عاش مصطفى صادق الرافعي مرحلة تاريخية تعج بالأسماء الكبيرة في مجال الشعر والنقد والأدب. وكانت المرحلة واقعة تحت تأثير مظاهر التخلف الكبير الذي يعيشه العالم الإسلامي، في مقابل علامات مشرقة للتمدن الغربي أسرت ألباب الكثير من المفكرين والباحثين خصوصا أولئك الذين قدّر لهم أن ينتظموا في بعثات علمية إلى ديار الغرب.
في هذا الجو بدأت تتشكل أسئلة فكرية تلقائية هدت إليها مقارنة طبيعية بين مجالين متناكرين عمرانا وحضارة. فظهر للبعض أن الفضاء العربي والإسلامي تحوّل إلى مجال لاحتضان التخلف وأسبابه، بينما كانت عاطفة الآخرين المتأججة تجعلهم يتهمون الغرب نفسه باعتباره راعيا لهذا التخلف إن لم يكن صانعه. ولكن هؤلاء وأولئك متفقون على أن مشكلةً مّا استوطنت قلب العالم والإسلامي وفكره، ثم اختلفوا في اقتراح حلول تسمح بتجاوز هذا الدور من الانحطاط. فكانت اجتهادات الباحثين تقودهم إلى اقتراح نوعين من الحلول:
الأول: الارتماء في أحضان الثقافة الغربية لأنها قادرة على تخليص عالَمنا من أمراضه الحضارية، كما خلصت الغربيين أنفسهم من ظلمات التخلف والانحطاط والاستبداد.
الثاني: يعتبر الحل الأول عمالة لغرب ما زالت أياديه لم تنفض من دماء الشرقيين بعد أن استباحهم لاستعماره طويلا. والحل عندهم لا يكون إلا بالعودة إلى معين تراثيّ يرونه لم يُستعمل بعد كما ينبغي؛ وفيه الحل للشرق المتخلّف تخلفا صحيحا وللغرب المتقدم تقدما مغشوشا.
في هذه الظروف وفي معترك هذه الأسئلة المشحونة نشأت أفكار الرافعي، ونمت مقالاته الأدبية مساوقة الوقائع والأحداث، ولكنه ظل في كل ذلك أديبا يؤمن برسالة الأدب ومفكرا يصنع فكرا أدبيا وأدبا فكريا.
الأدب والأدبية عند الرافعي
لقد نظر الرافعي في الأدب فوجده وسيلة الإنسان الأولى يشهد بها على نفسه أنه إنسان، فما من سبيل أخرى لإخراج الكنه الإنساني وبسط الجوهر البشري على العالم سوى الأدب. وفي تعابيره الجارية والمولدة على نسق الحكمة ما يرفع قيمة الأدب والأديب معا. لهذا لم يكن الرافعي يرى في اللغة مجرد وسيلة للبهرج والزينة، حتى وهو يملك من الوسائل ما يؤهله للتزيّن والتبَهرج، بل يعتبر الكلمة تمثالا للمعاني ينحته المبدع للقارئين كما ينحت الفنّان قطعته للرائين.
ولقد كان الرافعي يُنشئ أدبه بين أيدي تاريخ حافل بأسماء ما يزال لكل واحد منها دويّ في أذن الزمان، حتى كأنّ القدر يمحض قدره من بين أقدارهم، وهؤلاء هم طه حسين والعقاد وشوقي والمنفلوطي وحافظ والمازني. لكنه امتاز عن هؤلاء جميعا بالإصرار على فكرة كبيرة تبدو واحدة، نشأت بها كل أفكاره الأخرى وهي أن الله بسط هذا الكون لشيئَين: الخير والجمال. لهذا فكل كتابات الرافعي ذاهبة في اتجاه إقامة صرح من صروح الخير أو الإطاحة بعرش من عروش الشر؛ لإقامة تمثال من تماثيل الجمال أو لهدم صنم من أصنام القبح. وهو في كل ذلك ملتزم أشدّ ما يكون الالتزام بحقائق الأدب وشروطه، أي بكل عناصر “الأدبيّة” كما يسميها النقد الحديث. وهي ذلك القَدْر من الإمعان الفني الذي مهما عبر عن فكرة أو مذهب لا يتلف من أجلها أنَويّة التعبير الفني التي تدل دائما على أنها في ظل الأدب ومعه. وهذا بتعبير “تودوروف” هو القانون الشعري: “العمل الأدبي تعبير عن شيء ما، وغاية الدراسة هي الوصول إلى هذا “الشيء” عبر القانون الشعري”.
هذا الشيء الذي يعبر عنه الأدب هو في تقدير الرافعي نفسه المستفاد من التأديب والتأدب، أي تلك الملكة الإنسانية الآلية المسنودة بما راكمه التاريخ من حكم وفوائد وأمثال، وأخرجها في حلل الفن ليسهل قطفها: “ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن الدين أخلاق يُتخلق بها فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعا ثانيا في مدلول “الأدب” لأنه اكتسب معنى علميا إذ صار أثرا من آثار التعليم. ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنفس والشعر واللغة ونحوها، وأطلقت على كل ذلك، ونزلت منـزلة الحقائق العرفية بالإصلاح؛ وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي. وهو أصل الدلالة التاريخية فيها”.
وهذا الرأي الذي كونه الرافعي حول الأدب وأدواره بالنظر والدراسة، سيتطور بالتطبيق والممارسة. وما زال الرافعي ينجب للأدب فنونا من القول والمعاني حتى وجد نفسه ليس فقط مؤرّخا يحكي ويستنتج ما يراه الأدباء أو ما هو في حكم رأيهم حول الأدب وانطباعهم به، بل هو نفسه قد صار أديبا يملأ عين الدنيا وسمعها، مؤهل ليستخرج من ذات نفسه حكما يقضي به حق الأدب على العالم، وكيف يكون الأديب بإزاء صور العالم وأحاسيسه وأذواقه وأخيلته:
“ثم إن الاتساق والخير والحق والجمال، وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها، أمور غير طبيعية تقوم في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنـزاع والشهوات؛ فمن ذلك يأتي الشاعر والأديب وذو الفن علاجا من حكمة الحياة للحياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه، وهو عالم أركانه الاتساق في المعاني التي يجري فيها، والجمال في التعبير الذي يتأدى به، والحق في الفكر الذي يقوم عليه، والخير في الغرض الذي يساق له (…) وبهذا يهَب لك الأدب تلك القوة الغامضة التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحداثها مارة من خلال نفسك، وتحس الأشياء كأنها انتقلت من ذواتها، وذلك سر الأديب العبقري”.
ولعل القارئ المتمعن في أدب الرافعي وأعماله، يستشعر ذلك الانتماء الأصيل إلى الأدب؛ فالكاتب مهما تناول من موضوعات الفكر والحياة والإنسان فإنه يفعل ذلك وهو في مملكة الأدب لا يغادرها. لهذا فإن أدبه هو بحق الأدب الذي يستحق أن يحمل شعار “الأدب الإصلاحي”، لأن وظيفة الإصلاح عنده لا تجور على أبنية الأدب وأنساقه، وليست محضنا أسلوبيا للتبشير بالأفكار أو عربة تنقل الدعاوى والوصايا؛ بل هي معرض ينبسط فيه الأدب شكلا وروحا، ويتشرب القارئ معاني الإصلاح الجميلة في حلل من أنساق الفن الجميلة.
إن هذا الأديب يصدر في اختياراته الأدبية تلك عن وعي كامل بحد الأدب، والتزامات الأديب جماليا ووظيفيا. وهو ما يظهر في أماكن مختلفة من كتاباته كلما تعرض للحديث عن الأدب أو تناول بالكلام الأدباء: “ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني، إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقته (…) وفصْل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إليهم جملة واحدة على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا حدّه. وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتّجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس. ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار”.
يقرر الرافعي أن الأدب قيمة مضافة على العلم -ويقصد بالعلم ما يتناوله الفكر مجردا، أو ما يقتصد عند التعبير عنه من جهة الأسلوب والبيان، فتقدم المعاني والأفكار في الأسلوب المباشر والتقرير البسيط- والقيمة المضافة هي الأسلوب.. أي ذلك الجهد الخاص الذي يفرغه الكاتب في الفكرة لتزداد تألقا وتوهجا، بل هو يعتبره علما، ولكنه العلم الذي يبدأ عند آخر نقطة يقف عندها العلم الطبيعي لأن الأدب يبدأ من الألغاز والأسرار، وينظر في الطبيعة من جهة ما تخفيه وليس ما تعرضه، أو هو بحث في نسغ الظواهر.. أي بحث في “النومين” بتعبير “كانط”.
ولا يستطيع أن يصاول الحقائق في تلك التخوم البعيدة غير الأديب المُلهَم، الذي أوقف نفسه على التفكير ولكن بعد أن يكون حظّه من الإلهام موافقا لما يستدعيه مثل ذلك البذل ومثل ذلك الجهد.
إن الأدب الحق إذن لا يكذب، ولكنه وهو يبالغ يكون بمثابة المجهر الذي يضاعف موضوعه للعين أضعافا كثيرة حتى ينجلي لها تكوينه وأسراره، وهي لم تكن قادرة على تحقيق ذلك من أوّل نظرة. فكأن الأديب حسب الرافعي مجهر الحقائق النفسية والكونية، يخرجها الأديب بعد أن تعمل فيه نوعا من العمل يخلف فيه أثره، فيعكسه هو متأملا متفكرا على أقْيِسة من أسلوبه الخاص. لهذا فالأديب عند الرافعي “يشرف على هذه الدنيا من بصيرته”.
ولذلك استحق الأديب عند الرافعي هذا التعريف: “ولو أردتَ أن تعرف الأديب مَن هو لما وجدت أجمع ولا أدق في معناه من أن تسميه الأنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط”.
الأدب والفضيلة
يعجب قارئ الرافعي من هذه الصلة القوية التي تربط مقالاته بعضها إلى بعض، وتجعل المعاني تتكامل بين مؤلفاته، حتى كأنها نص واحد أو ديوان يتعقب معنى الحياة وأسرارها. والرافعي نفسه يستشعر ذلك ويذكره غير ما مرة محيلا على هذا الكتاب أو ذاك أو على هذه المقالة أو تلك مبينا أنه أفاض القول ووسع المعنى. وأدب الرافعي غني بـ”طوطولوجيا” داخليا تنسج بين مقالاته علائق بديعة لما يسميه “لوسيان دلنباخ” التناص الذاتي.
وسبب ذلك في نظري أن الرافعي يكتب في الحقيقة موضوعا واحدا، ولكنه موضوع كبير هو موضوع هذه الإنسانية، أو كما يقول الرافعي عن نفسه: “لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها، هي قصة هذا العقل الذي في رأسي وهذا القلب الذي بين جنبيّ”.
فكل مقالات الرافعي وكل الموضوعات هي تنقيب في أسرار هذا الملكوت الاجتماعي ورغبة في فك بعض ألغازه، ولكن الكاتب لا ينسى وهو بسبيل ذلك الهدف عدته الأدبية ووسائله الفنية، وهي أيضا شأن من شؤون الإنسانية.
وبذلك تتكامل ثنائية الأدب، وتلتحم شكلا ومضمونا لتركيب عملة فنية لها وجهان: الفضيلة والجمال أو الشكل والموضوع. فالفضيلة من منظوره جمال موضوعي، والبيان فضيلة شكلية. لذلك كان هدفه الدائم أن يُفرغ كل شحنات الجمال التي يتسقّطها من هنا ومن هناك، ليملأ بها وجدان القراء فيزدادوا بأدبه فضيلة وجمالا. وإذا عرف شأن هذا المطلب عرف شأن الرافعي.
ورغم أن أغلب كتاباته تلبست بإهاب قصصي إلا أنه مع ذلك يعلن عزوفه عن الكتابة الروائية لكونه لاحظ على أغلب النصوص الروائية وقتئذ جنوحها إلى النـزول والإسفاف ومخاطبة الغرائز، عوض أن تنشد السمو والارتقاء بالنفس والحياة معا. ولما كان يحس أهمية الحكي في أداء بعض الوظائف الأدبية هو نفسه مسكون بهواجسها، اضطر إلى أن يكتب مقالا بمثابة إعلان وتبرئة ذمة “فلسفة القصة ولماذا لا أكتب فيها”:
“وأنا لا أنكر أن في القصة أدبا عاليا، ولكن هذا الأدب العالي في رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها في الرواية كما يرَبّى الأطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة. فالقصة من هذه الناحية مدرسة لها قانون مسنون وطريقة ممحصة وغاية معينة، ولا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ من فلاسفة الفكر الذين تنصّبهم مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تُثير الحياة أو تثيرها الحياة.. وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص فهم في الأدب رعاع وهمج، كان من أثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم من فوضى الغرائز.. هذه الفوضى الممقوتة التي لو حققتَها في النفوس، لما رأيتَها إلا عامية روحانية منحطة تتسكّع فيها النفس مشردة في طرق رذائلها”.
وكأني بالذين لم يدركوا هذه المقاصد تعاملوا مع أدب الرافعي على نحو تجزيئي، فأخذوا شذرات من أفكاره ومعانيه نقصت في أذهانهم بالنقص الحاصل بسبب ما بقي من تتماتها في المقالات الأخرى. والرجل في بحثه الدائب عن أسرار الجمال والخير يتوسل بكل الطرق، ويطرق أبواب الاجتماع الإنساني، ينقل أفكاره من هنا ومن هناك، فيجعلها تعيش في خياله مدة من الزمن يُكسبها صفة التعالي عن الظرفية المحدودة والأشخاص المعينين، فيخرجها أدبا ساميا يتسلح بالصورة المجازية والتعبير الشاعري، لتصبح صورة كل زمان وكل مكان وكل إنسان، عوض أن تبقى صورة محلٍّ واحد وزمان واحد وإنسان واحد.
________________
المصادر
(1) وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي.
(2) تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي.
(3) الشعرية، تزفيطان تودوروف، ت: شكري المبخوت.