نبذة عن حياته
يعد محمد زاهد بن حسن الحلمي الكوثري أبرز علماء الأحناف في العصر الحديث، وقد ولد يوم الثلاثاء 27 أو 28 من شوال 1296هـ الموافق لسنة 1878م. تلقى علوم العربية والشريعة في وطنه تركيا. فبعد التتلمذ لوالده انتقل إلى “دُوزْجه” متعلما ثم الآستانة. كما استفاد من علماء زمانه في مختلف فنون المعرفة، وظل مواظبا على التحصيل رغم الرتب العلمية التي نالها؛ فأخذ كما هي عادة علماء عصره الإجازات عن كثير من أعلام زمانه. وبعد أن ضاق المكان عن الاحتمال انتقل -مستصحبا الرغبة في التحصيل والإصلاح- في رحلات متتالية إلى الإسكندرية ثم القاهرة ومنها إلى الشام، ومنها إلى بيروت ثم دمشق، ثم استقر به المقام بمصر التي وصلها عبر فلسطين، وقد لاقى في تلك الرحلة كثيرا من العناء.
ظهرت عليه علامات النبوغ منذ المراحل الأولى للتحصيل؛ فقد اشتغل بعد نيل الإجازة العلمية (العالمية) سنة 1907م بالتدريس في جامع الفاتح وعمره أقلّ من الثلاثين عاما، واستمر على هذا العمل مدرسا في مدرسة المتخصصين بدار الخلافة ثم بجامعة إسطنبول، وجمع إليها التدريس في المعاهد والمدارس المسائية. أخذ عنه كثير من فضلاء زمانه، من أمثال أحمد خيري (ت: 1967م) وحسام القدسي (ت: 1979م)، وعبد الفتاح أبو غدة العالم الزاهد (ت: 1999م)… وغيرهم كثير.
كان لعالمنا آثار محمودة في شتى أنواع العلوم (بعضها ما زال مخطوطا، وبعضها ضاع)، وما طبع منها جاوز العشرين مؤلفا، كما علق على كثير من المؤلفات النافعة، وكان إضافة إلى ذلك يكتب المقالات التي عرفت بـ”مقالات الكوثري”، ضمّنها الحديث عن كثير من ميادين الإصلاح كالعلوم والتعليم والاجتماع والتربية والعمران، ووضع المرأة… وحذّر من أمراض أصابت الأمة من نحو التحلل والتفسّخ وهيمنة التشرذم وعادات الجاهلية، والرضا بالذل على كل الأصعدة، واللامبالاة بما حل بالأمة من تخاذل ينذر بالسقوط، والتي سمّاها الكوثري بعلّة “أنا مالي”، فهي على وجازتها علة العلل في الخلل الذي طرأ على شؤون الأمة في كل زمن.
يفرض وضع هذا شأنه -برأي الكوثري- العملَ على إصلاح الأفراد بالتربية الدينية الراشدة، لأن الفرد هو النواة الأولى للأسرة، ولأن الأسرة هي الخلية الأولى لإصلاح المجتمع.. ويفرض كذلك إنجازَ دراسات جادة شاملة عن أمراض المجتمع بغرض تشكيل جماعات متصاعدة تقوم بواجب إرشاد الأسر والمجتمعات والبلدان والدول. ويقتضي نجاح هذا العمل جهودا جماعية في إطار مؤتمرات تعقد لهذه الغاية، مع السعي المستمر نحو تعارف الشعوب الإسلامية لتتمكن الجامعة من تقويم العود أو رد التعدي على الأمة بالتشاور والتآزر، وإصلاح ما يحتاج إلى الإصلاح منها بعناية فائقة تركّز على التضامن الاجتماعي الذي يرمي إليه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشرع الإسلامي، ثم العمل على إصلاح عالم الأفكار ببعث الأبعاد الاجتماعية والسياسية والفكرية للعقيدة الإسلامية. ورأس الإصلاح في عالم الأفكار بعد التوحيد، إبطال فلسفة “أنا مالي” التي تعبّر عن اللامبالاة وتعطيل وظائف التوحيد. فيعتقد المسلم حين يرفض التسليم بهذه الفكرة أنه من الواجب عليه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
وقد عُرف إضافة إلى ما سلف بصفات أخلاقية قلّ نظيرها، فقد عرف بالزهد والتعفف والصبر وحسن المعاملة وعدم قبول أجر العلم. وحليت تلك الصفات الأخلاقية بصفات علمية سهلت له مأمورية التعليم والتربية؛ فقد كان محيطا بعلوم الشريعة ووسائلها، متمكنا من علوم الآلة وخاصة اللغات العربية والفارسية والتركية والجركسية، إضافة إلى قوة ذاكرة يسّرت له ضبط الأسماء مع حفظها، وبلغ فيها درجة سامية جعلته مضرب الأمثال في الحفظ والدقة.
تمكنه من العلوم
القراءة المتأنية لمجموع ما صنّفه الرجل من مؤلفات ومقالات وتعليقات وتحقيقات تدل على تمكّنه من علوم العربية أولا والشريعة ثانيا وفنون الحكمة ثالثا واللغات الشرقية رابعا.. فقد كان فارسا لا يبارى في تلك المعارف والفنون.
يبيّن التحليل الموضوعي لمجموع مضامين مؤلفاته أننا أمام طود شامخ، أخذ من الأوّلين قوّة الذاكرة وسعة الاطلاع وطول النفَس والصبر على التحصيل والتحليل والتحقيق مع جرأة في الحق يغبط عليها.
كتب وصنّف في جلّ علوم الشريعة والعربية، فمع الفقهاء كان فقيها متضلّعا، ومع الأصوليين كان نحريرا يحرر المسائل بدقّة متناهية، ومع المتكلمين كان متكلّما نظّارا، ومع المؤرخين محققا مدققا، أما في الحديث وعلومه فهو فارس مجالاته وشيخ تخصصاته من غير منازع… وحيد عصره وفريد زمانه نسيج وحده كما قال أحد تلاميذه. وتتبيّن تلك الحقيقة بعرض يسير لأسماء الأعلام الذين ناقشهم؛ فقد تتبّع أقوال الفقهاء والمتكلمين والمحدّثين والمفسرين والمؤرخين والفلاسفة والمستشرقين…
مكانته العلمية
ناقش أقوال المالكية والشافعية والحنابلة فانتصر لهم أحيانا وورفض أقوالهم أحيانا أخرى واضعا نصب عينيه في كل ذلك الانتصار للإمام أبي حنيفة، ووفق ذلك الجهد ناقش أقوال المحدّثين كابن خزَيمة والدارمي وابن الصلاح والخطيب البغدادي وابن حزم وابن تيمية وابن القيّم وخلقا كثيرًا.
وناقش في المفسرين ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي، كما ناقش المتكلمين وأتباع الفرق الأخرى؛ فحلل وناقش آراء الأشاعرة وأعلام الشيعة كالنوبختي، وجاوز ذلك إلى رد مفتريات المستشرقين والمتغربين من أبناء أمّتنا الإسلامية.
وعلَمٌ بهذه السعة في التأليف لا يعدم نقّادا ومناوئين. والموازنة بين أقوال المناوئين والمناصرين يحتاج كتابا موسعا، لا يسع بيان أطرافه مقال، لهذا سنقف في هذه العجالة مع من ناصر آراءه الفقهية والأصولية والحديثة والعقدية.
فقد قال عنه محمد أبو زهرة (ت: 1974): “لا أعرف عالما مات فخلا مكانه في هذه السنين كما خلا مكان الإمام الكوثري، لأنه بقية السلف الصالح الذين لم يجعلوا العلم مرتزقا ولا سلّما لغاية”..
وورد عن أبي زهرة في وصفه ما يبيّن معرفته بالرجال ومنازلهم، اخترنا في هذا المقام نتفا من تلك الخلال التي وصفه بها: “إنه تحقق فيه القول المأثور “العلماء ورثة الأنبياء”، وما كان يرى تلك الوراثة شرفا يفتخر به ويتسلط به على الناس، بل كان يراه جهادا في إعلان الإسلام وبيان حقائقه وإزالة الأوهام التي لحقت جوهره”. يؤكد هذا المعنى، قوله أيضا: “لم يكن الكوثري من المنتحلين لمذهب جديد أو داعيا إلى مذهب لم يُسبق إليه، لهذا كان ينفر مِمّن يسميهم العامة وأشباه المثقفين بسمة التجديد، ومع ذلك فقد كان من المجددين بالمعنى الحقيقي للتجديد والذي هو إعادة رونق الدين وجماله وإزالة ما علق به من الأوهام. إنه لمن التجديد أن تحيا السنة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين، لقد كان عالما حقا. (…) وقد عرف العلماء علمه وقليل منهم من أدرك جهاده. ولقد عرفته سنين قبل أن ألقاه، عرفته في كتاباته التي يشرق فيها نور الحق، وعرفته في تعليقاته على المخطوطات التي قام على نشرها. وما كان -والله- عجبي من المخطوط بقدر إعجابي بتعليق من علّق عليه. (…) إنه لم يرض بالدنية في دينه، ولا يأخذ من يذل الإسلام وأهله بهوادة، ولا يجعل لغير الله والحق عنده إرادة، وإنه لا يعيش في أرض لا يستطيع فيها أن ينطق بالحق ولا تتعالى فيها كلمة الإسلام”.
لهذا يتباهى الإمام أبو زهرة بذكر الكوثري له في بعض مؤلفاته، حيث يقول معلّقا على ذكره له: “وما كنت أحسب أن لي في نفس ذلك العالم الجليل مثل ما له في نفسي، حتى قرأت كتابه “حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي” فوجدته رضي الله عنه قد خصّني عند الكلام على الحيل المنسوبة لأبي يوسف بكلمة خير. وأشهد أني سمعت ثناء من كبراء وعلماء فما اعتززت بثناء كما اعتززت بثناء ذلك الشيخ الجليل، لأنه وسام علمي ممن يملك إعطاء الوسام العلمي”.
هذه شهادة ثقة يحق لنا أن نباهي بها ونقدمها بل ونجعلها العمدة في معرفة منـزلة الشيخ محمد زاهد الكوثري، إنها شهادة عالم متبحر شهد له الداني والقاصي بسعة الاطلاع ورحابة الصدر والبعد عن التعصّب المقيت.
ويرى الأستاذ محمد بن يوسف البنوري (كان أستاذا للحديث بدار العلوم بباكستان) أنه يحق في الكوثري ما ذكره مسروق بإسناد صحيح في حق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: “لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ (الغدير)، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من ذلك الإخاذ”. إنما تصدق هذه الكلمة في محقق العصر، الجهبذ الناقد البحاثة الخبير. فكان رجلا تتجلى فيه هذه المزية بأجلى منظرها، رجل جمع بين غاية سعة العلم والاستبحار المدهش ودقة النظر، والحافظة الخارقة، والاستحضار المحيّر، والجمع بين علوم الرواية على اختلاف فروعها وشعبها، وعلوم الدراية على تفنن مراميها. لقد كان الكوثري عالما محيطا بنوادر المخطوطات في أقطار الأرض وخزانات العالم، مع الغيرة على حفظ سياج الدين، أو إبداء وجه الحق إلى الأمة ناصع الجبين”.
وورد عنه في سياق بيان منـزلته قوله: “إن القوم لم يقدّروا الكوثري بما يستحقه من تقدير وإجلال. ذلك المحقق، وذلك البحاثة الناقد، وذلك الخلق الجميل… العالم المتثبّت المحتاط في النقل، المتيقّظ لكل كلام، المستغني عن الاستدلال بالأمور الذوقية أو الوجدانية في المحاججة، متصلّب المعتقد، منتصر إلى الحق غاية الانتصار، حارس متيقظ، منافح عن الحنفية ضد كل
حملة شنعاء”.
كما أيّده وناصره ناشر علمه وجامع مقالاته “أحمد خيري”، وفي ذلك قال عنه: “كان ذا ذاكرة فذة ولاسيما في حفظ الأسماء؛ فكان إذا سمع شيئا أو رأى أحدا مرة واحدة ذكره ولو بعد سنوات. وهيأ له ذلك مع اطلاعه على المخطوطات النادرة في الآستانة ومصر والشام إلى أن أصبح حجة لا يبارى في علم الرجال. وجمع إلى براعته في الحديث ورجاله مهارة فائقة في علم الكلام وتنـزيه الله سبحانه وتعالى. كما كان أستاذ العصر في علمي الأصول والفقه، وكان على عبقريته المدهشة يحب أن يتعقّبه العلماء”.
ويقرب من تلك المقالات ما نقلت عن العلامة يوسف الدجوي والشيخ عبد الرحمن خليفة وعزت العطار الحسيني وشيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق ومحمد بخيت المطيعي وعبد الجليل عيسى وحسام القدسي ومحمد زكي مجاهد وسلامة القضاعي ونجم الدين الكردي وغيرهم كثير.
ويقول عنه سلامة القضاعي: “العلامة المحقق والمحدث الفقيه المحقق الأستاذ الأجل الشيخ زاهد الكوثري شفي به صدر السنة ونصر به الحق الذي عليه الأمة”.
أما نجم الدين الكردي فيقول عنه: “المحقق الفهامة البارع، أعلى الله درجته في المهديين نظرا لما متّع به من تعليقات نفيسة على كتاب البيهقي “الأسماء والصفات”، تعليقات بما فيه من رجال الأسانيد وما لا بد منه”.
وبالإضافة إلى كل ما سلف فقد اهتم به الباحثون في الدراسات الإسلامية والفلسفية. وقد وصفه الأستاذ الدكتور علي سامي النشار بأوصاف لم يصف بها غيره من أقرانه، فقال: “عالمنا الكبير المعاصر”، “عالم الإسلام الكبير”، “العلامة”، وذهب إلى ما يقرب من هذا محمود محمد عويس في كتابه “ابن تيمية ليس سلفيا”.
وهكذا يتبيّن لنا أنّ الكوثري محدّث فقيه أصولي متكلم ومفسر وأديب لا يشق له غبار، وسجى تلك العلوم بسجايا وأخلاق عالية اعتبر بموجبها وبحق بقية السلف الصالح.
تفسيره لإشكاليات العالم الإسلامي
يرى الشيخ الكوثري أن أزمة عالمنا الإسلامي في العصر الحديث تتلخّص في الخلل الطارئ على عرض المسألة الفقهية والعقدية أكثر مما ترجع إلى أسباب أخرى.
يتصوّر الشيخ أن من أهم أسباب بعد المسلمين عن عقائدهم في العصر الحديث ظهور بدعة التجسيم. وقد ظهر الاحتفال بهذا الاتجاه في العصر الحديث بطبع مؤلفات بعيدة عن العقيدة الإسلامية الصافية وفق تصوره، وبهذا الصدد حمل على طبع كثير من الكتب وكل ما من شأنه الانتصار إلى ذلك الاتجاه على حساب الاتجاهات الغالبة في البيئة الإسلامية منذ أمد بعيد.
ويرى أن الخلل الطارئ في الفقه سببه اللامذهبية التي ستؤول إن تمادى بها الزمن إلى اللادينية وفق رأيه. فقد شقّ عليه أن يرى التطاول على العلماء الأعلام من فقهاء ومحدّثين ومفسّرين وغيرهم… لهذا أفرغ وسعه من أجل المرافعة عنهم ومدافعة المتطاولين عليهم.
أما الخلل الطارئ على التعليم فسببه الابتعاد عن مناهج المتقدمين في التمحيص والتثبّت مما سبب فقدان ملكة البحث العلمي الجاد لدى الناشئة. أما الفساد الجديد في السياسة فأرجعه إلى إبعاد الإسلام عن ميدان الحكم وتعويضه بالنماذج الغربية في السياسة والحكم، مما سبّب للمسلمين غربة في بلدانهم، وأرجع فساد وضع المرأة إلى هيمنة الفكرة الغربية التي يراد تجسيدها في المجتمع وقضية المرأة على الخصوص؛ وإذا تمّ لهم ذلك سيعمدون إلى تغيير كل ما يحمل بذرة الانتماء إلى هذه الأمة، فتتغيّر العمارة وشكل المدينة والعلاقات الاجتماعية.
تشخيص الكوثري للأزمة صحيح في مجمله؛ فالأزمة ثقافية بالدرجة الأولى، ولعل من بين التيارات المساهمة في تأزيم الوضع أتباع الاتجاهات الظاهرية في العصر الحديث. فقد كانت بسبب تصرفاتها عاملة على تكريس الإقصاء المتشرّع بين المسلمين، لا لشيء سوى الاقتناع بصحة رأي وبطلان ما سواه. وقد ولّدت هذه القناعات فكرا لا يقبل الحوار، فكرا إطلاقيًّا استبداديا لا يقبل الأخذ والرد. والفكر الاستبدادي سواء كان دينيا أو لادينيا -كما هو معلوم- فكر يعمل على اغتيال الفكرة المخالفة بكل الوسائل المشروعة شرعا أو قانونا. فإذا أعيته الوسائل المشروعة ركب غير المشروعة للأسف الشديد، وأول مراحله الإقناع بالضغط الأدبي والمالي والسلطاني. وإذا عجزت تلك الوسائل انتقل إلى ما هو أشنع. وقد وصل ببعض المتبنّين لهذا الفكر أن أصبحوا كالمجانين لا همّ لهم غير إذلال المخالفين. وما ذلك حسب تقديرنا إلا بسبب اختصار الإسلام والفكر في مسائل ظاهرية لا صلة لها بالقلب. ولهذا فالمسألة تربوية بالدرجة الأولى مبناها وأساسها ثقافي طبعا. لهذا لا بد من بذل المجهود من أجل إصلاح ولائنا لله تعالى في إطار البعد الإنساني في تصرفاتنا المبني أساسا على بعث الروح في الالتزام بأحكام الشريعة.
ولقد غلب على عمل الشيخ وجهوده العمل الفدائي أكثر من العمل المؤسساتي، بل يكاد يغيب هذا النمط من التفكير من خلال ما لمسناه من جهود الرجل. لهذا كانت جهوده تنبيهية أكثر مما هي تأسيسية طبعا في إطارها الكلي لا في إطارها الجزئي، وهو المسلك الذي يختاره جل الفدائيين في الميدان الفكري.
ومن ثم فإننا في حاجة إلى استثمار توجيهاته في ميدان إصلاح التعليم والجو المحيط به، كما أننا في حاجة إلى النسج على منواله في التربية الروحية الراشدة من أجل نفي النفي وإقصاء الإقصاء؛ تربية ننمّيها ونغذيها ببعث الروح في التزاماتنا الشرعية المؤسسة للهمّ الحضاري في أنفسنا ومجتمعنا في إطار السؤال الوظيفي الذي يؤرق كل مفكر رسالي جاد يهمه أمر أمته، ويتمنى أن تخرج في غدها القريب من التخلّف إلى التقدم، ومن التبعية إلى قيادة العالم، نحو الإنسانية التي أراد الإسلام تكريسها في العلاقات بين الدول والشعوب والمجتمعات والأفراد.
توفي رحمه الله تعالى بتاريخ 19 من ذي القعدة 1371هـ الموافق 15 أغسطس 1952عن خمس وسبعين سنة، وأمّ صلاة الجنازة الشيخ عبد الجليل عيسى شيخ اللغة العربية، ودفن قرب قبر أبي العباس الطوسي في قرافة الشافعي.
هذا هو الرجل الذي فقده الإسلام وخسره الأحناف ورزئ فيه العلم وثكلته المروءة واستوحش لغيابه الزهد وشغر مكانه بمصر رضي الله عنه وأرضاه وأعلى في جنان الخلد منازله ومثواه.