مع توالي سرعة الاختراعات في شتى المجالات، أصبح المتتبعون لهذا الشأن يطرحون الكثير من الأسئلة، أسئلة فرضتها تلك الاختراعات المدهشة والغريبة عن عقولنا. ولعل أهم تلك الأسئلة المطروحة اليوم هي: هل سنزداد ذكاء؟ رغم أن الموضوع يبدو نوعًا من التنبؤ، إلا أن السنوات المقبلة كفيلة بأن تقدم لنا الجواب لهذا السؤال الموضوع ولغيره، وقد تتجاوزه حسب طبيعة ما تم التوصل إليه من اختراعات، فهل سنزداد ذكاء؟ هو ما سيجيبنا عنه الباحث الأمريكي في مجال الذكاء الاصطناعي وعلم النفس المعرفي “روجر شانك”.
افتتح “شانك” هذا الموضوع المهم بمجموعة من الأسئلة من قبيل: هل الذكاء مطلق؟ هل يزداد ذكاء الجنس البشري بمرور الوقت؟ ويرى أن هذا يتوقف بكل تأكيد على ما نعنيه بكلمة ذكاء. فقد اعتبر أنه لا شك أن معارفنا تزداد أو تبدو كذلك على الأقل. وعلى الرغم من توفر إمكانية وصول الطفل العادي إلى ثروة من المعلومات تزيد بكثير عن تلك التي كانت متوفرة للأطفال منذ خمسين سنة، إلا أن هناك أشخاصًا يزعمون أن أطفالنا أقلّ تعليمًا مما كان عليه الحال منذ خمسين سنة، وأن مدارس اليوم خيّبت آمالنا.
هذه الأسئلة التي تدور حول معنى الذكاء في نظر “شانك”، لا تحتل مركزًا مهمًّا في دائرة البحث العلمي، ولا حتى في دائرة الحوار العام، ولا نزال نعيش حياتنا وفقًا لأفكارنا المفهومة ضمنيًّا عن الذكاء والتعليم، التي ستواجه تحديًا خطيرًا خلال الخمسين سنة المقبلة. يقول “شانك”: “بعد خمسين سنة من الآن، سيصبح من السهل جدًّا الحصول على المعلومات، بحيث يستطيع المرء أن يطرح سؤاله بصوت مرتفع، ليسمع ردًّا فوريًّا يأتي إليه من الجدران المدعمة بقدر كبير من التكنولوجيا. فمعرفة ما كتبه “فرويد” حول الـ”أنا الأعلى” لن يعني شيئًا كثيرًا عندما تستطيع الالتفات إلى أقرب جهاز، وسؤاله عما قاله “فرويد” في مسألة ما، لتسمع “فرويد” (أو شخص يشبهه كثيرًا في شكله وصورته) يجيبك ويذكر لك خمسة من قادة الفكر المعارضين من مختلف العصور على استعداد لعرض أفكار بديلة إذا كنت تريد الاستماع إليها ومناقشتها معهم”.
وهنا يتساءل “شانك”؛ “هل الذكاء يعني مجرد القدرة على أن تكون مطلعًا على أجوبة أسئلتك، أم القدرة على معرفة الأسئلة التي ينبغي طرحها؟ ففي رأيه كلما قلّت قيمة الأجوبة زادت قيمة الأسئلة، يقول عن ذلك: “لقد عشنا لفترة طويلة جدًّا في مجتمع قائم على الإجابات، وعلامات ذلك في كل مكان؛ في برامج التلفزيون التي يشاهدها الناس مثل برنامج “من سيربح المليون؟”، وفي الألعاب التي يمارسونها مثل “تريفال برسيوت”، وأهم من كل ذلك في المدرسة.. إذن، تحتل الإجابات أهمية عظمى، فالاختبارات هي الشغل الشاغل لمدارسنا، بحيث صارت المدرسة نظامًا لتعلم الإجابات لا لتعلم حب الاستطلاع والتقصي”.
إن تطور ذكاء الجنس البشري أمر مفروغ منه، وذلك بفضل ما ستقدمه الاختراعات التكنولوجية من خدمات ومعلومات كانت إلى وقت قريب حكرًا على طبقة معينة.
وهنا يرى “شانك” أن التكنولوجيا الجديدة ستعمل على تغيير ذلك كله؛ فعندما ظهرت حاسبة الجيب، تساءل الناس عمّا إذا كان من الممكن استخدامها في اختبارات الرياضيات، لأنها ستصبح متوافرة دومًا ونتيجة لذلك، بدأت اختبارات الرياضيات تركز على الموضوعات الواقعية المهمة بدلاً من القسمة المطولة. سيُحدث استخدام الذكاء الصناعي في الأجهزة اليومية التأثير نفسه؛ فمع انتشار الآلات وقدرتها على الإجابة عن الأسئلة التي تدور حول كل ما يهمنا، ستتراجع قيمة الشخص باعتبارها بنكًا للمعلومات. إن المفهوم القديم للمدرسة -التي كانت تركز على الفكرة القائلة بأن الشخص الأكثر علمًا في المدينة، لديه معلومات يمكنه تلقينها، وعلى البقية الجلوس واستظهار هذه المعلومات- سيفسح الطريق لمفاهيم جديدة لاكتساب المعرفة.. لن يُنظر إلى المعرفة بعد اليوم كسلعة تمتلك، فأي شيء يُقتنى بسهولة تقل قيمته في المجتمع، والشيء نفسه سينطبق على المعرفة. أما ما سيحظى بقيمة كبيرة فهو الأسئلة الجيدة، وسنسمع الناس يقولون: هذا أقصى ما يمكن للكمبيوتر أن يأخذكم إليه.
يعطي “شانك” مثالاً بالقول تخيل ما يلي: “أنت في غرفة المعيشة في بيتك تتحدث مع شريك حياتك، فتثور مسألة بينكما فتلتفت إلى الجدار طلبًا للإجابة، متسائلاً “من كان على صواب”؟ فيرد الجدار بقوله إن لديه مجموعة من الأشخاص الافتراضيين يمكنهم الاشتراك في الحوار، فتختار بعض الشخصيات التي سمعت عنها أو تحاورت معها من قبل، وهنا تبدأ مناقشة مفعمة بالحيوية.. وأخيرًا يصل الكمبيوتر إلى أقصى ما يعرفه في هذا الموضوع، ولا تعود الجدران تعرف أي شيء ذات صلة به، فتتعجب “هذا إذن سؤال مثير”. يقول “شانك” معلقًا: “إن معرفتك سؤالاً جيدًا، يجعلك جاهزًا للدخول في مناقشة مع بشر أحياء آخرين لديهم اهتمام بأسئلة مشابهة، تقول هذا السؤال للجدران، وفجأة يحضر الأشخاص المهتمون بالأسئلة ذاتها ممن استنفدوا قدرات البرامج على النحو ذاته، إلى غرفة معيشتك (افتراضيًّا). في عالم تتوافر فيه هذه الإمكانات، ماذا يعني أن تكون متعلمًا؟ ماذا يعني أن تكون ذكيًّا؟”.
وللتفكير في الجزء المتعلق بالتعليم من السؤال أعلاه، يرى “شانك” أنه علينا أن نتساءل عما ستكون عليه حياة الأطفال في ذلك العالَم. بعد خمسين سنة سيكون الإقبال على المدارس كما نعرفه الآن قد تقلص.. لماذا نذهب إلى المدرسة لنتلقى المعلومات بينما الخبرات الافتراضية متوفرة بسهولة، بالإضافة إلى توفر أفضل المدرسين افتراضيًّا في أي لحظة؟ إن التعليم -حتى من سن الثانية- سيبقى استكشاف العوالم محل الاهتمام مع توفر مرشدين أذكياء يجيبون على أسئلتك، ويطرحون عليك مزيدًا من الأسئلة الجديدة، وسينفتح عالَم بعد عالم أمام الطفل المحب للاستطلاع. سيكون شأن التعليم في مثل هذا المجتمع ماهية العوالم الافتراضية -ولاحقًا العوالم الحقيقية- التي دخلتها وما تعلمت فعله في تلك العوالم.
لن يُنظر إلى المعرفة بعد اليوم كسلعة تمتلك، فأي شيء يُقتنى بسهولة تقل قيمته في المجتمع، والشيء نفسه سينطبق على المعرفة.
ويرى “شانك” أن المدارس الافتراضية التي ستنشأ لتحل محل المؤسسات الحالية، ستجذب الطلبة بسبب ما ستمنحه لهم من خبرات أكثر منه، بسبب ما ستمنحه لهم من شهادات. ونظرًا لتوفر هذه الخبرات التي يتلقاها الشخص عندما يقرر أن يتعلم، فإن معظم الطلبة سيلتحقون بالكليات قبل بلوع الثامنة عشرة بفترة طويلة. كما سيشجعنا النجاح في الخبرات الافتراضية المختلفة على التعامل مع الجديد منها كما هو الحال في الألعاب الإلكترونية اليوم، وستسهم المؤسسات التعليمية بما تستطيع عمله بشارات الاستحقاق الافتراضية التي حصلت عليها أكثر من اهتمامها بالمقررات التي درّستها. يعلق هنا “شانك” بالقول: “سيوجِد كل مجال خبرات في تخصصه. فبدلا من تقديم “هارفارد” أو “كولومبيا” دورات دراسية في الفيزياء، سيعمل الفيزيائيون من جميع أنحاء العالم مع مصممي عالم التعليم الافتراضي الذين يصنعون برنامجًا لإيجاد خبرات في الفيزياء على أن يتم توفيرها للجميع. ستتحول الفكرة القديمة القائلة بأن الأكثر ذكاء هم من حصلوا على أعلى الدرجات من مدارس اختبرتهم، لترى مدى إجادتهم لما تعلموه من دروس، إلى فكرة مفادها أن أذكى الطلاب هم من يطرحون أسئلة على البرنامج يتعين إرسالها إلى البشر بحثًا عن إجابات لها، وسيعني الذكاء القدرة على بلوغ خبرة تعليمية”.
إن ما يمكننا فعله حسب “شانك” ليس ما نعرفه، بل ما سيكون ذا أهمية في نظام تعليمي قام على بيئات الأداء الواقعي. ستدور القضايا الفكرية المهمة حول أسئلة ستنشأ من طبيعة تفاعلات الطلاب في العالم التعليمي الافتراضي، يقول “شانك” “عندما تطالب البيئات التعليمية بأسئلة وتسأل عن كيفية الحصول عليها، وتطلب معرفة الخبرات التي تولدت عنها تلك الأسئلة، عندها سيكون التغيير العميق الذي أحدثه الكمبيوتر قد تحقق، سنصبح أكثر ذكاءً، بل وأكثر ذكاءً بكثير، بمعنى أننا لن نخشى أي خبرات جديدة. ستكون عقولنا متعلمة بطريقة مختلفة، ولن يسيطر على عالمنا الفكري، الإنسانيون ولا العلماء، بل التجريبيون الذين كانوا هناك وأصبح لديهم حب استطلاع نتيجة لذلك”.
يظهر إذن من خلال ما قدمه لنا “روجر شانك”، أن تطور ذكاء الجنس البشري أمر مفروغ منه، وذلك بفضل ما ستقدمه الاختراعات التكنولوجية من خدمات ومعلومات كانت إلى وقت قريب حكرًا على طبقة معينة، ومن هنا فالتكنولوجيا حطمت الحواجز، سواء في التواصل، أو في مجال البحث العلمي وتحصيل المعرفة.
(*) جامعة محمد الخامس، الرباط / المغرب.