بدأت الفلسفات المعاصرة تعيد الاعتبار للإنسان بعد أن كان مركز الكون، ثم أزيحت مركزيته ليصير شيئًا مثل باقي الأشياء الموجودة في هذا العالم، ثم ما لبثت -هذه الفلسفات خاصة مدرسة فرانكفورت- تنتقد هذه الشيئية وهذه النظرة الضيقة لهذا العالم الصغير الكبير، إذ يقول فيه الحكماء “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.
لذا حاولت في هذه السطور أن أبين كيف حاول العرفاء إصلاح الإنسان؟ وما هي الطرق التي انتهجوها إلى لفت النظر إلى الجوهر الروحاني الإنساني؟ وبأي معنى نتحدث عن الإنسان بشقيه الروحي والمادي؟ وكيف للعرفان أن يقدم لنا نظرة تكاملية في رؤية الإنسان؟ ووفق أي تصور يحدد للإنسان معالمه الإنسانية، وآثاره وقيمته ووظيفته في هذا العالم، خاصة في ظل الأزمة الروحانية التي تبنّتها الرؤى الفلسفية المعاصرة؟
الإنسان روحاني في أصله
لننصت قليلاً للعارف جلال الدين الرومي، ليحدثنا عن هذا العالم الكبير الصغير ألا هو “الإنسان”، حيث يقول: “فالخيال القبيح هو الذي جعل العين الحسية وعين العقل المحتجبة تريانه قبيحًا، واعلم أن هذه العين الظاهرة ظِلٌّ لتلك العين المحتجبة، فكل ما تراه عين الباطن تدور حوله عين الظاهر. وإنك أيها الإنسان “مكاني”، ولكن أصلك في “اللامكان”، فلتغلق هذا الدّكان ولتفتح ذلك الدّكان. فلا تهرب إلى هذا العالم ذي الجهات الستّ، ففي هذه الجهات أسوأ مواقع أحجار النرد، حيث تحق الهزيمة”.
إن الغرائز الحيوانية المودعة في الإنسان، من شأنها أن تتحول “وتصادق أشواق الروح وحنينها إلى عالمها العلوي، فتترجمها وتسخرها لحسابها، وتوجهها نشيدًا غريزيًّا هابطًا إلى الصور والأشكال والأهواء”.
ولذلك يشير الله عز وجل إلى هذا المعنى في رفع مقام الإنسان: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70)، فالنزعة الروحية في الإنسان مصدرها أصله الروحي، أما النزعة المادية فمصدرها ذلك العالم الحسي الذي غذاه وربى جسده. والإنسان في حقيقته قادر على الوصول إلى عالم الروح برغم ارتباطه الجسدي بعالم الحس. وفسّر مولانا جلال الدين قول الله عز وجل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمْ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرْ وَالبَحْر) على أنه رمز، إلا أن الله كرم الإنسان بأن جعله منتميًا إلى عالمي “الروح والحس” في وقت واحد، والجمع بين الروح والحس هو سر تفضيل الإنسان على كل من الملائكة وهي كائنات روحية، وعلى الحيوانات وهي كائنات حسية. والأنبياء والرسل هم المثل العليا للكيان الإنساني، يعيشون في الأرض بهيكل ترابي وتدور أرواحهم في فلك روحي.
قدر الإنسان قدرته ونصيبه
يحلّ مولانا الرومي هذا اللغز الإنساني الذي تناطحت حوله آراء الفرق والملل في جمل بسيطة ويسيرة، موضحًا ذلك بمثال يقول فيه: “أما من كان في بداية أمره وزيرًا للملك فجعله محتسبًا لا يكون إلا من سوء فعله، فحينما يدعوك الملك من عتبة الباب إلى حضرته ثم يعود فيدفعك إلى الباب، فاعلم يقينًا أنك ارتكبت جرمًا، وأنك قد جعلت “هذا الإبعاد” بجهلك أمرًا محتمًا. وإنك لتقول: “إن هذا قد كان لي قسمة ونصيب”، إذن كان هذا الإقبال بالأمس في يدك؟ وإنك أنت الذي قطعته.. أما الرجل الكفء، فهو الذي يضاعف نصيبه”.
ثم يستطرد مولانا في شرح ذلك بعبارة رائعة: “إنك لترى قدرة نفسك عيانًا في كل عمل يكون لك ميل إليه، ولكنك عندما لا يكون العمل وفق ميلك وعلى مرادك، تصبح مجبرًا وتقول إن هذا من عند الله”. وهنا يسخر مولانا جلال الدين الرومي من نفاق البشر وطيشهم”.
السبيل إلى تربية الإنسان
يسلك جلال الدين الرومي طرقًا بديعة ومختصرة في ذكر سبل التربية، من خلال بيان عيوب النفس الشاملة لكل العيوب، وبيان الصفات القبيحة المشنعة التي تجمع شتات القبيح من الأوصاف، ذاكرًا ذلك في قصة لطيفة، مشبهًا تلك العيوب بالطيور وهي عبارة عن رموز، وكل قراءة جديدة لروح القرآن تتناسب مع روح عصره الذي عاش فيه.
عن طريق الرؤية العرفانية الروحانية يمكن لنا أن نجد المشترك الإنساني الذي من خلاله يتم تقليص الهوة الفارقة بين الإنسانية، أي بعد الرجوع إلى ما هو إنساني في الذات الإنسانية وهو صوت الروح والضمير.
والعرفاء يركزون دومًا على مسألة “الأنا” باعتبارها أول عقبة تواجه الإنسان، لأن الأنا -سواء الفعلية أو المثالية- هي عبارة عن جبل يَحول بين الإنسان وخالقه، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى السعادة وهو يطلبها، وبين جوانبه لا زالت أناه تحجبه عن الوصول، وكمثال على ذلك قصة موسى عليه السلام: “فالإثنينية في مدلول الآية الشريفة بين موسى وربه في مقام المخاطبة، تدل على أن “الأنا” كانت ما تزال موجودة لدى موسى عليه السلام، ومعها لا يكون الإنسان قادرًا على تحمل التجلي التام. والعرفاء يذكرون أن المراد من الجبل في الآية (وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلى الْجَبَلْ فَإنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)(الأعراف:143) هو جبل الأنانية، فلما تجلى الله عز وجل له جعله دكًّا، وخرّ موسى صعقًا، حيث حصل له التجلي التام بعد زوال جبل الأنانية”.
مهمة الإنسان في الحياة
للإنسان في هذا العالم وظيفة ومهمة لا بد له أن يقوم بأدائها، وهي أمانة موكلة له، وهي تزكية ذاته وتصفية نفسه، حتى يرتقي في مدارج الإنسانية، يقول الأستاذ الدكتور جيهان أوقيوجو: “حسنًا لنبدأ موضوعنا أولاً بأهمية ترك العادات السيئة ولكني أريد قبل هذا أن أعرف ما هي غاية النضج؟ وما الذي يكسبه الإنسان بالنضج؟ لقد أُرسل الإنسان إلى هذه الدنيا لكي يكون إنسانًا حقيقيًّا، ومن نجح في هذا يكون قد نجح في أداء مهمته، وبهذا النجاح يكسب الإنسان نفسه أولاً. فمهمة الإنسان في هذه الحياة أن يبقى إنسانًا ولا ينزل إلى مرتبة الأنعام أو أسفل من ذلك، فهناك كنز مخفي في ذواتنا، فليحفر كل واحد منّا على كنزه، ولا ينظر إلى ما يملك الآخر، بل فقط في ذاتك، وإلا ستظل في الطريق، ورأس العيوب هو رؤية العيوب”.
حيث يشرح هذا المعنى جلال الدين الرومي في نكتة بديعة، فيقول: “ذهب أربعة هنود إلى الجامع للصلاة، وفي هذه الأثناء دخل المؤذن إلى الجامع، فقال أحد الهنود ناسيًا أنه في الصلاة: هل رفع الأذان؟ فوكزه الثاني قائلاً: لقد تكلمت، فسدت صلاتك. قال الهندي الثالث للثاني: يا مسكين، انشغل بصلاتك بدل الانشغال بصاحبك، ففرح الهندي الرابع وقال بصوت عالٍ: الحمد لله، لم أفسد صلاتي مثلما فعل هؤلاء. وهكذا فسدت صلاتهم جميعًا. وهذا وصف دقيق لحال النفوس التي تعرض عن عيوب ذاتها، وتلتفت يمنة ويُسرة لالتقاط عيوب الناس. فمهمتك أيها الإنسان، النظر في ذاتك وتنقيتها من العيوب، لتصلح وترحل من هذه الدار وأنت إنسان ولست مسخًا”.
مراتب الإنسان
يرى جلال الرومي أن الطفولة واليفاعة لا يتعلقان بالسن بل بدرجة النضج؛ فالذين يجرون خلف أهواء طفولية، يعدّون أطفالاً مهما بلغوا من العمر، يقول: “لا يستحق صفة النضج إلا سكارى الحق الذين سموا على أهواء الدنيا، أما الذين غلبوا على أمرهم بأهواء طفولية غير مقبولة، فيبقون أطفالاً مهما جرى الزمن”.
وعلى الرغم من وجود فروق بين البشر، إلا أن العرفاء يقسمون الناس -بحسب نور العقل- إلى ثلاث مجموعات رئيسية: العقلاء، ونصف العقلاء، والبلهاء. فعلامة العقلاء أنهم ينارون بنورهم الداخلي، فهم بهذا النور ينيرون أنفسهم تارة ويقومون بإرشاد قافلة تارة أخرى، هذا العقل الذي لا محل للشك والريبة فيه هو عقل المؤمن الكامل. أما علامة النصف عقلاء فإنهم لا يملكون نورًا ولكنهم يملكون بصيرة ما تكفيهم لاتباعهم الآخر، واتخاذ عينه عينا لهم، وأمثال هؤلاء -وإن لم يستطيعوا الرؤية النفاذة- يعرفون كيفية الاستفادة من رؤية غيرهم”.
أما الصنف الثالث من الناس بحسب الترتيب السابق، فهم البلهاء الذين لا يملكون ذرة عقل ولا يستفيدون من غيرهم، لذا فهم يعيشون في ظلمة حالكة عمياء، يحاولون قطع الصحاري الواسعة وهم يتعرجون ويتجولون هنا وهناك دون جدوى.
ربما يتجلى لنا من خلال هذا العرض، الفرق بين الفلسفات الأخلاقية، والمنظومة الأخلاقية العرفانية؛ ذلك أن الفلسفة الأخلاقية تبتغي ترويض الإنسان لتصنع منه مواطنًا صالحًا في حدود بيئته الجغرافية، لا فردًا صالحًا في العالم، وهو نموذج الإنسان الذي يأتمر بأوامر الواجب الأخلاقي الذي يرصده في شكل قوانين، وصلاحيته تكمن في الامتثال لهذا الواجب.
أما النظرية الأخلاقية العرفانية، فهي تطلب مدرج الإنسان الكامل الذي حيثما وقع نفع، ويكون مسالمًا مع جميع عناصر الوجود حتى مع الجماد الذي يرى من خلاله تجليًا لصفات المُوجِد. فالغاية من العرفان الإسلامي هي التعرف إلى رب العالمين، والوقوف على غرضه الهادف من خلق الإنسان، وأن يعرف ما هي مهام الإنسان أمام الله والناس، وما عليه أن يؤديه في ضوء هداية الأنبياء والكتب السماوية في حياته الفكرية والعملية حتى يرقى المدارج السامية المستكملة، وحينئذ لا يرى إلا الله ، عارفًا أن الخطوة الأولى في هذا المسير، هي التعرف إلى النفس كما جاء “من عرف نفسه عرف ربه”.
معيار التحقق في الفعل الأخلاقي
إن العرفاء قد حددوا تلك المراحل التي لا بد للعارف الحقيقي أن يمر بها، ذلك أن العارف الحق هو الذي وصل إلى “تهذيب النفس وتصفية الباطن مرورًا بطريق الكشف والشهود، وهي العبادة وطاعة أوامر الله بعون العشق والتوفيقات الإلهية، طبقًا لقابليته وقدرة فهمه ومجاوزة المراحل الصعبة المليئة بالمخاطر. وهذا هو طريق السلوك إلى الله، يقول عارف الطريق فريد الدين العطار النيسابوري، إنه يشتمل على سبع مراتب، هي الطلب والعشق والمعرفة والاستغناء والتوحيد والفقر والفناء. وهكذا يصل الإنسان الكامل إلى المنزلة المعنوية السامية”.
لا يستحق صفة النضج إلا سكارى الحق الذين سموا على أهواء الدنيا، أما الذين غلبوا على أمرهم بأهواء طفولية غير مقبولة، فيبقون أطفالاً مهما جرى الزمن
من هنا يتحول الإنسان في تصور العرفاء بعد السير، إلى تعديل السلوك الذي سينطلق من الوجدان، ويتغذى على وقود العشق والمحبة لأنها أصله، ذلك أن الإرادة إذا لم تنطلق من الحب والعشق، فتتعرض إلى الزوال، وشاهد ذلك في المحبين وأفعالهم.
ومن هنا، فإن الغرائز الحيوانية المودعة في الإنسان، من شأنها أن تتحول “وتصادق أشواق الروح وحنينها إلى عالمها العلوي، فتترجمها وتسخرها لحسابها، وتوجهها نشيدًا غريزيًّا هابطًا إلى الصور والأشكال والأهواء”.
التكامل الأخلاقي في مدوّنة الرومي
نجد في المدونة العرفانية لجلال الدين الرومي، منهجًا للتكامل المعرفي الأخلاقي، من خلال ما حاول توظيفه في كتابه “المثنوي” من الأمثلة والقصص اليونانية، خاصة في جانبها الأخلاقي، بعد أن ضمنها إلى المجال التداولي الإسلامي، وبعد أن حذف تلك الإحالات والإيحاءات الميتافيزيقة الوثنية الإغريقية، جاعلاً منها أكثر دلالة في تهذيب النفس وإصلاح الذات الإنسانية؛ أي فلسفة أخلاقية إنسانية بكل ما تعنيه هذه الكلمة. فقد وجّه الرومي دعوته إلى الفرد، ناصحًا له أن ينهمك في محاولة دائبة لاكتشاف ذاته، من أجل الوصول إلى إصلاح النفس ثم صياغتها، بحسب المثل العليا التي آمن الرومي بها. هذه المثل تقوم أساسًا على النواحي الإيجابية في جميع الأديان، لا سيما الإسلام والمسيحية، لكنه لا يكتفي بالتعاليم الدينية المذكورة، وإنما نجد في “المثنوي” تأثرًا شديدًا بالأفكار والفلسفات الإغريقية والهيلينية -من مثل الفيثاغورية والأورفية- ثم الأبيقيورية، والرواقية، وبالطبع الأفلاطونية الجديدة”.
الأبعاد العرفانية في الفكر الفلسفي المعاصر
بعد عودة الدين في الغرب، كان خيار بعض المفكرين الغربيين الاهتمام بالتراث العرفاني الإسلامي، واكتشفوا حقيقة الإسلام، وبعده الروحاني الذي عمل المستشرقون على تزييفه ونقله بصورة خاطئة؛ حيث أرادوا توظيف ذلك البعد في عملية إصلاح العالم، وبدأت توجهات الكثير من المفكرين إلى هذا الزخم التراثي.. وقد برز من هؤلاء طائفة كبيرة، منهم المفكر الفرنسي “إيريك يونس جوفروا” صاحب كتاب “المستقبل للإسلام الروحاني”، الذي شق فيه دربًا ونفَسًا طويلاً في أهمية الجانب الروحاني للإسلام في علاج الأزمات العالمية التي دشّنتها الحداثة الغربية، عن طريق ما سمّاه “الإنسان الكامل”، إذ يقول: “هذا الإنسان الكامل يكمل القدر النبيل ويتمثل في شيء واحد: أن يكون خليفة الله في الأرض.. إن النزعة الإنسانية الإسلامية تتجسد في أخلاق تضع الإنسان أو الفرد في علاقة ديناميكية بين الحرية والمسؤولية”.
كما أن هذه الحكمة الروحانية لا يمكن أن تأخذ بآراء بعض المفكرين الذين دعوا إلى النزعة الإنسانية، التي تحمل الزيف بين لبّتيها، خاصة مع المفكر محمد أركون، وإن “مشروع محمد أركون الهادف إلى بلورة نزعة إنسانية إسلامية مرتكزة في نهاية المطاف على عقل التنوير، يبدو لنا لهذا السبب شيئًا ضروريًا ولكنه غير كاف، لماذا نقول غير كاف؟ لأن هذا العقل كشف عن جوانبه المؤذية الضارة، والضالة المنحرفة داخل التاريخ الأوروبي طيلة القرنين الماضيين، وبالتالي إن العقل الموسع عن طريق العلوي أو الفوقي هو وحده القادر على تقديم حلول للمستقبل”.
هذا وعن طريق الرؤية العرفانية الروحانية يمكن لنا أن نجد المشترك الإنساني الذي من خلاله يتم تقليص الهوة الفارقة بين الإنسانية، أي بعد الرجوع إلى ما هو إنساني في الذات الإنسانية وهو صوت الروح والضمي
(*) جامعة لامين دباغين، سطيف / الجزائر.