ما أشبة ولادة الشعوب بولادة الأفراد!
فالفرد يبدأ نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظامًا، فلحمًا يكسو العظام.. ثم تحين لحظة الانفصال الجزئي عن رحم الأم.. التي هي ذاتها لحظة الاتصال بالعالم الخارجي.
ثم تبدأ مرحلة الطفولة والنمو والإدراك… ومن بعدها مرحلة الشباب والفتوة والحيوية… ثم تعقبها الشيخوخة بما تحمل معها من ضعف وخمول وارتداد إلى مِثل سيرة الإنسان الأولى!
هي إذن مراحل متتابعة ومتفاوتة.. يُسلِم بعضها إلى بعض.. ويُنبئ بعضها عن بعض..
وهكذا الشعوب والمجتمعات والحضارات فيما يسمى (الدورة العضوية) للدولة أو الحضارة، وبحسب تعبير ابن خلدون: “الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص”.
يبدأ الشعب – أي شعب- في المرحلة الجنينية يبحث عن عوامل تشكُّله وتخلُّقه وصياغته.. فإذا وجدها وصادفت منه رحِمًا نظيفة من أسباب التحلل والاندثار والإجهاض، أخذت تلك العوامل في التفاعل والنمو تدريجيًّا حتى تشرف على الاكتمال والفتوة والقوة.. في مرحلة تستمر ما استمر هذا الشعب أو ذاك محافظًا على عناصر قوته وشبابه، حَذِرًا من الأخطار والتحديات التي تواجهه..
فإذا تمكنت منه عوامل التحلل والتفكك والترف، قضت عليه – تدريجيًّا أيضًا!- حتى يتقهقر في السباق الحضاري، ويجد نفسه في المؤخرة بعد أن حاز قصب السبق لدورات من الزمن..
لا غرو إذن أن يذهب بعض الباحثين إلى أن الشعوب والمجتمعات والحضارات يحكم سيرَها وتطورَها أو تدهورَها سننٌ وقوانينُ ثابتةٌ تشبه إلى حد كبير -قد يصل إلى التطابق الكامل- السننَ والقوانين التي تحكم عالم المادة والأحياء..
غير أن سنن المحسوسات مبسوطة لكل الناس، ومُذلَّلة لهم جميعًا، ينتفعون بها متى بذلوا أسبابها واستوفوا شروطها التي لا تتوقف على الإيمان والكفر؛ إذ عليها تقوم حياتهم وأبدانهم.. فاقتضت حكمة الله سبحانه ألا يختص المؤمن دون غيره بالتمتع بالسنن الكونية والاستفادة منها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 126).
أما سنن النجاة أو الهلاك.. والصعود أو الهبوط.. فلا يعقلها إلا العالمون ذوو البصائر، الذين لا تقتصر معرفتهم على ظاهر الحياة الدنيا، وهم ليسوا عن الآخرة غافلين.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 137، 138).
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 4: 7).
ولا أريد هنا الاستطراد في بيان السنن الإلهية التي تحكم سير الشعوب والأمم والحضارات، والتي هي صنو للسنن الكونية التي يقوم عليها معاش العباد والمخلوقات..
إنما أريد أن أشير -بإيجاز- إلى عبرة مهمة من عِبَر ميلاد سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد بدأ مع مولده الشريف ميلادُ أمة وحضارة وشعوب لم تكن من قبله شيئًا مذكورًا، ولم يكن لها موطئ قدم على خريطة العالم، سواء السياسية أم الفكرية أم الحضارية.
لكن بفضل المنهج الرباني الذي غرسه فيها سيد البشر صلى الله عليه وسلم، صار لها في العالمين ذكرًا وأثرًا.. بل وآثارًا!.. في نقلة نوعية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً..
ثم تتابع تاريخ هذه الأمة في موجات متعاقبة من الصعود والهبوط، والترقي والانحطاط، والنشاط والخمول.. وكان من فضل الله عليها أن أبقى فيها جذوة الإيمان مشتعلة، تنتظر من ينفخ فيها من روحه وعزمه وسعيه؛ فإذا بالأمة تنتفض من رقدتها، وتفيق من سباتها، كأن عهدها بالوجود أمس! وكأنها ما أصابها شيء من زمن الهزيمة!!
وها نحن أولاء نشهد -بعد عصور من التراجع الحضاري والسبات العميق، تواطأت فيها سهام الداخل مع أحقاد الخارج- بشائرَ مولد جديد من دورات الزمن، يُرجَى فيها أن تُبعث شعوبنا من مواتها، وأن تحقق ذاتها وتستعيد فاعليتها.
فلئن أصابها المرض العضال، فإنها -بفضل الله- لا تموت؛ ولئن دبَّ فيها الوهن وتمكنَّ، فإنها قادرة بالنور الذي بين يديها (كتاب الله وسنة نبيها) على أن تجتاز المحن والعقبات.. شريطة أن تطرح اليأس جانبًا، وأن تبدأ في العمل الجاد فورًا بلا تباطؤ، وأن تدرك أنه إذا كان للفرد حياة واحد، فإن للشعوب حيوات متعددة وتستطيع أن تعيد سيرتها الأولى متى أرادت.
يجب ألا نفقد الأمل في قدرة شعوبنا على استعادة ماضيها المشرق، وعلى وَصْلِ هذا الماضي بأدوات الحاضر ومنجزاته، وصولاً إلى مستقبل يعكس حيوية قيمنا وتجددها وإمكاناتها الفذة في تحقيق أشواق الإنسان وتطلعاته.
فليس كالإسلام دين يمتلك من الثبات والمرونة ما يحفظ له بقاءه وتوازنه وقدرته على التواصل مع الإنسان حيثما كان، لأن الإسلام هو رسالة الله الخاتمة، وكلمته الأخيرة للبشرية.. ألقاها إلى محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وحملتها من بعده أمته التي جعلها الله “أمة وَسطًا” لتكون شهيدة على الناس إلى يوم الدين.