شعر الأطفال بين جدلية الأدب والتربية

صار للأطفال شعر خاص بهم في القرن العشرين، بل ظهر شعراء يحسبون عليهم. وقد بدأ ذلك النتاج الشعري قبيل القرن العشرين بقليل، ونستطيع أن نرصد في أول ذلك القرن ديوانين كبيرين؛ ديوان أحمد شوقي للأطفال، وديوان محمد الهراوي للأطفال. أما أحمد شوقي فقد ظهرت قصائده للطفل في الطبعة الأولى من الشوقيات، ثم اختفت في طبعات تالية، ثم أعيد نشرها بعد ذلك. أما محمد الهراوي، فقد تخصص في شعر الأطفال، ولم يستنكف أن يُعْرف بأنه شاعر أطفال، ونشر عدة دواوين للطفل حتى رحل عام 1939م.
والمتابع للحياة الأدبية، يلاحظ عزوفًا متعمدًا عن شعر الأطفال لدى الأساتذة المختصين في الأدب، قد يحرص كل منهم على أن تكون له صولات وجولات في كل عصور الشعر، وإذا وصل إلى العصر الحديث غض الطرف عن ذلك الوليد الصغير، مستنكفًا أن يحمله في حضنه الأدبي، وأن يوليه من رعايته واهتمامه، رغم أن ذلك الوليد في أشد الحاجة إلى هؤلاء الأساتذة الأفاضل، فبأقلامهم يمكن أن تتكون له ملامح حقيقية، تنسبه إلى روح الشعر العامة للكبار والصغار، بدلاً من أن يُتْرَك للتربويين؛ فينشأ مشوهًا لا يربطه بالشعر سوى العَرُوض.
هناك كتابات قليلة في ذلك المجال، ولكن تشعر مع أغلبها أن أصحابها دُفعُوا إليها دفعًا، أو كُلِّفوا بها تكليفًا، ولم يقوموا بها حبًّا؛ فبالرغم من مرور أكثر من مئة عام على نداء الشاعر أحمد شوقي ودعوته الشعراء لإبداع شعر خاص بالطفل، فقد تأخر تجاوب النقاد والدارسين لهذه الدعوة. وأظنه ما يزال متأخرًا؛ فالكتابات القليلة الموجودة بين أيدينا تتناول أدب الأطفال عامة، وتولي الجانب النثري منه اهتمامًا أكبر، فهو أقدم عُمْرًا وأوسع رقعة، وأما شعر الأطفال فحظه قليل.
إن غياب كبار الأساتذة عن هذا الحقل الفني، سوف يظل عقبة في سبيل العطاء الواعي لذلك الأدب، وأخصُّ كلامي هنا بالشعر موضوع هذا المقال. فلا يزال كثير من النقاد ينظرون إلى شعر الأطفال نظرة تلك الأم الريفية الطيبة التي عاد إليها ابنها بعد أن أتم دراسة الطب، فسألته عن تخصصه فقال: “طب الأطفال”، فردَّت في حزنٍ: “ولماذا لم تكمل دراستك يا ولدي حتى تصبح طبيبًا للكبار!؟”.
هذا المفهوم السطحي الذي يرى في طب الأطفال مستوىً أقل من طب الكبار، ينطبق على ما يظنه بعض المعنيين بالأدب في شعر الأطفال، وهذه الحقيقة هي التي غابت عن كثير ممن يخططون ويؤلفون الكتب المدرسية، فقد ظنوا أن الطفل يناسبه أي كلام منظوم لا صلة له بالشعر ما دام يتضمن معنى معينا، فكانت النتيجة أناشيد سطحية مملة غالبًا، أول من لا يعيرها اهتمامًا هو الطفل ذاته.
إن التعرض للكتابة للطفل يُظْهِر مدى الصعوبات التي تواجه من يهتم بها، فهي تتطلب وعيًا خاصًّا بالطفل وعالمه، وطريقة تفكيره وفهمه لما يرى ويسمع من كلام، وتَقَبُّله لما نقرأه عليه، وفهمه لدلالات الألفاظ ومستوى التراكيب اللغوية، وما يَطْرَب له ويُقْبل عليه وما ينفر منه.
والمختص بعالم الطفولة إبداعًا ونقدًا، مطالب بكل حدود الثقافة التي تؤهله تمامًا للعمل في ميدان الكبار، ثم يضيف إلى ذلك ما يخص الطفولة بعوالمها المعقدة. ثم عليه ألاّ ينتظر من النجومية وبريق الدنيا ما يحظى به أدباء ونقاد الكبار، ومن هنا كان العطاء للطفولة يحمل بين طياته تنازلاً وتفانيًا وإنكارًا للذات ربما لا يطيقه كثيرون.
في حين أن البساطة في الأداء واللغة والصورة والمعنى، من أهم ما يميز أدب الأطفال شعرًا ونثرًا، بل ربما يحتاج إلى نوع من المباشرة. فقد أصبحت هذه السمات سُبَّةً في نظر من سُمُّوا بالحداثيين، وأصبح كل عمل يهتم بهذه الصفات -مهما كانت علته- يزري بمن تكون له علاقة به؛ مبدعًا أو ناقدًا أو معجبًا، فآثر الأدباء السلامة ونأوا بأنفسهم جانبًا عن شعر الأطفال.
والواقع أن أدب الطفل كيان أدبي مستقل له معاييره الخاصة، فربما يمتاز بما يعيب أعمال الكبار، ويُعَابُ بما يميز أعمال الكبار، وعلى من يدخل عالم الطفولة أن يتقبله ويقدره حق قدره.
ومن المؤسف أن القلة المهتمة بشعر الأطفال لم تتفق بعدُ عليه؛ فقد قُدِّر له أن يتنازعه اتجاهان يبدوان مختلفين أيما اختلاف؛ الاتجاه التربوي والاتجاه الأدبي، فأصحاب التربية لا يضيرهم مطلقًا أن يكون شعر الأطفال فارغًا من جماليات النص الشعري، حتى لو كان ركيكًا وتافهًا، ما دام يدعو إلى شيء يروقهم؛ كأن يدعو إلى سلوك قويم أو أدب عظيم. وأهل الشعر يرون عكس ذلك؛ فالمهم عندهم أن يشتمل النص الشعري على مقومات الشعر الجمالية، وإن تجاوز حدود التربية، أو خلا منها، أو حتى دعا إلى ما يتنافى مع مبادئها، وقد اتسم ذلك الخلاف بالحدة في بعض المواقف.

إن التعرض للكتابة للطفل تتطلب وعيًا خاصًّا بالطفل وعالمه، وطريقة تفكيره وفهمه لما يرى ويسمع من كلام، وتَقَبُّله لما نقرأه عليه، وفهمه لدلالات الألفاظ ومستوى التراكيب اللغوية، وما يَطْرَب له ويُقْبل عليه وما ينفر منه.

على سبيل المثال، انهال الدكتور أنس داود على التربويين بالنقد والتحليل، مسفهًا آراءهم، ومتهمًا إياهم بعدم الشعور بالشعر والإحساس بالفن، منكرًا أن يكون الخلاف على غير ذلك، يقول في كتابه “أدب الأطفال في البدء كانت الأنشودة”: “ولقد يخيل للبعض أن القضية في الأساس صراع بين منطلق الإبداع الفني، ومنطلق الإرشاد التربوي، الذي يحرص على التوجيه والتلقين والإملاء.. ولكنه في الحقيقة صراع بين من يحسنون تذوق الفنون، ومن لا صلة بينهم أصلاً وبين فنون الإبداع.. فلا تناقض بين الفن في جوهره وبين التربية في تفتحها وعميق بصرها بنفسية الإنسان”، ثم يستطرد قائلاً: “الفن يوحي للنفس الإنسانية بالجمال والحب وإشراق الحياة ووضاءة الكون.. وبذلك يربي حاسة الذوق، وينمي خيال الإبداع.. والتربية الرشيدة هي التي تتيح له أداء هذه المهمة الإنسانية الجليلة، وترحب بوسائله في الإيماء وتحريك النوازع الإنسانية الخيرة، واستغلال قدرات الخيال الخلاق، فالذي يرحب بمثل هذا الكلام التافه الذي نظمه الهراوي:
خُـفِّي واعْـلي فوق الحبلِ
واجري وثبي فوق الحبل
حَـــيِّ العــلــما فوق الحبل
حـــيِّ الـهــرمـا فوق الحبل
بينما يقول عن شعر شوقي: لا يناسب الأطفال -بما في هذه الكلمة من معنى ومن مقومات أدبية وتربوية ونفسية وثقافية عميقة- تكون مشكلته هي حاسة التذوق الفني عنده ولا تكون القضية أنه يصدر عن منطلق تربوي”. ويقول وهو يوجه كلامه للأستاذ أحمد نجيب: “ويبدو أن مجرد التعبير عن أي معنى من المعاني التعليمية والتربوية في شكل منظوم، يظنه أحمد نجيب شعرًا”.
وأنا أوافق الدكتور أنس على ضرورة الاهتمام بشاعرية الشعر، متى كان للكبار أو الصغار. والأستاذ أحمد نجيب يدرك هذا المعنى وقد عبر عنه في كتابه “فن الكتابة للأطفال” بقوله: “قد تحتوي الأشكال الشعرية مضمونًا تعليميًّا يهدف إلى إعطاء الأطفال بعض الحقائق أو لونًا من ألوان المعرفة الجديدة، وإن كان من المهم ألا يخرج هذا بالشعر عن مقوماته الأساسية “كشعر”، فيتحول إلى مجرد “نظم” لا حياة فيه ولا روح.. أي إننا في الشعر التعليمي يجب ألا نلجأ إلى “تقرير” الحقائق أو الأفكار الجديدة، وإنما إلى “تصوير” هذه الحقائق وتلك الأفكار.. أو تحويلها إلى لوحات فنية جميلة، لأن الشعر دائمًا “تصوير بالقلم”.. والصورة هي وسيلته المفضلة في التعبير”.
والذي يقرر ذلك منذ حوالي خمسين عامًا، يجمل بنا أن نتريث ونخاطبه بالتي هي أحسن، حتى إذا اختلفنا معه.
ويختلف الدكتور أنس مع الأستاذ أحمد نجيب لترجيحه قصيدة للهراوي عن الساعة على قصيدة لشوقي في نفس الموضوع، إذ لا تراعي قصيدة شوقي -في نظر أحمد نجيب- المعايير والقيم التربوية، بينما تراعيها قصيدة الهراوي أيما مراعاة، وهاتان القصيدتان:
يقول شوقي:
لـــي ســاعةٌ مــن مـعـدنِ لا يـقـتـنـيـها مُقْتنِ
تَـعْـجَلُ حـيـنًا وتَــنِــي مـثـل فــؤاد المُــدْمِنِ
وعــقـربـاها والــزمـان فــي اخــتــلاف بَــيِّنِ
إذا مشــت لـم أحفلِ أو وقفتْ لم أحزنِ
أو أخَّرَتْ لم يجدني أو قدمتْ لم أغبنِ
أحــمــلــها لأنــها تــغــشــنــي فــــي الـــزَّمَـــنِ
ويقول الهراوي:
وســــاعـةٍ حـمـلتـها تــحســـبُ ســيرَ الزَّمَنِ
إن فــــرغـــتْ مــلأتـها فــي وقـتـها المـعَيَّنِ
فلــمْ تُــعَـجِّــلْ لَــحْـظَـةً ولم تَقِـفْ وَلم تَنِ
رتــبـتُ أعـــمالـي بـها عـلــى نــظــامٍ مُـتْـقَنِ
كــل امــرئٍ أوقــاتــه فوضى فغير محسنِ
وبتأمُّل القصيدتين يتبيَّن أن الهراوي غالبًا كتب قصيدته وفي ذهنه قصيدة شوقي، وكأنه يرد عليها ويُخَطِّئُها؛ ففي حين أن ساعة شوقي “تعجل حينًا وتني مثل فؤاد المدمن” نجد ساعة الهراوي “لم تعجل لحظة ولم تقف ولم تن”. وحين يقول شوقي: “أحملها لأنها تغشني في الزمن” يرد الهراوي: “كل امرئ أوقاته فوضى فغير محسن”.
والحقُّ أن قصيدة شوقي رائعة للكبار، ولا تناسب الصغار وإن اشتملت على الفكاهة وخفَّة الدم التي قد يبتسمون منها. ولا شأن للأطفال بذلك الدفاع الذي تصدى له الدكتور أنس داود معتمدًا على تحليلات نفسية وفنية لا يعيها عالم الطفولة، يقول: “لم يُحِس -يقصد أحمد نجيب- في قصيدة شوقي عن “الساعة” ما تزخر به من روح الفكاهة، والدعابة العميقة التي يمثلها شوقي، وعبر بها عن ذاته أو عن حلم يحلم به الإنسان على هذه الأرض، حلم الحرية والتخلص من قيود الزمان، ومطاردة القوانين لما تحمله روح الإنسان من عفوية وطلاقة.. وأنينه الدائم من القيود والعادات والتقاليد والأعراف البشرية، إنها الرغبة في الانعتاق من قيود الضرورات الحياتية.. تلك الرغبة المؤرقة لكل فنان عظيم؛ ولذلك فكم هي طريفة وشائقة، وكم صاغها شوقي في نعومة وذكاء ليودع فيها -مع بساطة البناء- هذا المضمون العميق الرائع”.
هذا الكلام مع تقديرنا له وإيماننا به، لا يعني مطلقًا مناسبة تلك القصيدة للأطفال؛ فليست كل فكاهة وكل خفة دم تناسب الطفل. وقد اشتملت المقطوعة على تشبيهات وكلمات وبعض التراكيب اللغوية التي لا يفهمها الطفل ولا ينفعل بها، ولا تناسب سوى الكبار، لذلك فقط لا تناسب الطفولة، لا لشيء آخر. فلا معنى أبدًا للخوف من أن تعلِّم تلك القصيدة أبناءنا الغش أو الكذب كما يدعي التربويون الذين لا يقدرون الشعر، لأنها في النهاية “دعابة”.
أما مقطوعة الهراوي فقد لا تناسب كبارًا ولا صغارًا، ذلك أنها نظم عارٍ من أية لمسة جمالية، وأغلب الظن أن الهراوي نظمها وفي ذهنه مقطوعة شوقي، ولم يبدعها بدافع شعري خالص، والأطفال من كل ذلك براء. أين ذلك مما أبدعه الهراوي خالصًا للطفل مثل قوله:
هل تعلمون تحيتي عند الحضور إليكمُ
أنا إن رأيت جماعة قلت السلام عليكمُ
لقد أبدع وأجاد؛ وذلك أنه وفَّي الفَنَّ حَقَّهُ، ولم يهمل جانب التصوير بحجة أنه يبدع للطفل، فجاء بيتاه جميلين عذبين، توفر لهما من السـهولة والجمال واليسر ما يجعل من يسمعهما لا يكاد ينسـاهما، وقد خَلا البيتان من الخيال مطلقًا، ولكنهما تضمنا أسرارًا فنيةً جعلت منهما صورة قوية معبرة؛ فقد جعلهما الشاعر على لسان الطفل، ولم يتوجه بالخطاب إليه، بل تَقَمَّصَ شخصيته ونطق بلسانه، مما يجعل الطفل يشعر بملكيته للنص. وقد جاء البيتان في صورة “سؤال وجواب”، وسرعان ما سأل، وسرعان ما أجاب، والطفل يحب السؤال، ويتوق إلى الجواب.. ولقد توجه الصغير بسؤاله إلى جماعة “هل تعلمون” أيِّ جماعة، صغارًا كانوا أو كبارًا، وذلك يعطي الطفل الثقة والاعتزاز بالنفس، بعيدًا عن أنه الصغير الذي يحتاج إلى التوجيه.. ثم نسب التحية إليه بياء الملكية، فجعلها تحيته باختياره هو وحبِّه، ثم جاء الجواب على لسان الطفل مؤكدًا تحية الإسلام، وناطقًا بها بتلقائية وجمال.. ولو وضع الشـاعر في اعتباره ما يقرره بعض التربويين من أنه لا يضير الخطاب الأدبي الموجه للطفل أن يشتمل على التهذيب والتعليم أكثر من الفنية لقال مثلًا:
تحــيةُ الإســــلامْ عـلــيكم الســــلامْ
فلو مررت يومًا على بني الأقوامْ
فألــقــها عـلــيـهم لــتــنــشر الـــوئــــامْ
أو غير ذلك من الأشكال المباشرة الرديئة، التي لا يشفع لها أدبيًّا أنها تُلَقِّنُ الطفل تحية الإسلام. وفَرْقٌ كبير بين الصورة التي رسمها الهراوي لطفل يلقي السلام على جماعة، فيحرص الأطفال على تقليده، والأبيات الأخيرة الإخبارية التلقينية.
وخلاصة القول في قصيدتَيّ الساعة، اللتين قارن بينهما د. أنس داوود: إن قصيدة شوقي راجحة في ميزان الشعر، وقصيدة الهراوي راجحة في ميزان التربية، وكلتاهما طائشةٌ في ميزانِ شعر الأطفال.

(*) شاعر وأديب مصري.