كانت فلسفة الإحساسيين (أتْباع المذهب الإحساسي) تقوم على علاقة استثمار الضوء والظل (الحركة والسكون). فألواحهم تنطلق إلى البراري والمروج
الهادئة، وتسعى لاحتواء نسائم الزمن في سيولته المستديمة، باعتبار أن اللحظة هي إحساس شارد، يتفلت ولا يتيح للريشة أن تقبض عليه.
لقد كانت لعبة الإحساسيين حنينا يرتد بالإنسان إلى صفاء البكارة الأولى، وإلى عهود كان الزمن بعدُ مصمتا لا يعرف مقاييس إلاّ مقاييس الطبيعة ذاتها، فالاهتمام بالحركة واللون كما مارسه الإحساسيون هو اهتمام بالغيب وإن لم تُفصح عن ذلك بجلاء أفكارهم. إنما الفنّان المسلم حين يتعاطى مهمة التمرّس بمشاعره لا يكون موصولا بالكون صلة مبهمة، ولا تستغويه فيه الظواهر الوحشية الساحرة، وهو وإن تشرب من منابع عذوبة ما أبدع الله وسخَّر، إلاّ أنه يجد في مهمة تعظيم قدرة الخلاَّق المبدع وإكبار ملكوته ما يتجاوز لذة الشهوة الحسية. من هنا كانت إحساسية المسلم تسبيحا وحمدا وليس مجرد التذاذ حسي غُفْلٍ. وعلى نحو ما قويتْ لعبة الألوان والظلال في آثار الإحساسيين، سنجد بديع الزمان سعيد النورسي -رحمه الله- بدَوره يجسد في كتاباته نوعا من الإحساسية الخطابية التي صبّت مشحونها من المشاعر في قوالب روحية تزكّتْ بها المضامين وتسامت المقاصد.
على أنه لا بد من التنبيه إلى أن إحساسية بديع الزمان النورسي ليست التذاذية تحيل على كوامن شهوية حسية، إنها وجدانية لا حسية، شعورية لا جسدية، روحية لا مادية. وإحساسية النص النوري تبرز في الكيفية المكثفة التي استخدم بها النورسي الأصباغ والتلوينات اللغوية، إذ لَمَّا كان الدافعُ إلى التعبير قلبيا، كان لا بد للأفكار أن تتلبس من الكلمات والصيغ ما يشي بلونها. من هنا تواترت النعوت وأسماء الإشارة والموصول، يقول: من بين وسائط الإشارة والتصوير لفظ “الذي”(1)، وألفاظ الخبر والحال أو ما في معناهما كالبدل والتمييز والتوكيد. وفيما يلي سنرى كيف غدت الجملة النورية -ونتيجة لهذا الأمر- تستغرق حيزا يسع السطر والسطرين وأكثر، بل والفقرة أحيانا كثيرة.
استغلال الحيّز
التوسع في استغلال الحيز المكاني من أبرز ما يعطي لأدبية النورسي صبغتها التشكيلية، ذلك لأن الكلمة في الخطاب التشكيلي هي القيمة المشعة. وعلى حسب إشعاعها وإيفائها بما تتطلبه الحاجة إلى التعبير وأداء الرسالة يكون موقعها في اللوح والمشهد. من هنا رأينا النورسي يعطي لتقنية الانتشار في الفضاء العناية اللازمة، ورأيناه يَخرج -كلما اقتضى الأمر- عن طبيعته البيانية الاقتصادية، فيسترسل ويستطرد ويُطيل نفَسَ السياق. ذلك لأن النورسي كان يدرك قيمة الخطاب وأن الكلمة هي وسيلته الوحيدة للوصول إلى الآخر، ولذا كان حرصه كبيرا على أن تأتي الصورة التي تُشكّلها الكلمات في مستوى من الاكتمال والتعبيرية بحيث تفي بالغـرض التبليغي وتـؤدي وظيفتها على نحو فعّال.
وخطته في التعامل مع اللغة أن يرصد الدوال الأكثر قدرة على تصعيد شُحنة الأداء؛ فقوة الإفادة تأتي من محصَّلة الخطاب عامة، لأنه خطاب يتحرى الأصالة التصريحية الدقيقة ولا يعبأ بالإنشائية الجوفاء أو الزخرفة الفارغه. ثم تأتي من اختيار الكلمة المتأهّبة التي تمدّ المتلقي بحمولة محسوسة من المعنى المقصود، ليجد المتلقي نفسه يتلقى حمولة أبلغ ملموسية من كلمة تالية في السياق، ثم من ثالثة ورابعة، إلى أن يراه قد استنفد الفكرة كلية واستوعبها، فيدرك عندئذ أن دوال الخطاب النوري لا تُستخدم بارتجال أو اعتباطية توصيلية، ولكنها تُستخدم بوعي عميق وتحرص على أن تجعل القارئ يتلقى من كل عناصر الخطاب اللفظية حظا ملموسا من الإفادة، كالضيف يستشعر حرارة كل من وقف في طابور التشريفات يصافحه. “إن سر المناسبة بين الأشياء صيّر أكثر الأمور كالمرايا التي تتراءى في أنفسها، هذه في تلك، وتلك في هذه؛ فكما أن قطعة زجاجة تُريك صحراء واسعة، كذلك كثيرا ما تذكّرك كلمة فذة خيالاً طويلا، وتمثّل نصب عينيك هيئة كلمة حكاية عجيبة ويجول بذهنك كلام في عالم المثال المثالي”.(2)
التلوين بالتوصيف
قلنا إن التعبيرية بالنسبة للأدب هي نوع من التشكيل الخطابي يوائم العواطف وأحوال البوح الروحي والوجداني التي يعرب الإنسان من خلالها عما يسكنه من أحاسيس وأفكار ورؤى. ومما نسجّله في هذا الصدد أن بديع الزمان النورسي يستخدم التلوين في خطابه بسخاء كبير؛ والتلوين الخطابي كما أسلفنا يعول على ترجيح لوازم لغوية أو متممات دلالية منها النعوت، ذلك لأن النعوت تنسجم مع طبيعة فنّ التشكيل. يقول النورسي رحمه الله: “إن ذكر الأوصاف الكثيرة سبب للتجسيم في الذهن والحضور في العقل والمحسوسية للخيال”(3).
إن النعوت هي مادة التلوين التي تتحول بها الصورة الأدبية إلى مشهد تشكيلي محسوس؛ إذ مثلما تعتمد الفرشاة هذا اللون أو ذاك للتعبير عن عاطفة من العواطف، فكذلك يصطنع الخطاب المقوّم (الوصفي) من أجل أن يعين تلوينية شيء ما أو صبغته. لقد تحدث “ياكوبسون”(4) عن نحوية الشعر وعن شعرية النحو، وقصد بذلك إلى طبيعة التركيب الذي تراعى فيه أحكام المعيار النحوي أو قد لا تراعى أحيانا نشدانا للخصوبة ودعما للشعرية.
والمهم أن النورسي مارس التوصيف بصورة لا جدال فيها، إعرابا عن وازع تلويني ازدوجت بواعثه، فهو كما أسلفنا كان من خلال التلوين يستجيب لدواعي الوجدان؛ وهو من جهة أخرى كان يعزز العدة البيداغوجية التي يجهز بها خطابه من أجل أن يضمن له الانتشار بين الجماهير، ذلك لأنه كان يفاعل بقيم روحية تجريدية اقتضت منه أن ينحو منحى التشكيل والتلوين تقريبا لمعانيه من الناس، وتعميقا لحقيقة تلك المعاني من خلال صبغها باللون. لذا رأينا كيف لبث بديع الزمان يمد من مساحة النعوت رغبة منه في استيفاء الغاية التوصيلية. فالنعوت كانت من أهم فواعل التشكيل والتصوير في خطاب النورسي. وكما يمازج الرسام بين الألوان فيخلق الانطباع الجديد، أو كما يراوح بين الأصباغ ليعطي التعاكس المطلوب، فكذلك يصنع النورسي مع التلوينات اللغوية، إذ يخرج الصورة وقد لبست سِمَتها اللونية على نحو يكفل لها أن تخاطب المتلقي بالكيفية المناسبة والأسلوب المطلوب.
ولقد رأيناه يوظف الدوال لرسم الجو الذي يحيط بالفكرة أو المتولد عنها، وهذا بواسطة تغزيره منظومة المعاني المستثمرة، بحيث يأتي ترادف العبارات وجها من وجوه تعميق اللون. “نعم وبدون نوره تبكي الوجودات لك إعداما، والأنوار ظلمات، والأحياء أمواتا، واللذائذ آلاما وآثاما، ويصير الأوِدَّاء بل الأشياء أعداء، وما البقاء بدونه إلاّ بلاء والكمال هباء، والعمر هواء، والحياة عذاب، والعقل عقاب، وتبكي الآمال آلاما”(5). فتقنية الفرشاة في رسم هذا المناخ الحدادي استخدمت دوال معبرة برز بها على الفور لون السواد الذي أراد السياق أن يعبر عنه. ومن الواضح أنه فضلاً عن المادة اللفظية التي أعربت عن طبيعة الموقف هنا، فقد استغلت الخطابة فاعلية البلاغة لاسيما الطباق: الأنوار ظلمات / الأحياء أمواتا / اللذائذ آلاما / الأودّاء أعداء… فالتناسب قام على هذا التداعي الذي سلسل الدوال وجعلها تنتمي إلى عائلة ذهنية متداعية عكسا واطِّرادا. فلفظ “تبكي” يناسب في الإيعاز ألفاظَ إعداما، ظلمات، أموات، آلاما، أدواء، بلاء، هباء، عقاب… لذا كانت بمنـزلة الأسرة الدلالية الواحدة. وتجميع هذه الألفاظ بهذا الشكل، أفادت منه التعبيرية وصنعت صبغتها. بل لقد تردد لفظ البكاء في مستهل الفقرة ومختتمها، وما ذلك إلاّ ليعكس المرارة التي يحس بها الكاتب إزاء فكرة الجحود.
إن تمادي الكاتب في تثمير المقومات البلاغية على هذا النحو يؤكد رغبته في استيفاء التلوين، فاستغلالِ الاستطراد ومرادفة المعاني. ثم إن الوتيرة النحوية المتراسلة رفعا ونصبا “الموجوداتُ إعدامًا / الأنوارُ ظلمات/ الأحياء أمواتا / اللذائذُ آلاما وآثاما…”، قد أضفت على السياق مستوى تمادت به نبرة الأسى على حال واحدة. كما استغلت الفرشاة جانب التجانس الصوتي تصويرا لجنائزية المشهد: هباء.. هواء / عذاب… عقاب / آلام.. آمال.. إلخ.. وهو ما استكمل به المشهد دُكنتَه.
تمازج المشاعر واللغات في حسه
في قصيدة “بكاء القلب”(6) يكشف النورسي عن جانب مهم يخص الإبداعية والوجدان الفني الذي كان ينفّذ به أعماله؛ إذ استخدامه للغة العربية -في الكتابة والخطاب- لا يحول بينه وبين الإعراب بأصالة عن مشاعره، فلم يكن الخطاب بالعربية -على ما يبدو- يشوّش على خلوص تلك المشاعر، ولم يكن يغيّر منها أو يُزوِّر، فأحاسيسه التي ظلت اللغة الأم تتمرس بها، كان يجدها هي هي حين ينقلب إلى التعبير بواسطة اللغة العربية.
ولا شك أن قارئ هذا النص النظمي سيستشعر الخصوصية الأسلوبية التي ميزت بناءه، فكأنها في بعض مواطنها نص مترجَم، وما ذلك إلاّ لأنّ النورسي كان وهو يكتب يجد نفسه موزّع القدرة الخطابية بين أكثر من لسان، ولم يكن ذلك ليعوقه، بل لقد كان يمضي في الإنشاء، لأنه طوّع الأسلوب العربي لدرجة الارتجال، وبات يصوغ به مشاعره دونما تكلف أو تصنع. فلذلك نلمس أحيانا في النص تلقائية كتلقائية الأطفال، وتلك ميزة للنص وليست عليه؛ لأن الشعر الجميل ظل دائما يصطنع عيون الأطفال وأحاسيسهم ويصدر عن بكارة خواطرهم كلما أراد الشاعر أن يأتي بالعذب والمدهش والفذ: “اعلم أن قلبي قد يبكي في أنيناته العربية بكاء تركيًّا بتهييج المحيط الحزين التركي، فأكتب كما بكيت:
لا أريد، من كان زائلا لا أريد،
أنا فانٍ، من كان فانيا لا أريد،
أنا عاجز، من كان عاجزا لا أريد،
سلّمت روحي للرحمن سواه لا أريد،
بل أريد، حبيبا باقيا أريد،
أنا ذرّة، شمسا سرمدا أريد
أنا لا شيء ومن غير شيء،
الموجودات كلها أريد…
صحيفة الوجه فهرسة للخصوصية الفارقة
حِسُّ التصوير يتبدى لدى النورسي في تلك الحساسية التي كان يجدها حيال صورة الماهيات والأشكال والمشاهدات، لاسيما ما يخص الإنسان.. هذا الكائن الذي عبر الخالق من خلال الهيئة التي قده فيها عن كمال ما أبدعت قدرته وجمال ما أنشأت إرادته.
لقد خلق الله الإنسان وجعل الوجه مجلى لحسنه، بل إن وجه الإنسان هو فهرس العلامات التي تميز صاحبه، والزمام لما في طَلعته من سمات. ومن دلائل قدرة الله التي لا تُحَدّ أن الوجه لا يمكن أن يعكس إلاّ ماهية صاحبه، فخطوط الوجه خريطة ربانية فارقة بين البشر رغم لامحدودية أعدادهم. والنورسي حين يدير تفكيره في مثل هذا الجانب من عظمة الخالق فليس باعثه إلى ذلك هو الترف أو البحث عن الحديث المستطرف، ولكنه يفعل ذلك لأنه يمتلك الوازع الفني والتشكيلي الذي يميز الفنان؛ إذ اهتمامات الرسامين وصناع اللوحات يستغرقها تمثل الوجه، وتمييز خطوطه الواضحة والخفية، ذلك لأن الإبداعية تبرز أظهر ما تبرز في تخريج ملامح الوجه المعبر، الوجه الذي لا يمكن أن تقرأ أسطره بسهولة وسطحية. والشاهد في هذا هو ما يثيره فينا وجه “موناليزا” مثلا: “اعلم أن وجهك يتضمن من العلامات الفارقة عدد أفراد الإنسان الماضية والآتي، بل لو وجد الغير المتناهي من الأفراد لتصادف كل واحد في وجهك ما يميزك عنه، مع التوافق في أركان الوجه، كأن الوحدة تجلت من وجهك في كثرة غير متناهية”.
فالرؤية النورية تصدر هنا عن وازع تصويري تشكيلي لا يفوته أن يقرأ في صفحة الوجه آية من آيات الاختلاف المظهري التي هيأها الله لعباده، وأن يترسّم فيها مظهرا من مظاهر الإعجاز الدال على مُطلقية إبداعية الله، بل إن الخطاب الذي عالج به النورسي هذه المسألة قد استرفد مادّته التشبيهية من قاموس فن الزخرفة والنقش: “كأن الوحدة تجلت من وجهك في كثرة غير متناهية”(7)، بل إن هناك من العبارات ما يحيل إلى الحقل التشكيلي ويوعز بمفرداته كقوله: “وجهك يتضمن من العلامات الفارقة”، فمثل هذا التعبير (العلامات الفارقة) مما يدور على ألسنة الرقّامين والنقّاشين والسيمائيين.
ولقد استرسلت الإشارات إلى الوجه في نصوص النورسي، إذ رأى النورسي في الوجه مجالا دالا على الوحدانية، وكل ذلك لأن النورسي فنّان تشده المساحات ومواطن التعبير سواء في صورة الإنسان أو في ملكوت الله: “فسبحان من أدرج وكتب الغير المتناهي في صحيفة الوجه، بحيث يُقرأ بالبصر ولا يحاط بالعقل. نعم يقرأ بالنظر واضحًا مفصلاً ولا يُرى بالنظر إجمالُهُ، بل ولا بالعقل أيضًا. فهو المعلوم المُبْصر، المجهولُ المطلق، والمشهودُ الغائب. فمحالٌ بمراتب أن يكون هذا التخالف المنتظم المفيد في نوع الإنسان، والتوافق المطّرد المتناظر في أنواع أمثال الحنطة والعنب، وكذا النحل والنمل والسّمك، بالتصادف الأعمى والاتفاقية العوراء.. كلاَّ ثم كلاَّ، إنه لصنعةُ سميعٍ، بصير، عليم، حكيم”(8).
الجمال التجريدي
“ومن آيات حُسنه أنْ.. زَيَّنَ قلوب العارفين بأنوار جماله المجرد”(9). إن مثل هذه التعبيرية التي تدور في مخاطبات أهل الفن والمحيلة على عالم التشكيل لا تفتأ تواجهنا في سائر رسائل النورسي، فهو مثلا حين يتحدث عن الإنسان باعتباره مُجَسِّمَ الصنعة الإلهية يقول: “اعلم أنك صنعة شعورية بحكمة، حتى كأنك بوضوح الدلالة على صفات الصانع مجسم الحكمة النقاشة، ومتجسد العلم المختار.. وصورة القدر المرسِّم الخبير بما يناسب بناءك”.(10).
الوجود كتابة لا تمحى
الفكر الدياليكتيكي ساهم في طبع ملكة النورسي بطابع الثراء بحيث تأتَّى لهذه الملكة أن تكون على دينامية تمثلية زاخرة، ترى في الصورة الواحدة إمكانات من الصور لا تحد. بل لقد تأسس يقينه الإيماني على رؤية وجودية بقائية نابعة من فهم يُعمّق ظاهرة النماء التي تطبع الكائنات العضوية وتجعل حياتها ديمومة مستمرة تتحول ولا تفنى: “إن وجود كل ذي حياة هو بمثابة كلمة، تقال ثم تكتب ثم تغيب، دون أن تبيد”.(11)
إنه بهذه الروح التي تنفذ إلى ما وراء الحس والسطح، قد أدرك أن الكون كما هو منوط بضمان وكفالة حياة المخلوقات، هو أيضا منوط ومتكفل بواجبات أخرى لا نلمسها يؤديها لخالقه تسبيحا وحمدا ومباركة وتعظيما: “شاهدتُ أنه إن كان للحياة وجه واحد متوجه إلى “أنا”، فإن لها مائة وجه متوجه إلى الحي المحيي، وإن كانت لها نتيجة واحدة تعود إلي أنا، فإن لها ألفا من النتائج تعود إلى خالقي، لذا فإن لحظة واحدة من الحياة أو آنًا من الوقت ضمن هذه الجهة كاف جدا، فلا حاجة إلى زمان طويل”.(12)
هكذا يفكك النورسي ظاهرة الزمن -باعتبار أن الزمن هو فاعلية الحياة الأساس- من خلال تمثّلها في سياق حي من العلاقات والأحداث المشخَّصة (الحياة – وجه – أنا – المحيي – نتيجة،…إلخ.) ليضع أمامنا مستويات لا تحصى من الزمنية؛ الزمن الأرضي (لحظة واحدة من الحياة)، الزمن القدسي (الزمن الطويل)، فيما تضمن قوله “إن لها ألفا من النتائج” سلاسل أخرى من الزمنية التي يقتضيها منطق الأشياء والعوالم وفق مواقعها وظروفها. فزمنية الصورة غير زمنية المرابط على ظهر سفينة بكوكب الزهرة. ذاك وجهٌ من الأوجه التي تمثل فيها النورسي فاعلية الزمن وكثافتها وما تمثله الحياة بالنسبة لسيولة الأبدية؛ إذ الحياة ليست إلاّ لحظة عابرة وإن بدت للآدمي طويلة، إذ الأمور نسبية والخالق سبحانه وتعالى هو مصدر هذه السيولة التي لا نعلم لها منطلقا ولا منتهى على التحديد.
الضوء واللمعان
يمكن رد الخلفية التصويرية التي يصدر عنها النورسي والمرتبطة بمجال الضوء والتألق واللمعان والترقرق التي تشيع في مخاطباته إلى الأماكن والبيئات التي أقام فيها؛ لا سيما خلال تلك السنوات التي عاشها متطلعا إلى الانعتاق والحرية في محبسه بقرية “بارلا” يُصَبِّح بُحَيرتها العجيبة ويُمَسِّيها. إذ لا بد أن تكون تلك البحيرة التي أشبهت في هيئتها ومنظرها الصفحة المترامية أو المرآة الكبيرة المستقطبة لتوهجات الكواكب، قد تركت أثرها في صنع ذلك الإدراك اللماع الذي تعكسه صور النورسي وتشكيلاته التي طفحت بها نصوص الرسائل: “رميت حجرا في وسط حوض كبير تقول للدائرة المتشكلة من وقوع الحجر: واسعة.. واسعة.. واسعة.. كلما تتلفظ بواسعة تتظاهر دائرة الوسع..”.(13)
فمداومة النظر إلى تلك المرآة الصقيلة الممتدة كأنها البحر، لا بد وأن يكون قد نقش في مواجد النورسي تلك الألفة التي جعلت مشاهد الصقالة والإيماض والتوهج تلازم مِخياله وتبطن كثيرا من مشاهده ورسوماته النصية، بل لقد ظلت صورة اللمعة والرشحة والقطرة والمرآة وغيرها من المواد المتجانسة مع أشياء هذا الحقل الشفيف دوال تدور وصورا تترجع في متن الرسائل.
فالخطاب ينقل إلينا مشاعر الكاتب من خلال الإيماءات المتلونة والإشارات التي تنعكس عليها آثار الأضواء والالتماعات المنبعثة من المجال من حوله، بل والنابعة من داخل روحه؛ إذ إن تواصلَه مع عوالم الملكوت بصورة اعتكافية يجعل الروح على التماع دائم واحتراق مستمر لأنها تستضيء بنور التسايح، وكل ذلك يغدو مشاعر تتلبس عبارات وأقوالا وتشكيلات خطابية تصطنع جماليتها بذاتها النصية وبروحها المعنوية معا.
فبدل أن يقرر النورسي أن بُحيرة “بارلا” مثلا كانت مسرح تأملاته، وأن الشمس كانت تنقدح على صفحتها الزرقاء فيتلألأ المنظر بلون الذهب… بدل ذلك يتحول الخطاب ذاته إلى مشهد وشاشة تشعّ أشياؤه (أي كلماته)، تشد عينيك وتوجه بصرك لتتوقف عند المعالم المشرقة التي يُجلِّيها لك نظر الكاتب، فيجعلك تعاين التألق النوراني والتكسّر الضوئي فوق سطح النص، وكأنك أمام بساط من زجاج أو من فسَيفساء. ذلك لأن اهتمام الكاتب يتركز على لفتنا إلى الحال التأثرية التي يعيشها هو نفسه ونعني بها مظهر الترقرق الضوئي والتألق والصقالة الطافحة.
وسنجد هذه الحسية تطغى أكثر على نصوص بعض الأجزاء من الرسائل مثل “اللمعات”، بحيث طفت الحسية والضوء والنعومة على جسد النص. كما أن دوال اللمعان والإنارة والترقرق قد جاءت عناوين وأسماء لفصول، أو أحالت على تفريعات نصوصية في رسائل كثيرة. ويمكننا أن نرى في تغلغل صورة المرآة في وجدان النورسي على هذا النحو إعرابا منه عما لنفسه من شفافية، ومن روح مرآتية تنظر إلى ما وراء الأشياء وتستقبل انعكاسات الحقائق التي لا تلقطها عيون الآخرين.
اسم النور
إطلاقه اسم رسائل النور على إبداعاته يوحي بمنـزع تمثلي قائم على المطابقة بين الدال والمدلول، فالمعاني عنده حقائق لا مجازات. من هذا المنطلق نقول إن كلا من مضمون الرسائل وشكلها نورانيان بحكم منطق تماهي الشكل في جنس مضمونه؛ لذا كان النورسي لا يرى في متون الرسائل مجرد حروف وكلمات ونصوص خطابية تلفظها الألسنة، إنما أحزمة من نور ومشاعل متّقدة، وشُـهُبا متوهجة، وقناديل تضيء بدُهن زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية.
ليست المخاطبات في ديوان الرسائل أقوالا صمّاء تستغلق عن الفهم، فهي رسوم وصور وتشكيلات تأخذ بيد السامع والقارئ بكامل الأدب، وتسير به ملء الأنس وتنتهي به إلى مجلسه من الحلقة النورية، وتشفّ عن أحوال وأفعال ووقائع محسوسة تفاعل القلب والعقل والكيان.
فلقد أدرك النورسي مدى خيبة الأمة بمراصيد لا تحصى من النصوص البكماء العمياء ظلّت تتعاطاها عبر المراحل والعهود من غير ما جدوى ولا نفع في تغيير ما بحال الناس من أذى وحطة.. نصوص كانت على مستوى من العقم بحيث لم تفلح في تحريك القلوب ولا في هز الضمائر وإطلاق العزائم من عقالها.
لذا كان من الطبيعي أن يسلح النورسي أعماله ليس ببلاغة تورث النعاس وتثير في النفس شهوة الاصطلاء، ولكنها بلاغة نفاذة ذات تأثير سحري، وقدرة تفعيل جذري… بلاغة لا يتعذر عليها اقتحام الأبواب الموصدة وفتح مغاليق القلوب الغلف. لقد كانت الرسائل فرق إغاثة ووحدات ميدان تبث الوعي الخالص بين الأوساط وتنشر الفكر المحيي بين الناس، وتبذل التعزية والأمل للمغبونين بكل حرارة ومصداقية وإنسانية.
الحيِّـز والصوت
من الدقائق التي يلتفت إليها النورسي حقيقة الصوت؛ إذ الصوت مادة، لكنها بغير جسم بدليل أنها تنفذ إلى الفراغات على اختلاف حجومها. فعلاقة الصوت بالفضاء علاقة تناسب، إذ الصوت ينفذ في الكهف نفاذه في أُذَين بعوضة لا تكاد ترى بالعين. ونفس الشيء بالنسبة لألفاظ القرآن، فهي تلائم الأجواف والقوالب بمقاساتها المختلفة: “كما أن لفظة قرآنية مثل “الحمد لله” عندما تتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة أُذْنِ الجبل، فإنها تملأ في الوقت نفسه ما تشبه الأذين الصغيرة جدا لبعوض، فتستقر اللفظة نفسها فيهما معا”.(14)
__________
الهوامش
(1) إشارات الإعجاز لسعيد النورسي، ص 73.
(2) إشارات الإعجاز لسعيد النورسي، ص 69.
(3) إشارات الإعجاز لسعيد النورسي، ص 69.
(4) من أبرز الشكلانيين، له نظريات في الشعرية وتحليل الخطاب.
(5) المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي، ص 210.
(6) المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي، ص 285.
(7) المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي، ص 298.
(8) المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي، ص 298.
(9) المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي، ص 293.
(10) المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي، ص 299.
(11) الشعاعات لسعيد النورسي، ت: إحسان قاسم الصالحي، ص 80.
(12) الشعاعات، لسعيد النورسي، ص 81.
(13) المثنوي العربي النوري، لسعيد النورسي، ص 139.
(14) الكلمات، لسعيد النورسي، ص 450.