئات من الفارسية، وقلة من المؤرخين أكد أن عددها يربو على الألفين أو أكثر.. ومعظم الباحثين في شعره ورباعياته قد تعارضوا في تحديد ماهيته، فمنهم من وصف فلسفته قائلاً إنه أبيقوري (Epicurus) النزعة والميول، ومنهم من قال إنه إباحي ومستهتر بتعاليم الإسلام وأحكامه، ومنهم من وصفه بأنه معرّي المذهب، كما طعن فيه بعض الناس بأنه دهري، وزعم بعضهم أنه تناسخي، وظن الكثير أنه باطني، ووصفوه بالتشاؤم والجبرية، وادعى آخرون أنه ثائر على كل شيء؛ كالدين والأخلاق والعقل.
ولكن حقيقة شعره إذا أُحسن تفسيرها وتأويلها، نجد له أبعادًا روحية وانعكاسات صوفية، ولكن أفهام الناس تختلف في أمثال هؤلاء العباقرة، كما اختلفوا من قبلُ في شخصيات عميقة ملغزة مثل محيي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، والذين اقترب من قامتهما عمر الخيام شعرًا وعلمًا وإحساسًا، بدليل أن مؤلفاته وخاصة رباعياته، ما زالت تترجم وتطبع بكل لغات العالم.
ويرى الكاتب “حسن سليمان” أن المشكلة التي وقع فيها بعض الشعراء العرب، ترجع إلى اعتمادهم ليس على الفارسية التي كتب بها عمر الخيام أشعاره ومؤلفاته، بل على ترجمة “فيتزجرالد” الشاعر الإنجليزي لتلك الرباعيات التي نشرها عام 1856م، ونشرها في الشرق والغرب على أوسع نطاق، واعتمد معظم أدباء الشرق على هذه الترجمة، ولم يعرفوا عمر الخيام إلا على ضوء الرباعيات المترجمة على يد الشاعر الإنجليزي الذي صاغها ثانية شعرًا.
عمر الخيام الرياضي
قدم المسلمون فترة ازدهار حضارتهم إسهامات رائعة في تطوير علم الجبر وفي نظام الأعداد الحالي، كذلك أدخل مسلمو الغرب الرمز إلى الجبر، كما تشهد على ذلك أعمال العالم الأندلسي “القلصادي” في كتابه “كشف الأسرار عن علم حروف الغبار”. وعلم الجبر هو علم إسلامي، فبالرغم من أن “ديوفنطس” (Donphantus) السكندري ناقش حل معادلات الدرجتين الأولى والثانية، إلا أنه لم يكن به نظام عددي سهل بنى عليه حلوله. وقد استخدم المسلمون أفكار ديوفنطس وأفكار الهنود إلى جانب نظامهم الخاص بالأعداد، لتطوير الجبر وإدخال اسمه، وقد بدأ استخدام الرموز في الجبر بأخذها من حروف الهجاء عندهم.
إن عمر الخيام له السبق والشهرة بمعالجته حل المعادلات التكعيبية عن طريق علم الهندسة، فحصل على أحد جذورها على اعتبار أنه الإحداثي الأفقي لنقطة في تقاطع دائرة بقطاع مخروطي.
وقد برع الخيام في علم الجبر، وكان موهبة علمية فذة، لها قدرة على الربط والتنظيم والتنسيق، فهو من الرواد القلائل الذين صنفوا المعادلات بحسب درجاتها وبحسب عدد الحدود التي فيها، ولئن كانت المعادلة البسيطة ذات الحدين (ص=س) و(س=س2) بأشكالها الستة المعروفة منذ عصر الخوارزمي، إلا أن التوسع في تقسيم المعادلات وتصنيفها لم يتقدم كثيرًا قبل الخيام.
كذلك تمكن الخيام من حل المعادلات من الدرجة الثالثة والرابعة، وفرّق بين الحساب والجبر، وأثار وجود مثل هذا الحل في معادلات الدرجة الثانية، إلا أن جهوده قد ذهبت سدى. ومن الجدير بالذكر أن أبا الريحان البيروني قد توصل إلى حل المعادلات التكعيبية بطرق جبرية، ولكننا للأسف نجهل الطرق التي استعملها، إذ لم يصل إلينا شيء منها. أما الخيام فإنه لما أخفق حيث أفلح البيروني، فقد استعان بالهندسة، فكان قبل أن يباشر الحل الهندسي لمعادلة ما في الدرجة الثالثة، يعمد إلى كتابة كل معادلة على صورة متجانسة.. وقد عالج الخيام خمسة وعشرين نمطًا من المعادلات التكعيبية، بالإضافة إلى المعادلات التي تكون فيها المجاهيل مرفوعة إلى قوة سالبة، كما قام بتصنيف هذه المعادلات إلى سبعة وعشرين نوعًا، ثم عاد فقسمها إلى أربعة أنماط يتألف النمط الرابع منها إلى ثلاثة صنوف.
لقد اهتم الخيام اهتمامًا خاصًّا بالمقدار الجبري وهو يبحث في علم الجبر، وكان أقليدس قد حل فقط المقدار الجبري ذا الحدين مرفوعًا إلى قوة أس اثنين، فابتكر عمر الخيام نظرية ذات الحدين المرفوعة على أس أي عدد صحيح موجب. ينص “ديفيد يوجين سميث” في كتابه “تاريخ الرياضيات” على أن علماء الرياضيات في القرون الوسطى، وعلماء ما قبل القرون الوسطى، حلوا نظرية ذات الحدين، وهي التي بواسطتها يمكن رفع مقدار جبري ذي حدين على قوة معلومة. وفك إقليدس المقدار الجبري ذا الحدين مرفوعًا إلى قوةٍ أسها اثنان، ولكن عمر الخيام فك المقدار الجبري ذا الحدين مرفوعًا إلى أسس 2، 3، 4، 5، 6، 7، ….، (ن)؛ أي عدد صحيح موجب. ولذا اعتُبر مبتكرًا “نظرية ذات الحدين”، كما حل الكثير من المعادلات ذات الدرجة الثانية.
لقد عكف عمر الخيام على البحث في عمل الجبر، فدرس المعادلات الجبرية من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، وذلك في عام 471هـ/1074م، وعالج المعادلات التكعيبية معالجة منهجية منتظمة نادرة في نوعها عبر العصور. واستخرج الجذور لأية درجة، ومن هنا لا يكون غريبًا أن يقول المستشرق “أريك بل” في كتابه “تطور تاريخ الرياضيات”: “إن عمر الخيام حل المعادلات الجبرية ذات الدرجة الثالثة بطريقة هندسية أبدع فيها، فوصل إلى درجة من النضج الرياضي لم يسبقه إليها أحد”. كما يذكر “عز الدين فراج” في كتابه “فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية”: “أن عمر الخيام له السبق والشهرة بمعالجته حل المعادلات التكعيبية عن طريق علم الهندسة، فحصل على أحد جذورها على اعتبار أنه الإحداثي الأفقي لنقطة في تقاطع دائرة بقطاع مخروطي”. وقد نشر العالم الفرنسي “ووبك” عام 1851م كتاب الخيام في الجبر موضحًا هذه الحقيقة.
واختصارًا، عالج عمر الخيام في رياضياته ثلاث قضايا مهمة في تطور الفكر الرياضي الأصيل خاصة بهندسة أقليدس. حاول الخيام أن يثبت بالبرهان خاصة التوازي التي وضعها إقليدس كمسلمة (أي تقبل بدون برهان).. وفي محاولاته كاد الخيام أن يتوصل على الهندسة اللاإقليدية التي توصل إليها بعد ذلك ببضعة قرون “لوباتشفسكي” و”ريمان”، إلا أنه استبعد ما يؤدي إلى ما يخالف الخاصة التي قال بها إقليدس، ولم يقبل إلا تلك الخاصة الإقليدية ثقة في حكمة إقليدس، ولأن الهندسة الإقليدية كانت تعتبر نمذجة للعالم الفيزيائي المحسوس مما أكسبها صورة الحقيقة المطلقة.
وبالنسبة لمفهوم الأعداد الحقيقية، انتقد الخيام تعريف إقليدس للنسبة والتناسب، وتوصل إلى وجود أعداد غير قابلة للتجزيء إلى وحدات من أي نوع، وهي معروفة باسم الأعداد غير النسبية (مثل الجذور الصم)، مما وضعه على عتبة الطريق إلى مفهوم الأعداد الحقيقية التي لم تتضح في الفكر الرياضي إلا في القرن التاسع عشر على يدي “ديدكيند” و”كانتور”. وقد أشار الخيام في مناقشته للنسبة والتناسب إلى جوانبها التطبيقية في الفلك والموسيقى.
وبالنسبة لحل المعادلات فيعتبر الخيام أول من صنف أنواع معادلات الدرجة الثالثة، ووضع لها حلولاً هندسية، مستخدمًا المكعبات ومتوازيات السطوح. كما استخدم القطوع المخروطية الإهليليجي والهنديولي (القطع الناقص والقطع الزائد) كمحال هندسية، في حين اقتصرت المحال الهندسية التي استخدمها الإغريق على الخطوط المستقيمة والدوائر.
ولم يكتف عمر الخيام بتطوير علم الجبر باعتباره علمًا مستقلاً، بل اهتم بإدخال ذلك العلم على علم حساب المثلثات، لذا نجد أنه حل الكثير من المسائل المستعصية في علم حساب المثلثات مستعملاً معادلات جبرية، من ذات الدرجة الثالثة والرابعة.. ولم يقف عند هذا الحد، بل تشعب اهتمامه حتى حوى علم الفلك. وفي عام 471هـ/1079م استنتج عمر الخيام طول السنة الشمسية بما قدره 365 يومًا وخمس ساعات و49 دقيقة وخمس ثوان، مستعملاً في حساباته أرصاده المتناهية الدقة، ولذا لم يتجاوز خطؤه يومًا واحدًا في كل خمسة آلاف سنة.. كما درس عمر الخيام بكل إتقان قاعدة توازن السوائل فنقحها، وحل الكثير من المسائل التي استعصت على من سبقه من علماء المسلمين.
(*) كاتب وباحث أكاديمي/ مصر.
المراجع
(1) العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية، د. على عبد الله الدفاع، مؤسسة الرسالة، بيروت 1983م.
(2) إسهام علماء المسلمين في الرياضيات، د. على عبد الله الدفاع، ترجمة: د. جلال شوقي، دار الشروق، القاهرة 1981م.
(3) الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، د. محمد عبد الرحمن مرحبا، منشورات عويدات ط3، بيروت 1988م.
(4) في تراثنا العربي الإسلامي، د. توفيق الطويل، عالم المعرفة، العدد:87، الكويت، مارس عام 1985م.
(5) مكانة العلم في الثقافة العربية، د. سالم يفوت، ثقافات، العدد:18، جامعة البحرين 2006م.