الأمومة ومظاهرها ليست قاصرة على بني البشر؛ بل تتعداهم فطرة إلى باقي المخلوقات، فتري عندها مظاهر تزاوج وسعادة، وحمل وولادة، وتضحيات وزيادة، وحضانة وحنان، وحرص وأمان، وفطام واطمئنان، وتعويد وتدريب، وتقليد وتنصيب، وتراحم وتهذيب.
أغلب الحيوانات والطيور تلد وتبيض دون مساعدة خارجية، ورغم أن عاطفة الأمومة قوية ظاهرة لدى إناثها إلا أن رعاية الصغار قد يقوم به أيضًا بعض الذكور، وتتأقلم سلوكيات هذه الحيوانات والطيور، فتحافظ على نفسها خلال فترة حملها، أو وضع بيضها المُخصب. وعندما تلد أغلب الثدييات تسرع للعق وليدها، لتنظفه مما عليه، وما علق به، وتعينه على الوقوف سريعًا، والمشي والسباحة. ثم توجهه وتتيح له ضرعها ليتناول (اللبأ/ السرسوب) الغني بالأجسام المناعية. وتظل ترعاه وتحميه، تفطمه وتعلمه وتدربه حتى الاستقلال عنها. وفرادة القطط المنزلية ملحوظة في قدرتها على الولادة ورعاية صغارها دون تدخل خارجي. وهي تمارس أمومتها وسط غمرة الأحداث المنزلية المتوالية. فقبل ساعات من وضعها تستقر في مكان جاف وهادئ لتلد، ثم تسرع في لعق صغارها وإزالة ما تبقي من المشيمة وتدفئتهم، وتتيح ثديها لهم. وإذا ما تدحرج أحدهم خارج المكان أرجعته بسرعة إلى كنفها، كما تتعرف عليهم من أصوات استغاثتهم بها.
وعندما يتزامن ولادة قطتين فقد تقوم إحداها برعاية صغار الأخرى، وإذا نفقت أم يمكن إلحاق أولادها بمرضعة أخرى، وينجح هذا “التبني” خلال الأيام الأولى عقب الولادة، فتتابع لعقهم لتكوين وتفعيل رابطة الأمومة، وأحيانًا تقوم قطة (لم تلد) بالاهتمام ورعاية صغار قطة أصغر سنًا، وكأنها تنقل لها خبرتها، وتعطيها درسًا في كيفية رعاية صغارها. وتبرز غريزة الأمومة جلية عندما ترضع أم صغار حيوانات أخرى من جنس أخر. فترضع (كلبة) صغار قطة. ومع ولادة عدد كبير، قد يكون منهم مرضى وضعاف البنية، تبدأ أمهات -كما في الفصيلة القططية- في اختزال هذا العدد. ليصبح الباقي أكثر صحة بحصوله على نصيب أوفر من اللبن، ويتم التخلص من هؤلاء بافتراسهم، وتنظيف المكان من بقاياهم حفاظًا على الآخرين، ومنعًا لجذب اللواحم المفترسة التي تهدد بقية الصغار، كما أن أكلها لهؤلاء يعد مصدرًا للحصول على المزيد من العناصر الغذائية يعوض ما لحق بها خلال فترة الحمل والولادة. كما يسمح لها بالبقاء مدة أطول بجوار صغارها وعدم تركهم بحثاُ عن طعام إلا قليلاً.
وكان قد استوقفني مقطع فيديو (متداول على الشبكة الدولية للمعلومات) صُور ليلاً، في مدينة “بإلي”، ويُظهر أنثي فيل تضع وليدها واقفةـ دون مساعدة. وارتطم الوليد مغلفاً بالمشيمة بالأرض. وراح في سبات كأنه فارق الحياة. فما كان منها إلا أن أطلقت صرخات مدوية وراحت تدفعه بخرطومها، وتركله ـ بخفةـ بقدمها. حتى تنفس وتحرك، فأعانته على الوقوف يخطو خطواته الأولى في الحياة، وعادة ما تكون أنثى الفيل وديعة تحنو على صغيرها، وتعلمه، وتدربه. وإذا تعرض لخطر دافعت عنه حتى أخر رمق، ويحدث الأمر نفسه مع أنثى الحوت التي تلازم ولدها عامًا كاملاً. وعندما تغوص أنثى فرس النهر في حوض السباحة تبدأ في تعكير مائه بإلقاء الفضلات فيه، فتحمي صغارها تحت الماء من كيد الأعداء، وتستميت أمهات عجل البحر في دفاعهن عن صغارهن عندما يحاول الصيادون اصطيادهم.
فعندما تشعر الأمهات بخطر على صغارها… تنقلهم إلى مكان آمن. وعادة ما تنقل القطة صغارها بين الأسبوع الثالث أو الرابع من أعمارهم، لكن بعض سلالات القطط شديدة القلق، فتنقل صغارها 4- 5 مرات في الليلة الواحدة، ويعتبر حمل القطط، والكلاب، والدِّببة صغارهم بأنيابهم والعدو بهم مسافات طويلة، دون خدش جلودهم من المؤشرات الهامة على غريزة الأمومة، والرحمة بصغارهم. كما تحمل الكنغر صغيرها في أكياس على بطونها وتسعى به هنا وهناك.
وتدافع الأمهات عن صغارها بكل شجاعة وضراوة، ولو كان عدوها أضخم وأقوى وأشرس، وتضحي كثيرات بأنفسهن من أجل صغارهن. فتدفع الزرافة الأسد عن صغارها، وتستطيع التغلب عليه، بركلات قوية. وعند ولادة مولود من البابون… تحمله أمه ليشاهده الجميع، ويستمتعون باللعب معه لدقائق. وإذا ما دخل إخوته عليه دون استئذانها أو رقابتها فتنفعل بشدة خوفًا عليه. وعندما يقترب إنسان من صغار القطط والكلاب تهرع الأمهات للدفاع عنهم بكل عزم وحزم وقوة، وقد تبين أن إفراز اللبن (بتأثير هرمونات الأوكسيتوسن، والبرولاكتين، والبروجستيرون) واكتناز الثدي به يحدث تأثيرًا فسيولوجيًّا، وتنبيهًا عصبيًّا ضاغطًا. فالكلبة إذا أخذت منها جراؤها فإنها تتوتر ولا تستقر حتى تعود إليها. خوفًا عليهم، ولكون غددها الثدييه اكتنزت باللبن لرضاعهم، بيد أنه شوهدت إناث الفئران، وهي غير حامل ولا مرضعة، تحنو وترعي الصغار، كما الذكور أيضاً. فوجود الفئران حديثة الولادة ـ بحد ذاته ـ يمثل منبهاً ابتدائيًّا لسلوكيات الأمومة.
الأمومة عند أمة الطير لها مدلولات ومظاهر كثيرة. تغريد وحنان، ورعاية وتضحية وتعليم وتدريب، مجهود كبير في بناء أعشاش الزوجية، وهندسته هندسة فنية، ووضع البيض، وحضانته وتقليبه، ليفقس، ومن اللافت للنظر أنه عندما ترجع الطيور المهاجرة إلى أوطانها يبدأ الذكر في البحث عن عشه الذي تركه من قبل. فإذا عثر عليه بدأ في بنائه حتى يكمله. وهو يصدح ويغني ليذب عنه الدخلاء، ويجذب إليه أنثاه، وبعد الغزل، تضع الأنثى بيضها وترقد عليه، ولا تتركه إلا لفترات قصيرة للتغذية، فيحرسه الذكر وقد يرقد عليه. وبعد الفقس يقم الأبوان، لا ينفكان ـ بجمعان الغذاء للصغار. وتبين أن هرمون “البرولاكتين” في الكثير من الطيور، ومنها الحمام، ينبه لإفراز “لبن الحمامة” أو” اللبأ”. وهو سائل أبيض غليظ القوام تفرزه حوصلتها، وتطعم به أفراخها.
وتكون أغلب أفراخ الطيور عارية، ضعيفة، مغمضة الجفون، وعند وقوف أحد الأبوين على حافة العش، تشعر به فتفتح أفواهها، ليزقا فيه الطعام، كما يختلف التغريد عند جلب الطعام عن الصياح في حالة الخطر، فكل صوت لها مدلول يفهمه الصغار، وللدجاجة البرية والمنزلية قوة هجومية لمن يحاول التحرش بأفراخها، ونراها ترقد على بيض غيرها، بينما قد تضع أنثى طائر الكيوي (طائر البقر) بيضها ـ غفلةـ في عش طائر أخر، فيتولى حضانته ورعايته قبل الفقس وبعده. بل قد تتمادى صغار الكيوي فتطرد صغار الطائر الأصيل لتنفرد برعاية الأب “الغافل”.
وأثناء الليل تحنو الطيور على أفراخها فتضمها تحت أجنحتها لتفيء عليها بالدفء. كما يعمد الأبوان إلى طرد فضلات العش (الزبل) كلما تراكم، لأن لونه أبيض مما يعرض العش لخطورة القنص من جوارح الطير، وتعوّد “سباع” الطير، كالنسور والعقبان وغيرهما، أفراخها على تقوية عضلات أجنحتها، وتدريبهم مهارات الطيران، رويدًا رويدًا، ثم تعلميهم وإكسابهم مهارات القنص جوًا وبرًا. فتقوم بإلقاء قطع الطعام في الهواء ليتم التقاطها، لكن تظل الفراريج البرية شهرًا بعد فقسها عاجزة عن الطيران. فتضطر أمهاتها إلى البقاء بجوارها لقيادتها حتى يشتد عودها، وتزج طيور البجع أفراخها عنوة إلى الماء كي تتعلم السباحة.
ولهذا وغيره، ليس بمستغرب من إطلاق كنية (أم كذا) على كثير الحيوانات والطير مثل: أم منذر: الفرس، أم مسعود: الناقة، أم عيسى: الزرافة، أم العباس: اللبؤة، أم فارس: النمرة، أم شادن: الظبية، أم دُلدُل: القنفذ، أم عثمان: الأفعى، أم عكرمة: الحمامة، أم الرئال: النعامة، أم هيثم: العقاب، أم قيس: الرخمة، أم الوليد = الدجاجة، أم حسن: الحسون، أم قويق: البومة، أم حفصة: البطة، أم ثلاث: القطاة، أم قشعم: النسر، أم زرعة: الحجل.