منظومة القيم وأثرها في صياغة الحياة

تُمثِّل “القيم” في أي نموذج فكري أو فلسفي لُبَّه ومحوره ومرتكزه الأساس، فهي التي تتفرع عنها بقية التفاصيل، وتنساح من بؤرتها سائر المقولات. فمعرفتنا بالقيم تبين لنا جوهر هذا النموذج، وتلخص لنا رؤيته العامة وخطوطه العريضة، كما تكشف عن نقاط تميز هذا النموذج وتمايزه عن غيره من النماذج والفلسفات.
و”القيم” كما يرى الدكتور محمد عمارة هي: “المعايير الثابتة الخالدة، التي تمثل موازين صلاح الأقوال والأفعال والأشياء. ولم تتميز بمبحث خاص في فلسفة الإسلام -مع أنها تميزت بمباحث خاصة في فلسفات الحضارة الغربية- لأنها في النظرة الإسلامية بمثابة الروح السارية في كل شيء، فهي بديهة لا خلاف عليها، وروح سارية لا سبيل إلى إنكارها، ومن أراد تلمسها في الأنساق الفكرية الإسلامية، فعليه النظر في كل أبواب علوم وفنون تلك الأنساق”.

القيم  هي المعايير الثابتة الخالدة، التي تمثل موازين صلاح الأقوال والأفعال والأشياء.

مكانة القيم

القيم في الحضارة الإسلامية -بمعناها المتكامل، أي الجانب الروحي والمادي- لها مكانتها الأساسية ومنزلتها الرفيعة، وبهذه القيم تتحدد باقي مجالات الحضارة وتكتسب بصمتها المتميزة والمميِّزة.
ولذلك يرى المستشرق الدنماركي “جوستاف فون جرونيباوم” أن التأثير الحضاري للإسلام، هو في تغييرات أساسية أحدثها في مجال القيم بالنسبة لما كان سائدًا قبله بشبه جزيرة العرب في ظل الوثنية. ومحور هذه التغييرات تحديد هدف الحياة وغايتها، من خلال الإجابة على ثلاثة أسئلة: كيف تعيش حياة صحيحة؟ كيف تفكر تفكيرًا صحيحًا؟ كيف تقيم نظامًا صحيحًا؟ ويرى أن الإسلام قد قدَّم أجوبة لهذه المشكلات والقضايا في التربية الصحيحة للفرد، والترتيب النسبي لمناشط الإنسان (الواجب، المندوب، المباح، المكروه، الحرام)، وتحديد القصد والمجال بالنسبة لسلطة الحكم أو ممارسة القوة السياسية. وكان من ثمار هذه القيم، أن استحدث الإسلام واجبات على عاتق الفرد، أو عَمَد إلى تعديل واجبات قديمة، كما أنه قرر حقوقًا جديدة تتناول شتى مجالات السلوك الإنساني، الفردي أو الاجتماعي. وقد أدى ذلك إلى تقويم أية خبرات حضارية سابقة أو لاحقة في هذا الضوء، بحيث تكون متجاوبة مع معايير الإسلام ومقاصده.

القيم ومجالات الحياة

لقد امتدت القيم التي وضعها الإسلام لتصبغ مجالات الحياة كافة بصبغتها وطابعها الخاص، ولتنظم سلوك الإنسان على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.يقول الدكتور محمد فتحي عثمان: “ارتبطت منجزات الحضارة الإسلامية بالقيم الإنسانية التي دعا إليها، وقدَّم نظام الوقف شواهد معبرة لمؤسسات اجتماعية دائمة قامت على تحقيق الخير والمعروف”.
وإذا كانت ثمة حضارات تصطنع تناقضًا بين الجانب الروحي أو المعنوي، والجانب المادي من الحضارة، بحيث تُغلِّب هذه الحضارةُ أو تلك أحدَ الجانبين على الآخر، فإن الإسلام يجمع بينهما في تكامل وإن كان يُقرر أولوية الجانب الروحي، ويعطيه درجة أعلى من الجانب الآخر. ومن هنا تأتي أهمية القيم في الحضارة الإسلامية.
وثمة حقيقة مهمة وهي أن الإنسان -بكل الإنتاج المادي الذي ينتجه- يمكن أن يهبط أسفل سافلين إذا تخلَّى عن القيم التي تجعل الإنسان إنسانًا وترفعه عن مستوى الحيوان.
وفي سبيل إيضاح مكانة القيم في الحضارة الإسلامية، ثمة سؤالان من المهم أن نتعرض للإجابة عنهما ولو بإيجاز، وهما: ما مصدر القيم في المفهوم الإسلامي؟ وهل هي ثابتة أم تتغير؟
تُعَدّ مسألة مصدر القيم مسألة أساسية في تحديد مفهوم القيم ومجالاتها، وسائر الإشكاليات التي تتعلق بها. وفي المفهوم الإسلامي فإن “قيم المجتمع الإسلامي تنبثق من مصدرين أساسيين هما كتاب الله، وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام”؛ فالقرآن الكريم والسنة النبوية يصوغان العقل المسلم، ويحدِّدان له طريقة التفكير والحُكم على الأشياء، ومنهج التعامل مع الآخرين، لأن الإسلام منهج شامل متكامل جاء لسعادة الناس في الدنيا والآخرة، ولم يكن ليترك الإنسان يتخبط في دياجير الضلال، ويشقى بمتاهات الأفكار والفلسفات.
فهداية الوحي هي التي رشَّدت العقل ومنحته مفاتيح قراءة الكون والحياة منذ النشأة الأولى، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة:31)، كما منحته القِيمَ الضابطة التي تؤطِّر أنشطته وسعيه الإنساني في المجالات المتعددة، فكان العقل المسلم -الذي جاء ثمرةً لهدايات الوحي- عقلاً، يقظًا، واعيًا، مسؤولاً، غائيًّا، تعليليًّا، تحليليًّا، وبرهانيًّا، واستقرائيًّا واستنتاجيًّا.. يستكشف العلل والمقاصد، ويتعرف على الأسباب، ويدرك أن الله عز وجل لم يخلقنا عبثًا. وما لم يدرك العقل ذلك ويتحقق به، يصبح صاحبه كلاًّ معطَّلاً، يصعب عليه التعامل مع الحياة والأحياء، وتغيب عنه مفاتيح عالم الشهادة، ويفتقد القدرة على تسخير ما هيَّأه الله له، ويعجز عن حمل أمانة المسؤولية التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها.

إن التأثير الحضاري للإسلام، هو في تغييرات أساسية أحدثها في مجال القيم بالنسبة لما كان سائدًا قبله بشبه جزيرة العرب في ظل الوثنية.

أما الحضارات والفلسفات الأخرى، فلأنها مقطوعة الصلة بالله سبحانه وبمنهجه، فإنها ذهبت إلى أن مصدر القيم هو الإنسان؛ إذ هي لا تتصور وجود “سلطة” فوق الإنسان من شأنها أن تحدد له ما يجب أن يفعل وما لا يجب أن يفعل.
ويوضح الدكتور أكرم العمري هذه النقطة الجوهرية قائلاً: “قضية مصدر القيم وقضية نسبية القيم انبثقت من دراسات حاولت أن ترد المركَّب إلى البسيط، وأن تنظر إلى التاريخ الإنساني من خلال القبائل البدائية، وهذه مسألة خطيرة رفضتها عدة تيارات فكرية وفلسفية في الغرب نفسه. من هنا ظهرت فكرة الاعتقاد بأن الإنسان هو مصدر القيم، وبرزت فكرة إيجاد “الدين الطبيعي” عن أوجست كونت في أواسط القرن التاسع عشر؛ حيث قال بأنه يمكن أن نجد أخلاقًا نحددها بأنفسنا، ودينًا ندين به ويكون دينًا طبيعيًا يقوم على أساس العقل”.

القيم ثابتة ومطلقة

إذا كانت الحضارات والفلسفات المادية ذهبت إلى أن مصدر القيم هو الإنسان، فإن ذلك اقتضى منها بالضرورة أن تعتقد أيضًا بأن القيم متغيرة تبعًا لتغير مقاييس العقل الإنساني، وتغير الظروف المؤثرة عليه عبر الزمان أو المكان؛ فما هو جائز عن قوم، ممنوع عند آخرين، وما هو مستقبَح في نظرية أو فلسفة، يكون مستساغًا وربما يكون مطلوبًا وبشدة عند أخرى.
أما في المفهوم الإسلامي الذي يقرر أن مصدر القيم هو ما شرعه الله لعباده من منهج فصَّله في القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن القيم ثابتة ومُطْلقَة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الأشخاص، ولا تعرف التلوُّن ولا النِّسْبِيَّة. يقول أحدهم في صراحةٍ لا يُحسَد عليها: “القِيمُ تختلفُ بمختلف المجتمعات والأزمنة، ولا علاقة لها بتقدُّم أو تأخر؛ فالقِيَم محايدةٌ في الغالب، بل هي ذلك المحايد غير الفاعل، غير الإيجابي، بل والسلبي الذي يتأثر -دومًا- بكل المتغيرات حوله”. لكن فاته أن يسأل نفسه: متى كان “الكذب” فضيلة من الفضائل؟! وهل صارت “سرقة الأموال أو الأعراض” أمرًا مباحًا عند أي أمة من الأمم عرفها التاريخ؟
إن “شرب الخمر”، ولأنه يُذهب بـ”العقل” الذي هو شرف الإنسان، وعلامة تَميُّزه عن الحيوان أو النبات أو الجماد، كان عملاً مستهجَنًا عند العرب حتى قبل الإسلام، وقد حرَّم بعضهم على نفسه شرب الخمر؛ لما رأى من آثاره المزرية بالإنسان وهيبته وسط قومه.
كما أن “الزنا” كانت تأباه الحرائر من النساء في الجاهلية، حتى إن هند بنت عتبة سألت -مستنكرةً- في بيعة النساء “أوَ تزني الحرَّة؟!”.
ولذلك لم يكن عجبًا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن رسالته: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”؛ فرسالته صلى الله عليه وسلم لا تُنشئ أخلاقًا جديدةً مغايرة بالكلية لِمَا كان معروفًا قبلها، بقدر ما تُتمم أخلاقًا عرفتها البشرية منذ أبيها آدم عليه السلام، فكيف يقال بعد ذلك إن الأخلاق “تختلف بمختلف المجتمعات والأزمنة”، كما يزعم أحدهم؟
وفي ملاحظة عميقة يوضح الدكتور الدجاني أن المصدر الإلهي للقيم وثباتها، يجعلان لها فاعلية قوية في حياة الفرد والمجتمع، فيقول: “تتميز القيم الدينية الروحية بأن مصدرها وحي إلهي، وأنها تعتمد مقياسًا ثابتًا لا تهزُّه النسبية، وأنها تقترن بفكرة الثواب والعقاب في حياة الإنسان على الأرض وفيما بعد هذه الحياة في دار البقاء. ومن هنا تأتي قوة تأثيرها في دائرتي المجتمع والفرد على السواء، فهي في المجتمع تحكم العلاقات بين الأفراد وتوجهها، وهي في الفرد تحيي ضميره وتصل بينه وبين خالقه في علاقة خاصة، يعبد الله فيها كأنه يراه كما جاء في حديث الإحسان”.

القيم والآخَر.. شاهد من التاريخ

من الصعب اختبار النموذج القِيَمي لنسق فكري ما، دون النظر في كيفية تعامله مع الآخر المختلف معه، أمَّا رقي هذا النموذج مع أبنائه، فلا يصلح دليلاً صادقًا للاختبار؛ فكل الحضارات والأنساق الفكرية تعلن أنها تبتغي رفاهية أبنائها والرُّقي بهم في مدارج القيم والخير والجمال، لكن قليلاً منها يلتزم الأهداف ذاتها فيما يخص الآخرين.
بل نرى -وما أكثر شواهد التاريخ على ذلك- أن بعض الحضارات أو الأنساق الفكرية التي تُعْلي من قِيمة الإنسان وتحترم حقوقه وتصونها، إنما تُقْصر ذلك على إنسانها فحسب، لتمارس نقيض ذلك ضد الإنسان الآخر، ولو التزمت الحضارات معيارًا واحدًا ثابتًا بحق الإنسان -مطلق الإنسان- لما كانت موجات الاستعباد والغزو والاستنزاف، التي لا تكاد حقبة تاريخية تخلو منها.

إن القيم ثابتة ومُطْلقَة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الأشخاص، ولا تعرف التلوُّن ولا النِّسْبِيَّة.

ولا شك أن الحضارة الإسلامية قطعت شوطًا كبيرًا مميزًا في العناية بالإنسان، مطلق الإنسان، وهي تبدو ذات سجلٍّ ناصع في هذا المضمار، سواء مع المخالفين الذين سكنوا أرضها وتعايشوا مع نسيجها الاجتماعي، أو مع المخالفين الذين التقت بهم تحت ظلال السيوف في ساحات القتال والمواجهة.
لقد نبغ عشرات اليهود والنصارى في سماء الحضارة الإسلامية، وتقلَّدوا مناصب عالية في إدارة الدولة، وحين ضاقت إسبانيا باليهود بعد سقوط الأندلس في يد النصارى، لم يجد اليهود لهم ملجأ إلا أحضان الدولة العثمانية، فآوتهم بعد أن كادوا يُمحَون من التاريخ ويكونون نَسْيًا مَنسيًّا.
وإن نظرةً واحدةً على مئات الصفحات التي سجلها منصفو المستشرقين عن الاختلاف الجذري بين سلوك المسلمين وهم يفتحون البلاد ليزيلوا الطغاة، الذين يَحُولون دون وصول كلمة الله للناس صادقةً مدويةً، وبين الغزاة المحتلين من الصليبيين حتى وهم يدخلون مدينة القدس التي يزعمون أنها مقدسة عندهم، وأنهم جاءوا ليخلِّصوها من يد المسلمين.. إن نظرةً واحدةً على سلوك الفاتحين هنا، وعلى همجية الغزاة هناك؛ لَتُرِيَنا اختلافًا بين حضارتين في احترام القيم وإعلائها مثلَ الاختلاف بين السماء والأرض، أو أكثر بُعدًا.
وكمثال واحد، ننقل ما سجَّله لوبون في كتابه المهم “حضارة العرب”، إذ يقول: “كان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس، غيرَ سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون. قال كاهن مدينة لُوبوِي “رِيمُوند داجِيل”: حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبُروجها؛ فقد قُطعت رؤوس بعضهم، فكان هذا أقلَّ ما يمكن أن يصيبهم، وبُقرت بطون بعضهم، فكانوا يُضطَرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحُرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل.. وكان لا يُرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم؛ فلا يمرُّ المرء إلا على جُثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا”.

سؤال القيم المشتركة

مع التسليم بأنه لكل نموذج فكري أو نسق حضاري قِيَمه الذاتية الأصيلة المعبرة عن جوهره وفلسفته، الكاشفة عن نقاط تميزه وتمايزه عما سواه من نماذج وأنساق؛ فينبغي ألا نغض الطرف عن أن ثمة قيمًا تبدو محل إجماع أو تقارب في التجارب الإنسانية، فهموم الإنسان واحدة وتطلعاته متشابهة.
ومن ثم، فالواجب أن ننظر في هذه المساحات المشتركة، وأن نعمل على تدعيمها، وتوسيع نطاقها، وترسيخها، وصولاً إلى تحقيق “التعارف” الذي جعله الله سبحانه غاية من خلق الناس: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13). ومهما يكن من أمر، فعالَمنا اليوم بحاجة إلى كل جهد يكوّن لبنةً تضاف إلى صرح القيم، ومن المؤكد أن القيم الإسلامية لديها ما يمكن أن تُسهم به، مما يشكِّل مع جهود الآخرين تدعيمًا قويًّا لهذا الصرح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وباحث، وسكرتير تحرير مجلة التبيان / مصر.
المراجع
(1) العطاء الحضاري للإسلام، للدكتور محمد عمارة.
(2) القيم الحضارية في رسالة الإسلام، للدكتور محمد فتحي عثمان.
(3) قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي، للدكتور أكرم ضياء العمري.
(4) مقدمة عمر عبيد حسنة لكتاب “القيم الإسلامية التربوية”، عبد المجيد سعود.
(5) الفاشيون والوطن، لسيد القمني.
(6) عالمية الإسلام، للدكتور شوقي ضيف.
(7) حضارة العرب، لجوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، طبعة مكتبة الأسرة، 2000م.