“الغرباء” ليس كتابًا وإنما تجربة، وتجربةٌ تقطر وعيًا ومعاناة.. وليس سطورًا من حِبر ولا كلمات من حروف، وإنما أشعة من نور، وجدائلُ من فهم وأفكار ومن علم ونبضات ونسمات.
“الغرباء”.. ليس دعوة للغربة والاغتراب، أو العزلة والاعتزال -كما قد يُفهم من عنوانه للوهلة الأولى- بل هو سِفْرٌ في الانبعاث والتجدد والتجديد والاشتباك.. الاشتباك مع أشواق الروح، وآفاق العقل، وحاجات المجتمع.. مع عِبَر الماضي وتطلعات المستقبل، فضلاً عن إلحاحات الحاضر.
هو كتاب جديد للأستاذ فتح الله كولن، يضم أربعين مقالاً تناثر شذاها فوَّاحًا عبر سنوات مختلفة وفي مناسبات متعددة على صفحات مجلة “حراء” العربية، ومن قبلُ مجلة “سيزنتي” التركية.
وقد صدر الكتاب قبل الأزمة الأخيرة، ومع ذلك جاء دالاًّ عميق الدلالة على كيفية التعامل مع المحن، وتجاوز العثرات والعوائق، بجانب ما يمثله من دروسٍ في الوعي والسعي وفي العزم والهمّ والهمم.
ويمكن القول في البداية وبلا مبالغة: إن أفضل وسيلة لعرض الكتاب هو قراءته كاملاً، وإعادة نشره بلا إيجاز.. فأسلوب بيانه الراقي وعميق أفكاره العالية، يصبح معهما التلخيصُ نوعًا من الإخلال لا شك يقع فيه من يحاول ذلك.
والأمر هكذا، فقد رأيت أن أقف مع قضايا خمسٍ عالجها الكتاب في مواضع متفرقة منه، وهي قضايا أراها تمثل أسئلة ملحة راهنة، ومن المهم أن نرى كيف عالجها الكتاب. وتتمثل هذه القضايا في كيفية تصحيح مفاهيم الغربة والاغتراب.. وضبط العلاقة بين القلب والعقل وما يتصل بهما من أشواق وأفكار.. وأهمية الانتقال من العشوائية إلى التخطيط.. والجمع بين الاعتزاز بالذات والاقتباس المبصِر دون انغلاق أو تقليد أعمى.. إضافة إلى التوازن بين الاستغراق في الحاضر ومعايشته من جهة، واستشراف المستقبل والاستعداد له من جهة أخرى.
بين الغربة والاغتراب
“الغربة” مفهوم يشير إلى فجوة حاصلة مع المحيط الذي يحيا فيه المرء، سواء أكانت فجوةً معنوية تتمثل في شيوع أوضاع لا تستقيم مع المنهج المرسوم، أم فجوةً جغرافية تَفصِل المرء عن ذويه ومحبيه.
وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم في بُعْده المعنوي كما في الحديث الصحيح: “بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء” (رواه مسلم). وزادت بعض الروايات تعريفًا بهم فوصفتهم بأنهم: “الذين يُصلحون إذا فسد الناس”.
إذا كان كتاب “الغرباء” يرسم الطريق للغرباء إصلاحًا ودعوةً وبذلاً، فإنه ينبّه على أن هذا الطريق لا يجوز أن يكون معبرًا للعشوائية والفوضى، بل يجب أن يتخذ من التخطيط والتدبير منهجًا راسخًا، حتى يمكن أن يحقق الآمال المرجوة.
ويستلهم الأستاذ “كولن” هذا المعنى المتميز لمفهوم “الغربة”، فيوضح أن “الغربة” ليست اغترابًا أو ابتعادًا عن المجتمع -سواء أكان الابتعاد بالروح أم بالجسد- بل هي التحام بالمجتمع لشدِّه إلى الينابيع، ولإعادته إلى الجادة، ولدلالته على الهدى.. فالغربة عن المجتمع لا تدفع للاغتراب عنه واعتزاله، وإنما تدفع لتقديم المزيد من الجهد والعطاء لإزالة هذه الفجوة التي تجعل المصلِحين “غرباء” عن مجتمعهم، فيغدو المجتمع كله سواءً؛ في الصلاح والإصلاح.
فإذا كان قَدَر الدعاة أن يكونوا غرباء عن مجتمعهم في فترة من الفترات، فلا يجوز لهم الاغتراب عنه وهجره، بل هذه الغربة دافعةٌ للعمل على محوها، وليس تعميقها بالاغتراب والهجر.. كمن يرى نقاطًا سوداء في ثوب أبيض فيدفعه ذلك إلى إزالة هذه النقاط -بغسله وتطهيره- وليس إلى تركها فتكثر وتتجذّر ويصعب محوها بعد ذلك.
إن “الغرباء” كما يبين الكتاب: “ينتشرون على أبواب المجتمع كل يوم، حاملين معهم باقة من أفكار مباركة ورؤى سامية، يَمنحون المجتمعات الميتةَ حياة، ويبعثون فيها قيمًا فقدتها من جديد، يطرقون الأبواب مرة بعد أخرى دون كلل أو ملل، يبثّون مواجيد قلوبهم، ويفرغون إلهامات أرواحهم ثم يعودون”.
طوبى وألف طوبى للغرباء!.. بشرى وألف بشرى لهؤلاء الذين يتنفسون أملاً، وينشرون أمنًا وسكينة وسلامًا، ناسين ملذاتهم الذاتية من أجل سعادة المجتمع وطمأنينة الأمة، في زمن تلتهم فيه نار الفتنة والفساد الأخضر واليابس.
ثم هو يحذِّر من نوع آخر من الغربة أو الغرباء يمكن أن نسميه بالاغتراب أو المغتربين، ويصفهم الكتاب بـ”البؤساء”.. هؤلاء الذين “ابتعدوا كل يوم خطوة عن ذاتهم وإنسانهم وثقافتهم فأضحوا أجانب منكَرين.. هؤلاء يشبهون غرباءنا حزنًا ومكابدة واضطرابًا، لكنهم متهافتون، متهدّمون، يائسون، من الإيمان محرومون.. إذا بحثتَ عن حياة قلبية أو روحية لهم، فهيهات أن تجد شيئًا من ذلك. لا صوت لحركة، ولا بصيص لنور، ولا بارقة لأمل.. أيام هؤلاء أشد ظلمة من لياليهم، ولياليهم مقابر حالكة السواد”. إذن، الكتاب في صلبه وخلاصاته، يرسم طريق الغرباء؛ إصلاحًا ودعوة وأملاً وبَذْلاً، وينأى بالمصلحين عن طريق المغتربين اليائسين السوداويين.
بين القلب والعقل
لطالما أثير النزاع بين اتجاهين، ينحاز أحدهما للقلب وعاطفته وأشواقه، ويميل الآخر للعقل وضبطه ودقته وميزانه.. فيما عرف في تراثنا بأهل الباطن والظاهر، أو المتصوفة والفقهاء. وقد خسر الفكر الإسلامي كثيرًا جرّاء هذا النزاع الذي كنا في غنى عنه. فكما أن الإنسان روح وجسد، عاطفة وفكر، قلب وعقل؛ فالإسلام قلب نقي يحلِّق لتلبية أشواق الروح، تمامًا كما أنه عقل ذكي يضبط الفكر والتصورات، ويزن حركته في الوعي والسعي بميزان دقيق لا يعرف الاختلال ولا الجنوح ولا الاغتراب.
وكتاب “الغرباء”، بمقالاته المتعددة ينضح بهذا الفهم الدقيق لأهمية كل من القلب والعقل معًا، ولضرورة الجمع بين عوالمهما في غير شطط ولا جمود.
يرى الأستاذ كولن أن إذكاء القلب بإحياء الإيمان وتقويته فيه، هو المدخل لعمل جاد يروم تحصين الأفكار والمشاعر والثغور، فيقول: “يتعرض الإيمان والإسلام والقرآن اليوم إلى هجوم وانتقادات علنية ومباشرة، وتثار الشبهات حولهم. لذا، كان من الواجب أن تتوجه الجهود جميعها نحو نقاط الهجوم هذه؛ لتحصين الأفكار والمشاعر الإسلامية لدى الأفراد، وإنقاذ الجماهير من حياة سائبة لا هدف لها، وربطهم وتوثيق صلتهم بالأفكار والأهداف العليا. ولا يمكن إشباع هذه الحاجة وإنقاذ الأفراد من اللهاث وراء البحث عن أهداف أخرى، إلا بتقوية الإيمان في القلوب من جديد، بكل ألوانه وزينته وجماله وأسلوب خطابه، أي توجيه الإنسان إلى الحياة الروحية والقلبية من جديد”.
ومع هذا التأكيد على إحياء القلوب وتعميرها بالإيمان، تأتي الدعوة إلى تفعيل العقل، واعتبار ذلك من ضرورات الإيمان في الفهم الصحيح؛ لأن “الأرواح التي نذرت نفسها لرضا الحق تعالى، لا تعيش أي فراغ في حياتها العقلية والمنطقية نتيجة توحيد قبلتها، بل تراهم منفتحين على الدوام على المنطق والعلم، يعدون هذا من ضرورات الإيمان الحقيقي”.
إذا كان قَدَر الدعاة أن يكونوا غرباء عن مجتمعهم في فترة من الفترات، فلا يجوز لهم الاغتراب عنه وهجره، بل هذه الغربة دافعةٌ للعمل على محوها، وليس تعميقها بالاغتراب والهجر.
ويدعو الكتاب إلى عقد صلح بين العقل والقلب، وإنهاء عداء بينهما جرى لا موجب له: “ومن يدري؟ لعل صلحًا بين العقل والقلب يتأسس في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الذين نذروا أنفسهم لفكرة الإحياء والبعث؛ فيكون كل من الوجدان والمنطق بُعدًا مختلفًا للآخر، وينتهي النزاع بين المادي والميتافيزيقي، وينسحب كل منهما لساحته، ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، يعبِّر عن نفسه وعن صور جماله بلسانه، ويكتشف التناغم بين السنن التشريعية والنواميس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له”.
فهذه المصالحة المرجوّة، شرط أساس للانبعاث المترقَّب بعد خمود طويل كما يقرر الأستاذ كولن: “وإذا كان الانبعاث الذي نترقبه -بعد هذا الموت الطويل- هو التحقق في الإحساس والتفكير والحياة القلبية والروحية بـ”أصالتنا الذاتية” فذلك يستوجب منّا مراجعة جادة لما نحن عليه وما نتطلع إليه من غايات عظيمة لنوفِّق بينهما. إذ إن “قانون العلّيّة” يقتضي مناسبة ضرورية بين انتظاراتنا الكبيرة وأدائنا الراهن. لذا، فإن حمل تطلعات جليلة كهذه، ليس من شأن جَهلة لا نصيب لهم من “العلم والمعرفة”، أو بؤساءَ لا يملكون “غاية سامية”، أو عُطّلٍ لا يحملون بين جوانحهم “همّ قضية”، أو محرومين جديرٌ بهم وصفُ “فقراء الحكمة””.
بين العشوائية والتخطيط
إذا كان الكتاب يرسم الطريق للغرباء إصلاحًا ودعوةً وبذلاً، فإنه ينبّه على أن هذا الطريق لا يجوز أن يكون معبرًا للعشوائية والفوضى، بل يجب أن يتخذ من التخطيط والتدبير منهجًا راسخًا، حتى يمكن أن يحقق الآمال المرجوة.
وغياب التخطيط آفة لطالما ابتُلِي بها المسلمون في عصور تراجعهم الحضاري، مبرِّرين ذلك لأنفسهم بقشرة من التوكل المغلوط -أي التواكل- وبِفَهْم خاطئ للقَدَر وعلاقته بحرية الإنسان وإرادته.. إن من يرضى لنفسه ذلك، يبدو نشازًا من كَونٍ ينشد لحن النظام والانتظام.
فيقرر الكتاب أننا “إذ نسير نحو مستقبل حافل بتحولات متلاحقة وتقلبات متتالية، فإنه من الأهمية بمكان الحفاظ على روح الأمة وهويتها الذاتية، وإقرار الفرد والجماهير على محور التعقّل والتبصّر والاتزان في التفكير والتخطيط والتدبير، وعدم إتاحة الفرصة لأي نوع من أنواع التفكير الفوضوي والسلوك الاستفزازي الذي من شأنه أن يثير الحشود الجماهيرية إلى تصرفات عشوائية مجهولة العاقبة”.
واليوم إذا كنا نفكر في غدنا، ونأمل في الوصول إلى المستقبل ونحن ننبض بالحركة والحياة؛ فعلينا ألا ننسى أبدًا أن الطرق لا تقطع إلا بالمسير، وأن بلوغ الذرى لا يكون إلا بالعزم والإرادة والتخطيط.
بين التقليد الأعمى والاقتباس المبصِر
في هذا المحور تَطرح إشكالية العلاقة مع الغرب نفسها وبإلحاح؛ حيث ما فتئ سؤال النقل والاقتباس يمثل أحد السؤالات المعاصرة التي يكثر الجدل حولها؛ بين مانع بإطلاق، ومبيح بإطلاق، ومجيز فيما تجوز المحاكاة فيه.
في هذا المحور تَطرح إشكالية العلاقة مع الغرب نفسها وبإلحاح؛ حيث ما فتئ سؤال النقل والاقتباس يمثل أحد السؤالات المعاصرة التي يكثر الجدل حولها؛ بين مانع بإطلاق، ومبيح بإطلاق، ومجيز فيما تجوز المحاكاة فيه.
ولا أحد يستطيع أن يزعم أن حضارة ما تبدأ مسيرتها من الصفر. فمثلما أن الإنسان لا يولد مكتملاً، ولا يعيش منعزلاً، ولا يمكنه أن يحيا إلا وسط مجتمعه ومع ناسه، ويتعلم معهم تدريجيًّا، فكذلك الحضارات، تتبادل الخبرات ولا تنعزل، وتتناقل التجارب في تراكم وتكامل وإنْ تمايزت بعناصر ذاتية تستمد منها سمة الاختلاف عن الآخرين.. فالاختلاف مدعاة للتكامل لا التناحر كما يقرر الفهم الصحيح.. المهم، أن يكون لدينا ميزان دقيق لتمييز ما يمثل قَسَمَةً خاصة بنا -كما أن للآخرين قَسَمَاتهم الخاصة بهم- وبين ما يمثل مشتركًا عامًّا نافعًا للجميع، بحيث يجوز فيه النقل والإفادة وتراكم التجارب وتبادل الخبرات.
ولهذا يطالب الأستاذ كولن بـ”تجديد الذات”، ويراه “الشرط الأول” للبقاء، فيقول: “تجديد الذات هو الشرط الأول لمن أراد البقاء؛ ومن عجز عن تجديد ذاته وقت الحاجة محكوم عليه بالزوال والفناء عاجلاً أم آجلاً مهما بلغ من القوة والجبروت. كل كائن في هذا الوجود يحافظ على حيويته، ويواصل مسيرته عبر تجديده لذاته. فإذا توقفت دورة التجديد أصيب بالتآكل والبِلى كجثة انتُزِعت منها روحها”.
وهو في هذا “التجديد للذات” يدعو للإفادة من الآخرين، لكنه يحذِّر من الانخداع في النقل الذي يكون محاكاة وتقليدًا أعمى لا تلاقحًا ونقلاً مبصرًا، فيقول: “حذارِ من الخلط بين تجديد الذات، والهُيام بكل محدَث جديد أو الشغف بكل تقليعة مبهرة. فالتجديد الثاني ليس إلا محاولة لإخفاء التجاعيد بوضع طلاء على حشودٍ سَرَى في وجوهها التمزق والتآكل وامتد إلى جميع أطرافها، أما التجديد الأول فسعي حقيقي لإرواء المجتمع بماء حياة من معين الخضر، ومَنْحِه سمةَ الخلود”.
ويضيف مبينًا مقصوده من “التجديد الحقيقي” قائلاً: “التجديد الحقيقي، ارتقاء إلى فضاءات من التفكر أكثر جِدَّة ووضوحًا عبر إنتاج تَواليفَ فريدة بين القيم التي توارثتها الأجيال وصقلتها قرنًا بعد قرن، وزبدةِ التجارب الفكرية والعرفانية الراهنة، مع الحفاظ على جوهر البذور وصفاء الجذور. أما وسم المرء بالجِدّة ووصمه بالقدم بناء على جاكت لامع أو فستان فاقع، أو معطف أنيق أو شعر مدهون، فسذاجة صارخة وانخداع مريع؛ والسعي إلى فرض هذا النوع من التفكير، ضرب من التحايل والتمويه والتهريج.
كما أن الأستاذ كولن يدعو للإفادة من تجربتنا الحضارية والاعتزاز بها، وإلى التخلص من الشعور بالنقص والدونية، قائلاً: “إننا في الحقبة القريبة من ماضينا، نسينا بالكامل أن لنا جذورًا روحية محكمة نرتبط بها، وأننا أقمنا حضارات زاهرة عديدة على مدار التاريخ، وبدونا لمن ينظر إلينا كأننا أمة لا ماضي لها. والأنكى من ذلك أن شعورًا بالنقص أصابنا، فأنكرنا ذاتنا وأنكرنا ماضينا دفعة واحدة، بل بات بعضنا يخجل من هويته الوطنية. ابتعدنا عن ذاتنا يومًا بعد يوم حتى صرنا أسرى لقيم أجنبية”.
إذن، لا تعني الدعوة إلى الإفادة مما لدى الآخرين من حكمةٍ التنكرَ لماضينا، ولا ازدراء تجربتنا، ولا التنصل من قسماتنا الخاصة المميزة لنا كما يعتقد البعض خطأ.
بين استغراق الحاضر واستشراف المستقبل
إحدى الآفات القاتلة التي عرقلت العقل المسلم ومنعته من الخروج من الأزمات التي ألمت به، هي عدم قدرته على مدِّ البصر خارج حدوده الزمانية والمكانية، على نحوٍ يجعله غير مستغرَق في مشكلات حاضره المتشابكة، وإنما يكون قادرًا على فتح نوافذ جديدة، وعلى تجاوز واقعه الأليم والاستعداد الجيد لما هو آت.
والإسلام -بتعبير موجز واضح- هو دين المستقبل. يكفي أنه يربي المسلم على الاستعداد للآخرة بعمل الصالحات واجتناب المنهيات، ويدربه على كبح جماح نفسِه رجاءَ الثواب من الله تعالى في دار الخلود.. أليس في هذا تنشئة على التفكير بالمستقبل؟
قبل أن نهدم بنيانًا ما، ينبغي أن نكون قد حسمنا قرارنا حول ما سيُبنَى مكانه، فإذا كان ذلك واضحًا وضوحًا تامًّا، عندئذ يمكن الشروع في هدم البنيان القديم المتداعي. وإن مبدأنا في هذا الشأن هو :نَهدم لنبني”.
وفي “الغرباء” حديث مستفيض عن المستقبل وضرورة إعداد العدة له، بمزيج من الأمل والعلم والتخطيط والعمل الدءوب، يقول الأستاذ كولن: “لكي نسير بخطوات واثقة إلى المستقبل المشرق الذي نؤمّل أن يكون لنا، ننبه فيما يلي إلى قضايا في غاية الأهمية والحيوية:
- ينبغي على الأمة جميعًا -وبالأخص على النخب والمثقفين منها- أن يؤسّسوا “سَلامًا” بينهم وبين تاريخهم.
- ينبغي أن يتم التخطيط لكل حركة تجديدية وعملية تغييرية وُضعت من أجل إنشاء المستقبل، بناءً على مقوماتنا التاريخية وجذورنا الروحية.
- ينبغي ألا تشوَّه قضية حيوية كهذه بالأغراض السياسية ولا أن تلوَّث بالمطامع الفردية أو المصالح الفئوية.
- يجب أن يوضع في الحسبان أن المساعي والجهود التي تصبّ في هذا الاتجاه، قد تعترضها بعض المضاعفات الجانبية المفاجئة، حتى وإن تم اتخاذ كل التدابير اللازمة. ومن ثَمَّ ينبغي السير بحكمة وبصيرة، كما ينبغي عدم إتاحة الفرصة لعواطف طفولية طائشة.
- قبل أن نهدم بنيانًا ما، ينبغي أن نكون قد حسمنا قرارنا حول ما سيُبنَى مكانه، فإذا كان ذلك واضحًا وضوحًا تامًّا، عندئذ يمكن الشروع في هدم البنيان القديم المتداعي. وإن مبدأنا في هذا الشأن هو :نَهدم لنبني”.
- إن جميع القرارات وكافة الأفعال المتعلقة بأي مشروع في هذا الإطار، ينبغي أن تُزوَّد بالعلم والخبرة والمعرفة والتخطيط.. وكل مسعى وكل مبادرة ينبغي أن تدعم بالدراسات العميقة والبحوث الدقيقة والاستيعاب الشامل، حتى لا نقع في دائرة مفرغة من الهدم والبناء.
وفي هذا الصدد، يلفت الأستاذ كولن إلى سنّة مهمة من سنن الله في التدافع وفي مداولة الأيام والمواقع بين الناس؛ حتى لا يصاب أحد بهزيمةٍ جراءَ ضغطِ اللحظة الراهنة وقسوتها، فيقول: “إن سنّة الله اقتضت ألا تستمر وتيرة السقوط والتراجع إلى الأبد، وألا تسير عجلة الأحداث والوقائع في اتجاه واحد قط، وألا يمتد سلطان الليالي إلى أبد الآباد. فكم من مرة دار الزمان دورته، فتألقت خرائب الديار بلآلئ العمران من جديد، وعادت يد الأحداث -التي تسير في خط دائري- توزع أزهار البسمات على البؤساء الذين أبكتهم فيما مضى، وانهزمت ظلمات الليل أمام ضياء النهار مدحورة مقهورة، ودوّت جنباتُ الكون مهللة بضحكات النور الساطعة”.
تلك كانت وقفات، أو رشحات من فيض هذا الكتاب المهم للأستاذ فتح الله كولن، ولستُ بحاجة للقول بأنها لا تغني عن مطالعة الكتاب والتأمل مليًّا في سطوره وفيما بين كلماته، وإنما هي -كما أرجو-دافع لمطالعته والتمتع بما حواه من أدب رفيع وفكر عميق وتجارب ناضجة نابضة.
(*) كاتب وباحث، وسكرتير تحرير مجلة التبيان / مصر.