شهد التصوف الإسلامي عبر تاريخه الطويل، العديد من الشخصيات الرائدة، والتي استطاعت بقلبها العرفاني وعقلها المعرفي أن تُعيد التصوف إلى إطار المعايير الإسلامية السُّنّية وضوابطها.
من تلكم الشخصيات في هذه الحقبة المعاصرة يأتي الأستاذ محمد فتح الله كولن بكتابه “التلال الزمردية”، والذي -بلا شك- سوف يأخذ مكانه كأحد المراجع الرئيسة للتصوف الإسلامي السُّني على غرار الإمام الغزالي والإمام الرباني والأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي؛ إذ إنه يضع -وعلى نطاق أوسع- المصطلحات الصوفية على أساس صحيح من خلال ترسيخه مبادئ “الحذر واليقظة” للمعنويات الإسلامية السُّنية، ثم إن حساسيته واهتمامه وحذره الشديد حول المشاهدات الصوفية، لا يشكل جانبه الذي ينعكس منه على المقالات الواردة في الكتاب فحسب، فكل قارئ، أيًّا كان حجم درايته بعالم التعبير والأسلوب والفكرة؛ يعرف هذا الاهتمام والحذر والعمق من خلال عالمه الروحي والفكري والاجتماعي كله.
كولن وتحليل مفاهيم التجربة الصوفية
بدايةً يجب القول إن هذه الدراسة ليست دراسة عامة لتاريخ التصوف الذي يجري فيه تناول التحولات الروحية والمعنوية التي عاشها الصوفية المسلمون عبر التاريخ الإسلامي، إنه بصفة عامة، يعبر عن المبادئ التي تقوم عليها المعنويات الإسلامية؛ وعن تحليل راشد تمخَّضَ عن عقلٍ كفء ومرجعي في العلوم الإسلامية بشأن عالم مفاهيم التجربة الصوفية الإسلامية ومصطلحاتها.
إن “التلال الزمردية” عبارةٌ عن تحليل تلك العيون للتصوف الإسلامي تحليلًا منهجيًّا، يتم من خلال التقاطه وتصفيته عبر معايير حساسة، إن عمله هذا ليس ساحةً تلاقت فيها التجارب الصوفية على منوال باقي الأعمال الغابرة، على العكس من ذلك، إنه يحرص بشدة على إبقاء مختلف الخبرات والأحوال المعنوية والروحية، داخل دائرة التشريع الإسلامي السنِّي بحساسية ومسؤولية كبيرين.. وبعبارة أخرى، إنه من خلال تفسيراته حول المصطلحات الصوفية، يكشف الأسس الشرعية للفكر الصوفي السنّي، ومن ناحية أخرى، فإنه إزاء حتى أكثر التعبيرات تجاوزًا وغرابة للمرجعيّات الصوفية، كان يحاول أن يتناولها من جانبها الذي يحافظ على بقائها داخل حدود الشريعة، ويتبع منهجًا توفيقيًّا وتأليفيًّا قدر المستطاع.
وكما هو معروف، كانت هناك عاصفة مستعرة حول بعض المفاهيم الصوفية في التاريخ.. ومع ذلك فإن الأستاذ محمد فتح الله كولن يتعامل مع مثل هذه المفاهيم والتفسيرات بحساسية كبيرة وشعور واعٍ بالمسؤولية، إن ما يُعرف في التصوف الإسلامي باسم “الشطحات”، يشكل أحد” المناطق الخطرة” في التصوف الإسلامي، وقد تحقق تفسيرها وإبقاؤها ضمن حدود الشريعة فقط على يد أشخاص يتصفون بالمرجعية والحصافة في تاريخ التصوف الإسلامي؛ لأن هذا العمل بينما يتطلب إحاطةً وشمولًا من جهة، يتطلب إحساسًا حقيقيًّا بالمسؤولية من جهة أخرى، وإلا فلا مفر من ارتكاب الخطأ الذي وقعت فيه بعض المقاربات السلفية المعاصرة، إنهم ومن أجل الحفاظ على ما يسمى بالحدود الظاهرية للشريعة الإسلامية، اتجهوا إلى إنكار هذه التجربة الإسلامية الواسعة إنكارًا تامًّا؛ فتسببوا في حدوث ضحالةٍ مذهلةٍ في المعنويات والحكمة الإسلامية والحكمة في مثل هذه المفاهيم.
ولو جاز التعبيرُ فالتلال الزمردية تعيد صياغة التصوف وتحلله وتنظمه ضمن مبادئ الإسلام السني لإبقائه في قلب التقاليد الإسلامية، ويمكن القول إن المصطلحات الصوفية تخضع لتفسير جديد لأول مرة بهذا القدر، ومثل هذه العملية المجهِدة تتطلب بالطبعِ وعيًا ووقوفًا عميقًا على جميع العلوم الإسلامية تقريبًا، ومن خلال استخدام هذه المرجعية وتفعيل هذه الحساسية؛ قرَّبَ الأستاذ المحترم المصطلحاتِ الصوفيةَ إلى عالم العقل والسلوك لدى المسلم المعاصر.
شرح معرفي عرفاني
التلال الزمردية، وإن لم يتناول المدارس الصوفية الإسلامية بالدراسة من حيث وجهات نظرها واصطلاحاتها وطرق تفكيرها، إلا أنه ركز بعناية وحساسية فائقة على المفاهيم المركزية للتصوف..
في التلال الزمردية تُقدم وجهات نظر الصوفية بشأن الوجود، ووجهات نظرهم بشأن علم الكلام، ونظريات المعرفة، ولكن في إطار ثقافة وفلسفة صوفية منظمة ومنهجية إلى حد كبير، وبالطبع لا يتم التعبير عن كل هذا تحت هذه العناوين مباشرة، بل من خلال المفاهيم الأساسية للتصوف.
هنا يقدم الأستاذ محمد فتح الله كولن تفسيرًا قويًّا للمفاهيم الصوفية مثل حكيم حاذق متخصص بالمعاني، وينادي نداء بصير، ليس فقط على مفاهيم العلم والحكمة التي تشكلت في التجارب الخاصة للصوفية فحسب، بل وعلى مفاهيم العصر الجافة التي صارت غريبة على ذاتها وأكثر مادية.
التلال الزمردية لا تصنع فلسفة صوفية جافة بحتة، فلا تقتصر أي من مباحثها على نشاط عقلي وفلسفي مكثف؛ فكلُّ مبحث فيها طُوِّر بحذر وتيقظ عقلي وفكري حقيقي ينتهي بترسيخها على أساس عملي في الحياة الفردية والاجتماعية بالنسبة لمن نذروا أنفسهم لخدمة الحق في هذا العصر، وهذه الحساسية تستند، في الوقت نفسه، إلى مبدأ أساسٍ لتجربة التصوف الإسلامي السني أيضًا.
التلال والتصوف الاجتماعي
ويتمسك الأستاذ بمبدأ آخر، ألا وهو “حقيقة ضرورة أن تكون الولاية وريثة لمهمة “النبوة”. وهذا يعني أنه ينبغي للتصوف الإسلامي، على الرغم من كل عمقه، أن يخاطب سلوكيات الأفراد الاجتماعية، والحماسَ والإثارةَ التي يشعرون بها عند تبليغ الإسلام، وكذلك مشاعر الإحسان والتضحية وكل أنواع الخير التي سيفعلونها لصالح الإنسانية، بقدر ما يميل إلى تحسين جوانبهم الأخلاقية والروحية والعرفانية، بحيث تكون على الوجه الأكمل، فإن لم يتحول إلى مشروع اجتماعي، ولم يعمل على رفعة الناحية الأخلاقية والروحية العامة للمجتمع، مثلما يُربي نفوس الأفراد واحدًا واحدًا، فقد اعتبر ذلك غير مقبول.
تستند التلال الزمردية في تفسير المفاهيم والمشاهدات الصوفية على “الصحو والتمكين”، لأن الصحو والتمكين لا غنى عنه، مثله مثل أصل من أصول الدين؛ فجميع التكاليف الشرعية تخاطب العقل والفطرة السليمة والنفس الواعية، وإنها لَحقيقة أن العمق المعنوي في الإسلام يتضمن منطقةً تتجاوز معايير العقل ومقاييسه بشكل مباشر.
وبمعنى آخر: هناك مجالات للعمق الصوفي؛ بحيث إن الأحاسيس العالية والتجارب والاكتشافات والمشاهدات لا تكون غالبًا مجرد أنماط من التعبير اللغوي، وليست حقائق يمكن التعبير عنها وفهمها بقوة العقل وحده في الإدراك والفهم.. والصوفية في مثل هذه الأماكن إما أن يُفسحوا مكانًا للعبارات التي تستند إلى الحذر واليقظة بصفة عامة، أو يسكتوا عنها، أو يلجؤوا إلى العبارات التي تتجاوز الحدود العقلية والشرعية وتُسمى بـ”الشطحات” في التراث الصوفي..
كيف رأى كولن شطحات الصوفية؟
إن “الشطحات” واحدة من أكثر مناطق التصوف الإسلامي خطورة، إنها تشير إلى انهزام الصوفية لمشاهداتهم وتعرضهم لأحوال الجذب والسُّكْرِ المعنوي، وبمعرفة وحساسية ومسؤولية إيمانية وحكمة كبيرة يقترب الأستاذ كولن من العبارات التي تنبئ عن شطحات، وعبر كشفه عن الجوانب التي ما زالت ضمن حدود التشريع الإسلامي في مثل هذه التعبيرات؛ فإنه يجذبها إلى المبادئ السنية المركزية ويفسرها.
ووفقًا للمبدأ المقبول الذي يحظى بقبول عام في التصوف الإسلامي السني، فقد التُمس العذر لأصحاب مثل هذه الأحوال والعبارات على اعتبار أنهم يعيشون حالة من السكر المعنوي والجذب، أما في حالة الصحوة واليقظة، فلا تُقبل مثل هذه العبارات، ولقد حافظَ الأستاذ محمد فتح الله كولن بتفسيراته هنا، على الاحترام والأدب الرفيع للسلف عاشقي هذه المعرفة، وقدم تفسيرًا حكيمًا لمثل هذه الأحوال والسلوكيات، فوضع بذلك مبادئ المنهج في مقاربة هذه الأمور، في حين حدثت عبر التاريخ الإسلامي مواقف محزنة بسبب الاقترابات الضحلة التي مُورست تجاه المنتسبين إلى أهل السُّكْر المعنوي والجذب.
“التلال” إبراز للمعنويات الإسلامية بلغة العصر
التلال الزمردية لم تظهر باعتبارها سلسلة تم التفكير فيها والتخطيط لها مسبقًا؛ فقد بدأت تتشكل تدريجيًّا نتيجة للحاجة، وكما هو معروفٌ فما جلس الأستاذ ولا بدأ في الكتابة أو الحديث عن أي فكر لم يمر بألم المخاض، لم يكتب لمجرد الرغبة في الكتابة، فالفِكرُ عنده متداخل مع الحركة والعمل.. فكما أنَّ كلَّ عمل يتغذَّى بفكرة معينة، فإن كل خطوة وحركة تمهد الطريق لأفكار ومشاريع جديدة.
إنني كشأنِ كثيرٍ من الناس كلما مر الوقت وبدأت التلال الزمردية تتجسّد، بدأتُ أُلاحظ نشوءَ اهتمامٍ وميلٍ متزايد نحو المعنويات الإسلامية في كل من العالم الإسلامي والغرب، ومن الواضح أن مثل هذه الاتجاهات، عقليًّا وفكريًّا وسيرًا وسلوكًا، ستصير أكثر أهمية في المستقبل القريب، فالحركات المتشددة والأساليب الفكرية الكثيفة ليست مطلوبة اليوم كثيرًا سواء في الشرق أو الغرب، فالبشرية في كل مكان في حاجة ماسة إلى تركيبة معنوية وروح الوحدة، ولا يمكن أن يتشكل التسامح والمصالحة والحوار والإخاء إلا على أكتاف الأشخاص الذين يتمتعون بهذا العمق الروحي والمعنوي.
أدرك الأستاذ هذه الحاجة مقدمًا، وتصديًا منه للانحرافات الصوفية والفكرية والقلبية المحتملة تناول مبادئ ومفاهيم التصوف والمعنويات الإسلامية في إطار مبادئ الإسلام السُّني؛ مفسّرًا إياها بأسلوب جديد وغني، ومن ناحية أخرى، فإن اليوم يشهد حالة من الاستغراب تجاه المعنويات الإسلامية تُشعر بوجودها بالفعل، فالمسلمون يواجهون تحديًا من كل من القيم الغربية وحياة الرفاهية الناتجة عن التكنولوجيا المادية الحديثة، وهذه المرحلة تجبر الهوية الإسلامية والشخصية الإسلامية على تحول روحي ومعنوي في العديد من المجالات.
إن التلال الزمردية لتشكّل نوعًا من الدفيئة والحصن ضد مثل هذه النزعات المادية والعقلانية التي تهدد النفس الإسلامية، إنها نتاج جهود تسعى إلى أن تجذب من جديد العمليات الفكرية والعقلية والقلبية المشتتة إلى قلب التقاليد ومركزها.
التلال الزمردية جهدٌ يرتكز على “الحكمة والمعرفة” ويدعو إلى فهم أعمق وأكثر إدراكًا للإسلام تصدّيًا لفهمه فهمًا جافًا وفظًا وشكليًا.. إنها تلفت الانتباه إلى التجربة المعنوية والمعرفية العميقة للتقاليد الإسلامية، في مقابل تعاليم العصر المادية والوضعية، التي تُرجع كل شيء إلى عقلانية جافة سعيًا إلى تحقيق النجاح والكفاءة فقط على الأسطح الخارجية، إنها التلال تدل على أن الفضيلة والسمو ومصدر الإنسان الكامل ليس موجودًا في تلك العقلانية والشكلية الجافة، ولكن في التقليد المديد للإسلام نفسه، وبدون استكمال هذه التحولات الروحية والمعنوية، فلن تستطيع المجتمعات أبدًا تربية أناس فاضلين وسامين، ومن هذه الناحية فإن التلال الزمردية تمنح الداخل والخارج على حد سواء -أي الإنسانية جمعاء- أفقًا وهدفًا معينًا.
الشعر الصوفي ودوره في الحياة المعنوية
التلال الزمردية مع أنها جاءت بأسلوب النثر بشكل عام، إلا أنها من خلال تقديمها نماذج من الشعر الصوفي تجعل مباحثها أكثر إثارة وتشويقًا، فكما هو معروف، لم يكن التصوف الإسلامي في صورة النثر فقط، بل ضمّ شعرًا وأدبًا أيضًا، فكثيرًا ما تتجاوز التجارب والحواس المعنوية حدود التعبير والأسلوب العادي، حيث تخاطب ميول العاطفة الأعلى عند الإنسان، إن الشعر الصوفي مهم من حيث إظهاره الحدود العاطفية والحسية التي تصل إليها الأحاسيس المعنوية، بل يمكن القول إن العديد من الصوفية فضلوا التعبير شعرًا عن تجاربهم ومشاهداتهم الخاصة؛ لأن لغة الشعر العالية وقوته التعبيرية أكثر إثارة وحماسة، وأقوى بكثير مقارنة بغيرها من وسائل التعبير العادية، علاوة على ذلك، فإن تجاوز الحدود الإنسانية والعاطفية يبدو أسهل عبر الشعر.. وبطريقة ما، لجأ الشعراء الصوفية إلى الشِّعر للتغلب على الإطار الضيق لحدود العاطفة والتعبير الإنساني للعقل، إنها منطقة تتجول فيها الأحاسيس والعطاءات العالية بحرّية أكثر.
ولكن ثمة شيء واحد أود التعبير عنه هنا؛ ألا وهو أنني أجد أنه من المهم، ليس فقط من قبيل التقدير، ولكن من حيث الحقيقة التي يحتوي عليها؛ القول إن الأستاذ بكل أحواله هو رمز حي لهذا الفهم المتواضع الفريد لتقاليد العلماء والتكية، إنه يجلب إلى التلال الزمردية عديدًا من المتع الشعرية المختلفة بدءًا من مولانا إلى جامي وشبستري؛ ومن يونس أمره ونيازي المصري وإبراهيم حقي إلى الشيخ محمد لطفي أفندي، ويجعل المباحث الصوفية تتنفس بها، ومع ذلك، لم يقتبس من عملِه الشعري المسمّى “المضرب المكسورة” أكثر من قطعةٍ أو اثنتين، في حين أن هناك أشعارًا في “المضرب المكسورة” تحتوي على أبيات صيغت بذوق وإحساس لغوي عالٍ للغاية خاص بالبعد الروحي والمعنوي للإسلام.
البيان والبرهان والعرفان
إن من السمات الأساسية لفهم الأستاذ كولن للحكمة والمعرفة هو سيره في نظامه الفكري على مستوى “البيان والبرهان والعرفان”؛ فهذه الأبعاد الثلاثة تشكل الخصائص الرئيسة للفكر والحضارة الإسلامية، ومن الممكن أيضًا ملاحظة ذلك في التلال الزمردية، وعلى حين يحلل المشاهدات والتفسيرات التي تشكل شدًّا معنويّا عاليًا في التصوّف الإسلامي مثل أحلك المفاهيم المعنوية، وأحوال الجذب والانجذاب، والسكر المعنوي والجمع والفرق والوجود والتوحيد والفناء بالله والبقاء بالله؛ لم يتجاهل قطُّ مبادئ العقل والمنطق الإسلامي السليم، ونظام المعرفة الإسلامية العامة، والمعايير الرئيسة لمبادئ الحكمة السنية؛ وبحساسية واهتمام وحذر كبير تعامل مع هذه القضايا بطريقة تُقدّم فهمًا إسلاميًّا كلّيًّا، وهذه المسألة لن تغيب عن عيون ذوي البصيرة ألبتة.
وختامًا أقول: التلال الزمردية عبارة عن واحة من مجالس الله تجذبنا إلى هدفنا المتمثل في الوجود من جديد في زمن يمكن فيه للمشاغل الدنيوية والمادية أن تستحوذ على اهتماماتنا الفكرية والعقلية والقلبية، كما أنها تربط كل اهتماماتنا البشرية وتوصلها بما وراء الغيب، إنه رباط يهم المؤمنين من جميع المستويات، ولكنه قد يكون لازما وضروريًا، بقدر الماء والهواء، لا سيما بالنسبة لأبطال الخدمة الذين يكرسون كل جهودهم وهممهم لصالح الإنسانية.
(*) كاتب وباحث تركي.