إن السِّر الذي هزَّ أركان الأرض كلها على أيدي أحد عشر حواريًّا، هو عمق إخلاصهم وصدق سلوكهم الذي حرَّك في قلوب الناس عاطفة الإيمان. وكذلك ساداتنا الصحب الكرام -رضوان الله عليهم- انطلقوا في شتى بقاع العالم يحملون مشاعل الإيمان في أيديهم، فتفتحت لهم القلوب بالقبول حيثما حلُّوا. ما السر؟ يكمن السر في سلوكهم الصادق الذي يثير في القلوب الغبطة والإعجاب ويحثهم على التجاوب معهم.
إن السِّر الذي هزَّ أركان الأرض كلها على أيدي أحد عشر حواريًّا، هو عمق إخلاصهم وصدق سلوكهم الذي حرَّك في قلوب الناس عاطفة الإيمان.
هكذا سارت قاطرة الزمان قرنًا بعد قرن حتى بلغت عصرنا الراهن، فإذا بالمسلمين قد ازدادت أعدادهم، وامتدت رقعة أراضيهم، في حين أن الروح فقدت لهيبَها في النفوس، والمعاني انطفأت جذوتُها في القلوب، فاختلّ التوازن بين الكمّ والكيف.
اليوم لدينا العقل المفكِّر، وعندنا المنطق المدبِّر، وقد تفوَّقنا على القدماء من أسلافنا في مجال العلوم والمعارف والتكنولوجيا بصورة هائلة. لكن شتان بين قلوبنا وبين القلوب التي كانت تخفق في جوانحهم. إننا اليوم محرومون من نعمة كبرى كانوا يملكونها؛ نعمة الاستشعار بالله في كل خفقة من خفقات القلب، ثم تجلِّي ذلك الاستشعار في ملامح الوجه وظهورُ آثاره في السلوك. أجل، كان ينبغي أن ينعكس خفقان قلوبنا على وجوهنا وسلوكنا، وأن يكون مَظهرُنا مرآة لما يموج في بواطننا من إخلاص ويقين.
اليوم لدينا العقل المفكِّر، وعندنا المنطق المدبِّر، وقد تفوَّقنا على القدماء من أسلافنا في مجال العلوم والمعارف والتكنولوجيا بصورة هائلة. لكن شتان بين قلوبنا وبين القلوب التي كانت تخفق في جوانحهم.
انظر إلى الساعة كيف انعكس عملها الداخلي على مظهرها الخارجي في صورة نظام فريد، انظر كيف تنتقل العقارب بين الثواني والدقائق والساعات بدقة فائقة. ما أعظم هذا الإبداع وما أروعه، أليس كذلك؟ ولكن هل انتبهت إلى أن المحرك الداخلي هو من ضبط إيقاعات الساعة الخارجية؟
إن منابع الحيوية كامنة في باطن الإنسان؛ في قلبه، في لطيفته الربانية، في سره، في خفيِّه، في أخفاه، في أعماقه اللانهائية. وعندما تتفجر هذه المنابع من الأعماق تظهر انعكاساتها سلوكًا على الجوارح والملامح والأطراف. ما يَنقص العالمَ الإسلامي اليوم ليس العلم ولا التكنولوجيا ولا المال؛ نقصُنا الحقيقي سلوك صادق، وحال مخلصة، وحياة قلبية عميقة توجِّهنا في قيامنا وقعودنا وترشدنا في حِلّنا وترحالنا. إن ما ينقصنا صورة سلوكية صادقة تحرّك مكامن الإيمان في قلوب الناس وتحضهم على التصديق برسالتنا الخالدة.
بين الأسباب والخوارق
لا تحسبنَّ ثمار الدعوة إلى الله تأتيك مجَّانًا دون جهد من خلال خوارق تنزل من السماء.. كلا، احرص على أن تأخذ بالأسباب كاملة حتى يأتك الخير مدرارًا. ذلك هو الأصل في شريعة الفطرة وسنة الكون.
إن منابع الحيوية كامنة في باطن الإنسان؛ في قلبه، في لطيفته الربانية، في سره، في خفيِّه، في أخفاه، في أعماقه اللانهائية.
انظر إلى النبات، أتراه يثمر دفعة واحدة؟! إنما يحتاج إلى زمن طويل من العناية والرعاية حتى ينبت وينمو ويستوي يؤتي أُكُلَه. وكذا البيضة لا يَخرُج فرخُها سالمًا إلا بعد زمن معلوم. فإن كنت ترجو ثمرة لخدماتك في ساحة الدعوة إلى الله، فاعلم أنه لن يتأتى ذلك إلا بعد أن تلتزم بكامل الأسباب الصحيحة والأساليب الصائبة التي تنسجم مع طبيعة تلك الخدمات.
لا تحسبنَّ ثمار الدعوة إلى الله تأتيك مجَّانًا دون جهد من خلال خوارق تنزل من السماء.. كلا، احرص على أن تأخذ بالأسباب كاملة حتى يأتك الخير مدرارًا.
والعكس سعيٌ وراء أحلام لا تتحقق أبدًا. أتظن أن الله سيغير سنته الكونية من أجل سواد عيوننا، وهو الذي لم يغيرها من أجل أنبيائه، بل حتى من أجل حبيبه الأكرم ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم؟! الأنبياء جميعهم وعلى رأسهم سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام، عملوا بجد وكافحوا بحكمة سنين طويلة صابرين مثابرين حتى جاء اللطف الرباني نصرًا وتوفيقًا منه تعالى وثمرة لذلك الكفاح الطويل. إذن، من أراد التوفيق والنجاح فليسلك درب الأنبياء.
صاحب القضية
ينبغي على كل من قُدِّر لهم أن يكونوا “أسوة” في أي خدمة إيمانية، أن يكونوا “رجال خدمة” حقًّا بكل كيانهم، وفي كل شأن من شؤون حياتهم.. عليهم أن يسعوا ليل نهار دون توقف، ينبغي ألا يراهم أحد نائمين؛ بل إذا أمكن فلتكن ثلاث ساعات من يومهم لنومهم وساعتان لسائر شؤونهم، ثم لينطلقوا ساعين فيما تبقَّى من أوقاتهم. بهذا المستوى من الأداء فحسب، يمكنهم أن يكونوا “مثالاً” لمن حولهم، ويكونوا قد وفَّوا المسؤولية حقَّها.
ينبغي على كل من قُدِّر لهم أن يكونوا “أسوة” في أي خدمة إيمانية، أن يكونوا “رجال خدمة” حقًّا بكل كيانهم، وفي كل شأن من شؤون حياتهم..
إن أبطالاً قد نذروا أنفسهم للخدمة وفق هذه المقاييس، ينبغي أن يخطئوا الطريق إلى منازلهم في بعض الأحيان. على “رجل الخدمة” أن يدير ظهره إلى كل شيء يشغله عن قضيته، وألا يقع أسير أي قيد يمنعه من السعي أبدًا، مَنزلاً كان أو ثروة أو أي شيء آخر. إن “صاحب القضية” ليس له حياة خاصة، اللهم إلا في بعض شؤونه الضرورية.
(*) الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.