إن مشكلة المسلمين والعالم اليوم، هي غياب الفهم الواعي الذي يُنتج السلوك والسلطة والتسخير. يهتم الكثير من المتخصصين في التربية العلمية بتعلم المفاهيم، لأنها تستطيع إعطاء معنىً للتعلم بعكس الحقائق التي لا تتعدى إعطاء المتعلم معلومات حول المادة العلمية، ولذلك يرتبط تعلم المفاهيم بالتعلم. فمسألة الفهم، من المسائل التي يعاني منها الفكر الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض دعوته على الناس، منهم من فهم واستجاب، ومنهم من فهم وأعرض أو لم يستطع فهمه.
الوعي بالتاريخ جسر يربط بين الماضي والمستقبل، فالأمم العاجزة عن إقامة هذا الجسر أو الحفاظ عليه.
فالأول تطابق فهمه مع الزمان والمكان فاستجاب للحق لأنه فهم ووعى، والثاني الزمان والمكان كفيل به إما بإزالته من الوجود أو بمراجعة فهمه، قال تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا)(النساء:55). والفهم الواعي، أي المنطلِق من الوعي بالذات التام، يعمل على بناء المعرفة بناءً مستقلاًّ عن المعطيات الثقافية المبرمجة، وخارج حدود النظام الاجتماعي السائد، وذلك بُغية الحصول على أفضل إدراك للحقائق الموضوعية المختلفة. فالفهم الواعي يجعل المعرفة تتفاعل مع الوجدان وتنقاد إلى الحق، قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(المائدة:83). فالنموذج الأول يمثِّله كل من أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب والرعيل الأول من السابقين للإسلام رضي الله عنهم أجمعين وهم أنموذج العقل الواعي الذي انقاد للحق. والأنموذج الثاني، الذي فهم وأعرض كأبي لهب وأبي جهل، وهم أنموذج العقل الرَّان المتحجِّر، وهم يمثِّلون القصور الذاتي الذي يتشبَّث بتقليد الآباء والأجداد، ينقل صاحبه من الإدراك الصادق إلى التعامل مع الأوهام. وأنموذج آخر يتمثَّل في أبي سفيان رضي الله عنه الذي انصاع إلى الحق ولكن بعد حين، أي الزمان والمكان كفيل به.
القرآن يوجِّه وعي الإنسان
فالقرآن الكريم قد بين لنا طبيعة الإنسان وكيفية تلقِّيه للحق وكيف يتعامل معه، من خلال ما ذكرنا من تلك النماذج التي نجدها حاضرة في المجتمعات الإنسانية اليوم، وتتمتع وسائل الإعلام المبرمجة والممنهجة بتأثير قوي جدًّا في تغيير وعي الناس، تعتمد على دراسات نفسية واجتماعية عميقة، مما يجعل موقفَ كثيرٍ من الناس تجاهها التسليم والاستسلام(1). وقد صوَّر لنا القرآن الكريم هذا المشهد التضليلي للحقائق في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(الأنعام:123)، وأمام هذا التضليل والمغالطة والتزييف للحقائق، دعا القرآن الكريم الإنسان المؤمن الواعي المتيقن إلى ضرورة مجاهدة النفس من أجل توجيه وعْيِه نحو الحق، والاجتهاد في البحث عنه من مصادره الحقيقية، وعدم الاكتفاء بوسائل الترويج والتضليل، ولهذا قال تعالى: (بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)(القيامة:14-15).
فالقرآن الكريم هو المورد الأول في تكوين الوعي بالذّات، وبناء الشخصية الواعية بذاتها، وما يحيط بها من تحديات. وما في القرآن من أحداث تاريخية، يُعدُّ المنهج الفريد في استدراك الوعي عن طريق أخذ العبر والعظات، فهذه الرؤية التي يمنحنا إياها القرآن من أجل بناء الذهنية الواعية التي تعتمد على الاستدلال والاستقراء، من خلال التاريخ والقصص الماضية، وإسقاطها على الواقع الذي يعيشه المسلم، فمثلاً الترويج والتحريف الذي كان يمارسه زعماء قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم باستخدام وسائل الإعلام المتاحة في ذلك الوقت، هو نفسه الهدف الذي يروِّج له أعداء الحق والفضيلة في عصرنا الحالي، فهذا الإسقاط التاريخي -كما يؤسسه القرآن الكريم- يُنمِّي الوعي ويوجهه، ليستمر المسلم المتيقن من ثقته في الله تعالى والمطمئن بإيمانه، في مواصلة دوره الدعوي، وأداء مهمته في عمارة الأرض وبناء الحضارة، وتجاوز سياسة التهجم والمواجهة.
إن مشكلة المسلمين والعالم اليوم، هي غياب الفهم الواعي الذي يُنتج السلوك والسلطة والتسخير.
ونجد فتح الله كولن يتحدث عن الوعي التاريخي فيقول: “الوعي بالتاريخ جسر يربط بين الماضي والمستقبل، فالأمم العاجزة عن إقامة هذا الجسر أو الحفاظ عليه؛ يصعب التنبّؤُ بوجهتها ونتيجتها، ولا يمكن معرفة المكان الذي سترسو عليه سفينتها في الساحل الآخر”. وقد استمد كولن الوعي التاريخي من منهج القرآن في سرد قصص الأمم السابقة والاعتبار بها من أجل مستقبل أفضل.
وقد ركز القرآن دائمًا على تحريرنا من اتباع الهوى والظن، والسير خلف الآباء دون تمحيص لما هم عليه، لكن يبدو أننا لم نستطع النَّفاذ إلى أعماق النص القرآني، بما يكفي لاستخراج رؤية تحررية من القولبة التربوية التي صاغت وجودنا المعنوي عبر حياتنا المديدة. وأعتقد أن من أولويات تجديد الوعي، التأمل فيما علينا أن نفعله في هذا الشأن(2).
وقلة الوعي ترجع لسبب الاعتماد على ظواهر الأشياء، واللجوء إلى التقليد، والجهل بمنهجية التفكير وعدم فقه الواقع، وأحيانًا ترجع للتعصُّب للرأي الفكري أو المذهب السياسي أو المنهج العلمي، كل هذه الأسباب تُعيق الفهم الواعي، والذي بدوره يُعيق البناء المعرفي للإنسان الذي يريد أن يبني الحضارة.
وأخطر ما يهدد الوعي حالة “الإمَّعة” التي حذَّرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تَكونوا إمَّعةً تقولون إنْ أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم إنْ أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإنْ أساءوا فلا تظلِموا” (رواه الترمذي)؛ لأن ذلك يعتبر تعطيلاً لعمل العقل الذي أشاد به القرآن الكريم في أكثر الآيات، واعتبر ذلك من الأسباب التي حجبت الناس عن الحق.
وهكذا نجد وعي الإنسان لذاته، يعتبر محورَ بناءِ الحضارة، أو كما يُسميها الشيخ الفاضل بن عاشور بـ”الحس الباطني أو داعية النظر”، التي تجعل الإنسان المنطلق الأول نحو تحصيل الإدراك النفسي ثم الإدراك الوجودي. ودور كلمة الوحي في بلورة الوعي والاتجاه بالإنسان نحو الوجهة الصحيحة كما يقول: “وسرُّ الحضارة الإسلامية، يبتدئ تكوُّنه في الفرد بطريقةٍ تربوية، تعتمد على إيقاظ الحس الباطني الذي يتوجه به الفرد إلى تحصيل المدركات الأولى، وهي متعلقات الغرائز الجِبلِّية المركوزة في طبعه، فلا يُدخل عليه شيئًا جديدًا، ولكنه يُثير فيه شيئًا كان كامنًا، ويُبرز من ذاته معلومًا كان راكدًا خاملاً”(3).
الإعلام والحقيقة المغيَّبة
إن ممارسة التضليل الفكري والعبث بالوعي، وتغييب الحقيقة عن الناس في عصرنا الحالي، أصبحت سمةً في المجتمعات المعاصرة التي غابت عنها المفاهيم الحضارية. وقد استخدم الإعلام بجميع أنواعه في العبث بعقول البشر وتوجيهها لخدمة أهدافٍ في غير مصلحة الإنسان، وإنما لمصالح خاصة للوصول إلى نتائج تتعارض مع الحقيقة، وترسِّخ مفاهيم ضيقة وخبيثة، وتُكوّن واقعًا محدَّدًا في ذهن المتلقِّي، فيما يسمَّى بـ”الوعي المزيَّف” وتغييب الحقيقة وراء ستارٍ متعدد الألوان بحسب تغير الزمان والمكان. وهذا الواقع خرَّب مراكز القوة والفاعلية في الإنسان، فأصبح الإنسان كمن فَقَدَ بوصلة الاتجاه الصحيح من تأثير الصدمة التي استهدفت تفكيره وعقله.
المسلم الواعي إذا تعرَّض للتضليل والأذى والتزييف للحقائق، يجب أن يواجهه بمزيد من الإيمان والإصرار على مواصلة الطريق بثبات وصبر، وأما من كان ضحيةَ اللاوعي ووقع في شباك الغدر
مع أن هذا التضليل والتزييف للحقيقة، يُمارس بشكل مكشوفٍ ومضحكٍ أحيانًا، وبافتعال الأحداث التي لا يقتنع بها العقل والمنطق، ويُقدم للجمهور بسذاجة فكرية مجردة من المسؤولية تجاه أخلاقيات المهنة، كما أمسى الإعلام المعاصر مسألةً احترافية بامتياز لا يتصدَّى لها إلا المحترفون لتحقيق أغراضها وأهدافها.
والواقع يؤكد أنه لا وجود لإعلام محايد، فإما أن يكون الإعلام وسيلة لتدجين المجتمع وتطبيع قِيَمه وأخلاقه مع واقع الفساد والاستبداد، أو وسيلةً لتحرير الإنسان وصناعة الوعي الناقد القادر على البناء.
فهناك دوائر كثيرة تساهم بشكل كبير في التخلُّف وتغييب الحقيقة عن الناس وتقييد حرية الرأي، كما يقول المفكر كولن: “نحن نعيش اليوم مرحلةً من المراحل التي يتكرَّر فيها التاريخ بِعِبَره، فقد أحاطت بنا المآسي والمصائب والبلايا من كل جانب، كالزلازل والفيضانات والحرائق والضغط على الحريات وكتم الأنفاس.. ولكن رغم كل هذه المظالم والبلايا، لا زلنا نرى الساكتين والصامتين المسلوبي الإرادة، الخائفين حتى من التأوُّه أمام المصائب. ومقابل ذلك نرى صنفًا من الظالمين يظلمون الناس ويغدرون بهم، ثم يتظاهرون بالبكاء والشكاوى ليقلبوا الحقائق رأسًا على عقب، ويُظهروا المظلومين وكأنهم هم الظالمون(4).
فالمسلم الواعي إذا تعرَّض للتضليل والأذى والتزييف للحقائق، يجب أن يواجهه بمزيد من الإيمان والإصرار على مواصلة الطريق بثبات وصبر، وأما من كان ضحيةَ اللاوعي ووقع في شباك الغدر، فيجب أن يستعيد وعيه ويستمدَّ طاقته من الله تعالى، فهو الواهب للهداية والمعين عليها بالدعاء والتأمل في القرآن الكريم واستنباط المواعظ والعبر منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الدراسات الإسلامية والإعجاز / الجزائر.
الهوامش
(1) تجديد الوعي، لعبد الكريم بكار، دار القلم، دمشق 2010، ط3، ص:15.
(2) تجديد الوعي، لعبد الكريم بكار، دار القلم، دمشق، 2010، ط3، ص:102.
(3) روح الحضارة الإسلامية، لمحمد الفاضل بن عاشور، المعهد العالمي، فرجينيا، 1992، ط2، ص:24.
(4) المؤمن لا يسقط وإن اهتز، لفتح الله كولن، مجلة حراء، العدد 17، ص:2-3.