عندما يحدث عمل إرهابي هنا أو هناك، تنطلق النداءات الجوفاء محذِّرةً من الإسلام، منفِّرةً من معتنقيه.. وكأن أصحاب هذه النداءات -بدراية وبدون دراية- نسوا أو تناسوا أن الإسلام دعا منذ بزوغه إلى الرحمة والسلام.. فلم يثبت في الرسالة السمحاء، ولا في السنَّة النبوية، كلمة واحدة تدعو إلى الشدة والقسوة، أو تحث على ترويع جنس أو مِلَّة من الملل.. إن الإسلام ينشد السلام، ويؤصل للحرِّية بكافة صورها وعلى رأسها حرية العقيدة والتوجه، فلا إكراه ولا قسر ولا جبر ولا اضطهاد، بل حرية واقتناع واختيار..

 إن الإسلام ينشد السلام، ويؤصل للحرِّية بكافة صورها وعلى رأسها حرية العقيدة والتوجه، فلا إكراه ولا قسر ولا جبر ولا اضطهاد، بل حرية واقتناع واختيار..

وحسبنا التاريخ دليلاً على ذلك؛ فلم يثبت أن اُضطهد أحد أو أُجبر تحت حكم الدولة الإسلامية على التخلِّي عن معتقداته إيمانًا وممارسة، بل إن غير المسلمين وجدوا في كنف الإسلام ما تطمئن به قلوبهم؛ فلم تُنتهك حقوقهم، فنعموا بالحياة وزاولوا كل طقوسهم في حرية وأمان.. فالإسلام له أخلاقيات وقت الحرب وليس وقت السلم فقط (أي في وقت اشتداد الأزمات)، ليعلم كل ذي عقل أن الإسلام بريء من كل عمل يتنافى مع رحمة الإسلام.

يختلف مفهوم الحرب في الفكر الإسلامي عن فلسفة الحرب ومآربها في الأدبيات العالمية؛ فالحروب في العالم تقوم لتلبية أهداف دنيوية وتحقيق أطماع سياسية وأهداف توسُّعية، أما الحرب في المنظور الإسلامي تتسم بسلوك متميز، إذ لم يترك الإسلام إدارة المعارك لهوى نفوس قادة الجيش وجنودهم، بل إنها نهضت على أسس قويمة من التشريع مثلت دستورًا إسلاميًّا، يأثم من يخالفه إلى قيام الساعة. فقد رفض الإسلام ضرب الأهداف المدنية، أو التعرض لغير المقاتلين من الرهبان والشيوخ والنساء والأطفال.. وقد ظهرت أخلاقيات الإسلام في الحرب في عدة أمور:

مراعاة الرحمة في الحرب

راعى التشريع الإسلامي عنصر الرحمة في حالة تصادم القوى المتصارعة في وقت نشوب الحرب، وذلك لأن الإسلام جاء رحمة للعالمين، ولم يأت لسفك الدماء والتشفي من الخلائق.. وقد كانت أوامره في ساحة القتال تملأ دستورًا في كيفية معاملة المقاتلين، فإذا قامت الحرب وجبت مراعاة الرحمة، فلا يتعرض بالقتال إلا لمن يقاتل بالفعل أو يشترك فيه بشكل أو بآخر، وذلك لحصر الضرر في دائرة ضيقة. فالحرب ضرورة تقدر بقدرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة:190).

إن غير المسلمين وجدوا في كنف الإسلام ما تطمئن به قلوبهم؛ فلم تُنتهك حقوقهم، فنعموا بالحياة وزاولوا كل طقوسهم في حرية وأمان.. 

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الجيوش ألاّ يحملوا السلاح إلا بعد بينة يستبين لهم معها خطورة العدو وغدره، فلا يستخدمون وسيلة تدمير أو فتكٍ إذا أمكن تحقيق المقصود بالأخف، لأنه إفساد في غير محله.. وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض اعتداءات أصحابه في إحدى الغزوات في الوقت الذي تُستباح فيه الدماء من وجهة نظر العسكريين بطريقة غير إنسانية من وجهة نظر الإسلام، حيث يروى أنه مرّ صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وأصحابه رضي الله عنه على امرأة مقتولة فوقف عليها، ثم قال: “ما كانت هذه لتقتل”، ثم نظر في وجوه أصحابه، وقال لأحدهم: “اِلحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفًا -أي أجيرًا- ولا امرأة”.

وقد حملت وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الدلالات الواضحة على أنَّ الإسلام ما كان يرمي إلى قتال الأعداء أو التشفي بالدماء وإشاعة الفساد في الأرض، وأنه ما كان ليدخل في حرب إذا وجدت الحلول السلمية، أو وُجد في سلوك العدو بصيصٌ من أمل في الجنوح إلى السلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يلتمس السلام أنى وجده استعان به.

الإسلام له أخلاقيات وقت الحرب وليس وقت السلم فقط (أي في وقت اشتداد الأزمات)، ليعلم كل ذي عقل أن الإسلام بريء من كل عمل يتنافى مع رحمة الإسلام.

وكان الصحابة رضي الله عنه على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشددون في التحذير من التنكيل بالأعداء، رعاية لحرمة الإنسان وحفظًا لكرامة إنسانيته، فمن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمراء الجنود: “لا تقتلوا هرِمًا ولا امرأة ولا وليدًا وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات”. وإن الإمام علي رضي الله عنه يطلب في عهده مالك الأشتر، ويحذِّره من سفك الدماء بغير حلها، حيث يقول: إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه وتعالى مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في القتل العمد”.

عدم التمثيل بجثث القتلى

ينهى الإسلام عن التمثيل بالقتلى، حتى يرتفع بالحرب عن المستوى الذي لا يليق بدعاة الرحمة والعدل، فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: “نهى النبي عن النهبة والمثلة” (رواه البخاري)، وقال أيضًا: “ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صغيرًا ولا امرأة ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين” (رواه البيهقي). أجل، نهى الإسلام عن التمثيل بجثث القتلى بأي صورة من صور التمثيل، ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز الحرب البكتريولوجية والكيماوية والذرية؛ لمنافاتها مبدأ الرحمة العامة وأوامر الشارع بالإحسان في القتل، والنهي عن التمثيل بتناول جميع صور الأسلحة التي تؤدي إلى تشويه جثث القتلى.

الحرب في المنظور الإسلامي تتسم بسلوك متميز، إذ لم يترك الإسلام إدارة المعارك لهوى نفوس قادة الجيش وجنودهم، بل إنها نهضت على أسس قويمة من التشريع مثلت دستورًا إسلاميًّا..

وهكذا سار الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن على نهج رسول الله  ونقلوا ذلك إلى التابعين، فكانت أوامرهم ونواهيهم تنفر من القتل بغير حق، وتحذر منه بكل شدة، كما تنفر من التمثيل بالجثث، وذلك احترامًا لآدمية الإنسان، وتقديرًا للتكريم الذي احتفى به الله وملائكته يوم خلقه دون النظر لأي اعتبارات أخرى، فقد جاء فيما ذكره زيد بن وهب أنه قال: أتانا كتاب عمر وفيه: “لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا واتقوا الله في الفلاحين”.

الحفاظ على مظاهر البيئة

الإسلام يدعو إلى إشاعة الأمن البيئي والسلام بين أحيائها، ومراعاة كافة الكائنات الحية.. وينبغي ألاّ يستخدم أيًّا من مقومات البيئة التي يعتمدها الأعداء كمصدر اقتصادي دروعًا للنيل من الأعداء بحجة قصم ظهر الخصم، لأن ذلك عين الإفساد الذي نهى الإسلام عنه. وقد جاءت الأوامر الإسلامية واضحة صريحة في النهي عن الإفساد والتخريب والنيل من مقومات البيئة، ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم للجيش المتحرك لقتال الروم في غزوة مؤتة، أنه نهى عن الاعتداء على العناصر المدنية: “…ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة ولا تهدموا بناءً”.

راعى التشريع الإسلامي عنصر الرحمة في حالة تصادم القوى المتصارعة في وقت نشوب الحرب، وذلك لأن الإسلام جاء رحمة للعالمين، ولم يأت لسفك الدماء والتشفي من الخلائق..

وقد اقتفى الصحابة رضي الله عنه والتابعون أثر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يخالفوه في تذكير قادة الجيوش بقواعد الإسلام في التعامل مع الأعداء ومقدراتهم وما يستعينون به على الحياة، فقد جاء عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، فقال له: “إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرمًا.. ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تعقرن نخلاً ولا تحرقه، ولا تغلل (أي تسرق) ولا تأخذ غير حقك”.

وهكذا كانت الشريعة الإسلامية تمنع، بل تحرِّم الإفساد في البيئة بدعوى إنهاك قوى العدو والنيل منه، وشل حركته اقتصاديًّا ودحره.. ولنا أن نستأنس بما قاله الأوزاعي: “لا يحل للمسلمين أن يفعلوا شيئًا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب؛ لأن ذلك فساد، والله تعالى لا يحب الفساد”. والحق أن هذه مظاهر حضارية رائعة وإنسانية متميزة سبق الإسلام إلى تشريعها، فاتبعها الخلفاء والفقهاء المسلمون، وسارعوا إلى تقريرها منذ بزوغ فجر الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن.. فبعد هذا كله، فهل يمكن لذي عقل رشيد أن يصم الإسلام أو تشريعاته السمحة، أنها تدعو إلى الإرهاب؟! أو تتهاون مع مَن يبث الذعر والهلع بين بني البشر على اختلاف مِلاَّتهم وألوانهم وأجناسهم؟!

(*) كاتب وباحث مصري.