إن التأمل في قصة موسى والخضر عليهما السلام الوارد ذكرها في سورة الكهف والتدبر في مجريات أحداثها وما حفلت به من دلالات وإشارات قوية تتعلق أساسًا بموضوع التعلم، يمكن أن يوصل إلى استنباط أهم المبادئ والأسس التي يمكن أن نشيّد عليها صرح تعليمنا ونتخذها لبنات أساسية في كل فعل تربوي نروم من خلاله تحقيق الجودة وإعداد متعلمين سمتهم الأساسية الجّد والمثابرة ، وفيما يلى بيان لأهم هذه المبادئ كما نطقت بها الآيات الكريمات:
التضحية في سبيل التعلم
ذلك أن موسى عليه السلام ترك أهله وأصحابه وبلده وخرج طالبًا للعلم إلى وجة لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى مستعدًّا لضرب أكباد الإبل وتحمل جميع أنواع المشاق في سبيل التعلم بعد عتاب الله تعالى له فيما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ“. وهي التضحية والمشقة التي دل عليه قول الله (لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) (الكهف:60) ثم بعد ذلك (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) (الكهف:62).
الحاجة إلى المعين
ذلك أن موسى عليه السلام عندما عزم على الخروج لطلب العلم اختار فتى ليرافقه يقال إنه يوشع بن نون والذي كانت وظيفته حمل الزاد وإعداد الأكل وما إلى ذلك من الأمور التي إذا ما قام بها طالب العلم بنفسه ربما فوتت عليه أوقاتًا ثمينة للتعلم.
إن التأمل في قصة موسى والخضر عليهما السلام والتدبر في مجريات أحداثها وما حفلت به من دلالات وإشارات قوية تتعلق أساسًا بموضوع التعلم، يمكن أن يوصل إلى استنباط أهم المبادئ والأسس التي يمكن أن نشيّد عليها صرح تعليمنا.
الرغبة الجامحة في التعلم
ذلك أن موسى عليه السلام رغم مكانته العالية وعلمه وتأييده بالوحي من الله عز وجل إلا أنه امتثل لتوجيه ربه تعالى وخرج باحثًا عن الرجل (الخضر) الذي سيتعلم على يديه، وكله لهفة وشوق للعثور عليه وهو ما تحقق عند الصخرة، حيث فُقد الحوت ليبادر بمجرد العثور عليه إلى تقديم طلبه قائلاً: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف:66)، مؤكدًا على رغبته ولهفته (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) (الكهف:69).
التواضع
فموسى عليه السلام عندما التقى بالخضر لم يقل له بعبارة فجّة أنا موسى نبي في بني إسرائيل وقد بعثني الله إليك لتعلمني فعلمني، كلا لم يقل ذلك وإنما طلب ذلك بلطف ولين في تواضع تام قائلاً: (قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف:66).
التعاقد
ذلك أن التعلم الناجح هو الذي يفتتح بالاتفاق بين المعلم ومتعلميه حول شروط التعلم وآلياته ليعرف كل طرف ماله وما عليه بلا إفراط أو تفريط: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) (الكهف:70)، وقبل ذلك قال موسى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) (الكهف:69) فتم الاتفاق وانطلقت الرحلة التعليمية.
المزاوجة بين ما هو نظري وما هو عملي
ذلك أن الخضر عليه السلام لم يُقعد موسى عليه السلام وعلمه ما شاء الله أن يعلمه وإنما انطلق به إلى الميدان ليريه بعد التجارب مثل: خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، وذلك إيمانًا منه أن ما سيسمعه موسى وما سيراه لا محالة سيرسخ في ذهنه بخلاف ما لو أُلقي عليه المعرف إلقاءً جافًّا.
التأني والتريث وعدم التسرع في الإنكار أو مقاطعة المعلم ما لم ينه كلامه
ذلك أن أي كلام قد يكون له معنى ظاهرًا وآخر باطنًا والمتعلم اللبيب هو من يتأنى ولا يستعجل حتى تتبين المعاني الباطنة والأسرار والنكت الكامنة وراء كل ظاهر ، وقديمًا قيل: “من تأنى نال ما تمنى“.
إمهال المتعلم وإعطاءه فرصة للتعلم
ذلك أن موسى عليه السلام عندما أنكر خرق السفينة ناسيا فإن الخضر عليه السلام لم يقصه مباشرة من التعلم وإنما أعطاه فرصة أخرى ، ليعاود موسى الكرّة منكرًا ما هو أفظع من الخرق وهو قتل الغلام بلا عذر ظاهر وذلك نسيانًا منه مرة أخرى ليحصل على فرصة أخيرة بعد اعتذاره وطلبه العفو من معلمه عليه السلام: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) (الكهف:76).
احترام المعلم وتقديره
ذلك أن الخضر عليه السلام لقي معاملة راقية من طرف موسى عليه السلام من بداية الرحلة التعليمية إلى نهايتها، حيث وجدنا موسى في البداية يطلب اتباع معلمه كما سبقت إشارة بلطف ولين، دون فرض أو استغلال لمنصب نبوته، ثم بمجرد ما نسي وأنكر عليه السلام ما أنكر إلا وبادر إلى الإعتذار بتواضع تام دون تأفف أو ضجر، وفي ذلك من التقدير والاحترام للخضر عليه السلام الشيء الكثر.
إشباع رغبة المتعلم ووضع حد لحيرته
ذلك أن الخضر عليه السلام في النهاية لم يفارق موسى عليه السلام إلا وقد بين له كل ما غمض عليه واضعًا بذلك حدًّا لكل التساؤلات التي جالت في خاطر تلميذه وأرهقت ذهنه، ليقدم لنا بذلك نموذجًا للمعلم الناجح وما ينبغي أن يكون عليه من تفان في أداء واجبه شرحًا وتوضيحًا دون كلل أو ملل ولو في أصعب الظروف.