لعلنا لا نطلع على حقيقة الشاطبي بصفة مكتملة وكاملة إلا بجمع كلامه بعضه إلى بعض، ذلك أن كتابيه الشهيرين الموافقات والاعتصام يتكاملان، بحيث أن فهم أحدهما موقوف على فهم الآخر، مما يؤكد على الوحدة الفكرية لصاحبهما ونسقيته، كما أنهما يعكسان صورة مكتملة لحياة صاحبهما وهمومه المجتمعية. فالشاطبي لم يكن منعزلاً بل كان واقعيًّا يؤثر ويتأثر بعصره، ولهذا فإن معرفة العصر مهمة لمعرفة صاحبه، فإن من العلماء من هو انعكاس و مرآة لواقعهم، ويعتبر الشاطبي واحدًا من العلماء الذين يعكسون واقعهم، مثله في ذلك مثل كبار العلماء الذين هم ردات فعل لواقعهم، وكلما كان الواقع أكثر تحديًّا كلما كان أولئك العلماء أكثر عمقًا وأبعد نظرًا، بناء على نظرية التحدي والاستجابة والفعل وردة الفعل، فالاستجابة هي من جنس التحدي، ولهذا نلاحظ كبار العلماء انعكاسًا لواقعهم، فالغزالي يصور حالة متشائمة لعصره، حيث كان انفكاك وتفكك الخلافة الإسلامية.
إن البدع كما تتجلى في المجتمع تتجلى أيضا في المعرفة، وقد عرض الشاطبي لهذه البدع بكثير من الاهتمام في كتاب الاعتصام، ونصب الشاطبي نفسه مقاومًا للبدع في المجتمع والمغرفة.
عاش الشاطبي عصرًا عصبيًّا وعصيبًا على شاكلة الغزالي، وكثير من نصوص الموافقات لا تفهم إلا في ضوء النقد الاجتماعي، كما أن كتاب الاعتصام هو أيضا كتاب في الإصلاح الديني والاجتماعي. فالشاطبي هو مصلح على المستوى الاجتماعي كما هو مصلح على مستوى المعرفة والأفكار، فالإصلاح لا يتناول عنده المعرفة فحسب بل يتناول المجتمع أيضا، لذلك يقول “فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقادًا، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول، وفي خلال ذلك أتبين ما هو من السنن أو من البدع، كما أتبين ما هو من الجائز وما هو من الممنوع، وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية”.
إن البدع كما تتجلى في المجتمع تتجلى أيضا في المعرفة، وقد عرض لهذه البدع بكثير من الاهتمام في كتاب الاعتصام، ونصب الشاطبي نفسه مقاومًا للبدع في المجتمع، وأيضا مقاومًا للبدع المعرفية في أصول الفقه، فدعا إلى العودة بالدين إلى حالته الصحيحة قبل التبديل والتحريف.
أما على مستوى البدع فيقول هو نفسه بأن محاولته وضعته في موقع لا يحسد عليه، فقال متحدثًا عن ما تعرض له: “فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع، ولا فائدة فيه، كما يعزي إلى بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات..، وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص..، وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة..، وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا والحمد لله على كل حال”
انطلاقًا من هذا الهم الذي يعكسه كتاب الاعتصام، والذي يتمحور حول الدفاع عن الدين الحق، كما فهمه حيث يتحدد حصرًا في الكتاب والسنة وإلغاء ما سواهما، وقد اعتمد في ذلك على التوفيق والإلهام من الله كما قال الذي بفضله: “شرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني، وألقى في نفسي إلقاء بصيرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد به فيه، وأن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك و خسران”.
وهذا هو ما يفسر لنا اكتفاءه في الموافقات في كتاب الأدلة على القرآن والسنة، وتركه للإجماع والقياس الذي درج على تسميته بالقياس الأصولي.
إن الغاية من الشريعة هو إخراج العبد من داعية هواه إلى أن يكون عبدًا لله منقادًا لأوامره، ويفهم من ذلك أن لا ينقاد لهواه ولا لهوى غيره.
ليس هذا فحسب بل إن قدرًا لابأس به من مسائل الموافقات إنما يفهم على حقيقته على ضوء كتاب الاعتصام، ومثال ذلك كلامه عن أن الغاية من الشريعة هو إخراج العبد من داعية هواه إلى أن يكون عبدًا لله منقادًا لأوامره، ويفهم من ذلك أن لا ينقاد لهواه ولا لهوى غيره..
وعلى مستوى مقصود الشارع من فهم الشريعة يضع الشاطبي الفهم العربي الأمي كمقياس لفهم الشريعة ومثل ذلك عنده، فيصل التفرقة بين ما هو من الإسلام وما ليس منه على مستوى العلوم والمعارف والنحل والثوابت ، واعتمد على هذا المنطلق لمحاربة الكثير من البدع النظرية و العملية. وانطلاقا من ذلك حمل على الطوائف الأخرى من الفلاسفة والمتصوفة وكل من يقوم بتأويلات باطلة لا تتماشى مع الفهم العربي، ومن هذه الجهة عارض الشاطبي الفلاسفة في إرادتهم تحديد الماهيات تحديدًا مطلقا فذلك عمل غير شرعي.
ويدعو الشاطبي إلى أن تكون الأحكام الاعتقادية والعلمية مما يسع الأمي فهمها. وهذا رد على المتكلمين و الفلاسفة. فلابد من وضع حد لقدرة العقل البشري فلا يتناول إلا ما كان في حوزته يقول في هذا الصدد « ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها”.
وفي النوع الثالث من كتاب المقاصد وهو مقاصد المكلفين يتعرض الشاطبي لضرورة انصياع المكلفين للأوامر الإلهية، وهذا القسم والذي يليه يصعب فهمهما داخل نظرية المقاصد بالمفهوم التقليدي. فالشاطبي يبدو فيهما منظرًا ومصلحًا اجتماعيًّا أكثر منه باحثًا في أصول الفقه بالمعنى التقليدي، وقد لاحظ المهتمون مثل عبد الله دراز والريسوني افتراق هذا القسم الثالث عن القسمين السابقين مع طوله في نفس الوقت. والريسوني في كتابه عن الموافقات إنما اهتم بسبع مسائل منه وترك ثلاثة عشر مسألة أخرى. وفي هذا القسم يبدو فيه الشاطبي مهتمًا أكثر بمقاومة المشعوذين وأصحاب الخرافات. وبلغة الجابري فإن الشاطبي يواصل العقلانية البرهانية في المغرب والأندلس ضد الغنوصية و الإسماعيلية والسينوية في المشرق، وهذا التوجه الجابري لا نرضى به، وإنما عرضناه لتقريب المطلوب، أما في القسم الأخير من المقاصد فيتناول فيه الشاطبي كل ما من شأنه أن يقف في وجه اطراد الأحكام الشرعية، كالحيل مثلا حيث بحثها في مجموعة من المسائل، مفرقا بين الجائز والحرام في تحليل عميق يؤكد جدية الإصلاح الاجتماعي عنده.
وما تتوصل إليه في هذا الصدد هو أن مواضيع هامة من الموافقات لا تستوعب بالكامل إلا في إطار كتاب الاعتصام وموضوعه، فالاعتصام هو كتاب في البدع أصالة وفي أصول الفقه والمقاصد الشرعية بالتبع، وكتاب الموافقات هو في أصول الفقه أصالة وفي البدع تبعًا، فكل منهما تضمن مباحث من صميم مباحث الآخر ولهذا كانا كتابين طريفين شكلاً ومضمونًا.