لم يآبه كثيرًا بهذه الفرصة التى يتمناها غيره من الكثيرين، فاز برحلة الحج هذا العام بالرغم من أنه لم يسعى إليها بِجِد، كان قد قدم أوراقه مع صديقه فى العمل ولم يكن متحمسًا للأمر، ولكن أتته الموافقة على السفر بالرغم من ذلك.
قابل الخبر بمشاعر فاترة توحى بعدم تقديسه للأمر كما ينبغى، فعندما أعلمه صديق عمله الذى تمنى هذة الرحلة كثيرًا بأنه من ضمن المقبولين هذا العام، لم يكن رد فعله سوى ابتسامة سامجة بغير حماسة ولا تهليل.
كان رجل كغيرة من الكثيرين فى هذا المجتمع المتحرر لا يعلم عن دينه إلا شيئًا يسيرًا، يكاد يصلى كلما تذكر، ولا يعلم طريق المسجد إلا من قبيل الصدفة، يغلف قلبه الكثير من الصدأ الذى يحتاج إلى قوةٍ تُجليه عن قلبه، ربما تفوح ريح الخمر من فمهِ تارةً أو تنظر عيناه إلى حرام تارة أخرى، كان فقط يرى فى هذة الرحلة فرصة لزيارة أماكن جديدة فقد اعتاد السفر والفسح دوماً ولكن ليس إلى الأراضي المقدسة.
حتى إذا هل هلال ذى الحجة وأقتربت الشعيرة العظمى من الأداء، جاء موعد سفره إلى البيت الحرام، ودّع أهله وداعاً فاتراً وتوجه تلقاء البيت ، لم يزرة من قبل ولم يكن من المترددين على هذا المكان الذى طالما سمع عنه كثيراً، ولم يره سوى على الشاشات، دخل أطيب بقاع الأرض ومازالت نظرة التعالى تلك ترسم جبينه، وعيناه تدور يمنة ويسرة موحية بكثرة التأمل، فهو فى مكان لا يألفه أمثاله بسهولة، إستقر فى فندقه المترف حتى إذا إستراح وجاء موعد أداء عمرته الأولى ورؤيته للبيت الحرام، استعد ونزل مع مجموعته وهو يشعر أنه غريب فى هذا المكان، حتى إذا اقترب من مدخل الكعبة المشرفة أحس قلبه يخفق بشدة، شعور جديد يساور جوارحه كأنه يدخل إلى عالم جديد لم يقربه من قبل، حتى إذا عبر المدخل المطل على البيت الحرام ووجد عينه تقع على أطهر بقاع الأرض، لم يتمالك نفسه فقد ساوره فجأة شعور غريب، لم يكن كذلك من قبل أبدًا، جسمه يرجف بشدة، ودموعة تنهمر على خديه كأنهما سيل جارف دون توقف، قدماه تحملانه مسرعة إلى البقعة المباركة، لسانه يتمتم بكلمات لم يعتد قولها ابدًا،ذكر وتهليل وتكبير ودعاء، تهللت أساريرة واستنار وجهه بفضل بركة هذا المكان المبارك، التمس طرقُ كثيرة ليلمس الكعبة المشرفة، يحول الزحام بينه وبينها وتبوء محاولاته بالفشل، إلا أنه لم ييأس من ذلك، لا يرى الزحام من حوله أبدًا برغم شدته، لا يشغل عينيه سوى هذه الهالة النورانية المحيطة بالبيت، يراها جيدًا ويزداد تأمله فيها، تزداد دقات قلبه بشدة كأنها تُسابق دقائق الزمان، توقف لحظة مع لسانه فإذا به لا يردد سوى (يارب).
تساوره نفسه ببعض الخواطر المتعجبة والمتسائلة، ما أجمل هذا الشعور؟
أين كان منذ زمن؟
أين كنت أنا وما هذه الحياة التى كنت أحيا؟
أىُ حياة كانت هذه والله إنها ليست سوى سراب؟
كيف غفلت عن هذة المتعةكيف غفُل قلبي عن هذا الإيمان؟
إنها حقًا جنة الدنيا جنة الإيمان جنة الطاعة اللهم لاتحرمنى إياها أبدًا؟
غطى سيل الدموع وجهه وهى تنهمر بغزارة، ذكريات عمره تمر أمام عينه بسرعة، وقلبه يتوجس خوفًا من عدم القبول، فيبعث الله فى أذنه بقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53).
فيطمئن قلبه وينفرج ضيق صدره، يوجه وجهه تلقاء البيت ويرفع يده ناويًا صلاة لربه ينوى فيها توبة نصوحًا ويرجو فيها القبول، وأخيراً يشكرة فيها على هذه الفرصة التى أعادته للحياة وكانت له ميلادًا جديدًا.