لم يُترك جسم الإنسان نهبًا ومرتعًا لأعدائه المتربصين به من ميكروبات (بكتريا وفيروسات وفطريات إلخ)، بل حباه الله تعإلى وأمده بحرس عتيد، وفي الصراعات والحروب الوقائية والفعلية ذو بأس شديد، ولعل هذا “النظام الدفاعي والأمني” المتنوع والمتخصص قد استبان بعض جوانبه منذ قرون عديدة مضت، لكنه اليوم كعلم وآليات وتطبيقات أحتل مكانة بارزة، وأصبح مثار اهتمام كبير، ودهشة بالغة من عدة جهات.
خطوط الدفاع الأولى عن أجسامنا
لجيش الدفاع عن أجسامنا عدة خطوط وأصناف عامة وخاصة، رئيسة وفرعية مُدربة متخصصة، فأول هذه الخطوط الدفاعية الخارجية: الجلد، وما عليه. فهو جهاز عازل واق ضد أغلب أنواع الميكروبات، ولا تسطيع أختراقه إلا نادرًا، وعندما يتحطم هذا الحصن المنيع بجروح وقروح وحروق، فإن أعداء الخارج يجدونها فرصة سانحة لغزو الجسم، ومن ثم تحدث معارك داخلية أخري؛ كما نجد في العرق الملحي، والإفرازات الدهنية.
ويمنع الحاجبان تساقط حبات العرق داخل العينين. لكن حراسها اليقظين المدافعين عنها دوما هم الجفون. وما تحمله من رموش، تقيها من الأجسام الدقيقة والأتربة والضوء الزائد والملتحمة غشاء رقيق يبطن الجفون، ويحيط بالقرنية ويكسو صلبه العين، وتحتوي الدموع/ السائل الملحي (تحتوي على ملح كلوريد الصوديوم) الذي يتم إفرازه من الجهاز الدمعي، غدة في الحافة العلوية الخارجية لكل عين، وكيس وقنوات دمعية، وأخرى تصل للأنف، على مضادات للبكتريا هي الليسوزيم”lysozyme” فتحافظ على صحة العين، وتقيها من الميكروبات، وتحمي بإستمرار رطوبة العين من الجفاف.
أما الجُدر المحصنة من الأغشية المُبطنة الموجودة بالأنف والجيوب الأنفية والبلعوم والقصبة الهوائية والشعبتين، فهي تصفي وتنقي الهواء مما يعلق به، وترشحه من الغبار والأدران، وتدفئه ليتناسب مع درجة حرارة الجسم، وتحفظ وتحافظ على نسبة الرطوبة المناسبة، وذلك عبر الشعيرات والأغشية المخاطية والمخاط، وبلايين من الخلايا ذات الأهداب، فضلاً عن عدد من المواد التي تشل نمو الكائنات الدقيقة وتمنع انتشارها، وأحيانا تميتها. وإذا ما حدث تهيج ما فيأتي السعال ليطرد بقوته الميكانيكية عددًا هائلاً من العوالق والميكروبات.
جهاز مناعي عجيب
تدل “المناعة: ” “Immunityعلى عدم تمكين ملايين من الكائنات الحية والأجسام الغريبة من اختراق الكائن الحي لتُحدث به ما تُحدت من علل وأمراض ومشكلات”، وقد لاحظت شعوب كثيرة أن من نجوا من جائحات خطيرة لم يصابوا بها بعد ذلك، وفي اليونان القديمة من نجوا من طاعون”بيلوبونسيان” لم يصابوا به ثانية، حيث اكتسبوا مناعة ضد المرض، وبدأ الأتراك والصينيون في استخدام مواد مستخلصة من البثور التي يسببها مرض الجدري وحقنها في آخرين ليقيهم المرض (إحداث مناعة مُكتسبة).
وحسب أبقراط (أبو الطب)، فإن الأمراض تنقسم إلى فئتين: أمراضاً زائرة (الأوبئة)، وأمراضا مُقيمة (متوطنة)، وفي سبب حدوث الأوبئة وانتشارها.. تبنى أبقراط نظرية “العفن” وعزا ذلك إلى الرائحة الكريهة، ورائحة تفسخ الجثث، أما أطباء الحضارة العربية الإسلامية فاعتقدوا بنظرية “العدوى”، فأشار الشيخ الرئيس”ابن سينا” (360-428هـ،970- 1036م) إلى إمكانية وجود جسيمات دقيقة تسبب المرض، لذا فهو أول من قال “بالعدوى” وانتقالها عبر الماء والتراب والهواء وبخاصة عدوي السل الرئوي، وكان “أبو بكر الرازي”(215-313هـ،830-925م) قد قام ببحوث وبائية كثيرة، ومّـيز بين الحصبة والجدري، من حيث أعراضهما ونوعية البثور فيهما، ولذلك أُطلق علىه: “أبو الوبائيات في الحضارة العربية الإسلامية”.
ولما طاف وباء الطاعون/ الموت الأسود بالأندلس في ربيع 1347م، رصده “أبو جعفر أحمد بن خاتمه الأندلسي” (1307ـ 1369م) وراقب سيره وعرّفه، ورصد أسبابه وأعراضه وانتقاله “بالعدوى”. وشاهد المصابين به، و ذكر كيفية التحرز منه، وعلاجه إذا نزل، وسجل ملاحظاته ومشاهداته تلك بعد عامين من انتشاره في كتاب وحيد له في الطب عنوانه:”تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”. وفيه يؤكد بوضوح علمي على نظرية انتقال “عدوى” الطاعون بالمخالطة فقال: “وكما أن الضرر يحصل من تلقي أنفاسهم، فكذلك يحصل من الأبخرة المتصاعدة من أبدانهم، وكذلك من استعمال ملابسهم وفرشهم التي تقلبوا فيها زمن مرضهم، ذلك يشهد له العلم والتجربة…، ولقد شاهدت أهل سوق “المريّه” الذي يبيعون بها ملابس الموتى وفرشهم مات أكثرهم، ولم يسلم منهم إلا الأقل”.
كما لا ينسي تاريخ علم المناعة فضل العالم الفرنسي “لويس باستور” (1822-1895) الذي توصل إلى أكتشاف عدد من الميكروبات، وإضعاف عدد منها مثل بكتريا ” Bacillus Anthracis” ، وهي عصيات موجبة لصبغة الجرام ومُسببة لمرض الجمرة الخبيثة “Anthrax”، كذلك له سبق في استعمال التطعيم واللقاح ضد عدد من الأمراض، وبصفة خاصة اللقاح ضد فيروس داء الكلِب Rabies. ثم يومًا بعد يوم تنامي تطور العلوم، وتزايدت المعارف بهذا الجهاز المناعي العجيب، وبقدرة الله تعالى وبديع صنعه فيه.
في العقود الأخيرة حظي جهاز المناعة بإهتمام بالغ، لأسباب عدة منها: الانتشار السريع والدرامي لمرض نقص المناعة المكتسب (AIDS). وزيادة أمراض التحسس المناعية ضد الذات “Auto immune diseases”. والإكتشاف الحديث لإمكانية تطويع الجهاز المناعي في علاج العديد من الأمراض، فضلاً عن تحسين نتائج زراعة الأعضاء المختلفة، وعدم رفض جسم المريض لها.
ويشار إلى أن الوظيفة الأساس لهذا الجهاز الأمني القوي هي التحري والتعرف على مسبب المرض أيا كان نوعه، وهذا الجهاز العجيب قادر على رصد والتقاط أي تغير كيمائي بسيط يطرأ على تركيب المواد الغريبة المسببة لتنشيط خلاياه. وهو ما يعرف بـ “التخصص”Specialization. وله خاصية ثانية وهي أرشيف “ذاكرته” القوية “Memory”والتي من نتائجها نجاح عملية التطعيم “Vaccination”فعند مواجهة الجسم الثانية مع مسبب مرضي “Antigen” تصل الأجسام المناعية لذروتها في وقت أقل مما أخذته عند المواجهة الأولى، أما الخاصية الثالثة والهامة فهي تمييز جهازنا المناعي بين “الأصيل والدخيل”، بين “المواطن والمتسلل”، بين “ذواتنا والأغيار”.