إن الأمة اليوم بأشد الحاجة إلى قراءة تأمل لواقعها الأليم وإعادة النظر في طريقة طرح الخطاب الدعوي. لعل في ذلك ما يمكنها من النهوض والعودة إلى الموقع الصحيح الذي يجب أن تتبوأه.
تؤثر في الخطاب الإسلامي عوامل عدة، من أهمها:
1-مضمون الخطاب. 2-شخصية الداعية. 3-المخاطَب. 4-الظروف والأوضاع التي يصدر فيها الخطاب.
أما مضمون الخطاب فلن يختلف ولن يتبدل، لأنه دعوة إلى ما قد اكتمل وتمّ عقيدةً وتشريعاً وأخلاقاً. وهذا المضمون شكل من أشكال الثوابت الكونية، هو كنظام الشمس والقمر ونظام الخلية والتكاثر.
مقومات شخصية الداعية
أما الداعية أو الشخص الذي يوجه الخطاب، فهو في نظر الإسلام مبلّغ يحمل الإرث النبوي العظيم ويتحمل مسؤولية نقل هذا الخطاب إلى العالم، بدءاً من العالم الضيق الذي يحيط به وانتهاءً عند أبعد فرد من هذه المعمورة.
حامل الخطاب إلى الآخرين يجب أن يحمله فكرة يترجمها خلقه وسلوكه وتصرفاته. فالإسلام لا تتقبل مبادئه أن ينشرها من لا يمثلها عقيدةً يؤمن بها وشريعةً ينضبط بأحكامها وأخلاقاً يصطبغ بها. ألم يقل ربنا جل شأنه: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(البقرة:44). وفي الحديث الصحيح: “يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالَك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه” (رواه مسلم). والداعية المسلم يمكن أن يحمل خطابه إلى الآخرين بلسانه وقلمه، ولكن الأجدى والأقوى في نشر دعوته -مع لسانه وقلمه- أن ينشرها بسلوكه وأخلاقه، فلسان الحال أبلغ من لسان المقال.
وحامل الخطاب الدعوي يجب أن يكون مخلصاً لله في دعوته لا يبتغي بها غير رضوان الله تعالى، فالدعوة ليست مجرد عمل حركي ونشاط اجتماعي أو سياسي يجمع المرء من خلاله الأتباع والمعجبين بكلمته وأسلوبه؛ بل الدعوة عبادة يتقرب بها المرء إلى الله ويرجو بها منه القبول التزاماً بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت:33)، وقوله سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(النحل:125). إنه يرى نفسه مجرد خادم لدين الله، فإن لقيت دعوته استجابة فهو فضل الله تعالى أنار به قلوب المستجيبين، و”من تمام فضله عليك أن خلق فيك ونسب إليك” (ابن عطاء الله في الحكم). أما قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(القصص:56)؟ أمّا إن وجد إعراضاً وصداً فإن عليه أن يصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما مثلي ومثل أمتي، كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها” (رواه مسلم)؟ ألم يرقّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاردين حتى قال له الله تعالى: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(فاطر:8).؟
إن قلب الداعية يجب أن يكون نقياً عن مشاعر الغيظ والحقد أياً كان موقف المدعو. إن عليه أن يدعو ويرجو الله أن يهدي قومه ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾(الغاشية:21). فالله تعالى هو الذي سوف يتولى حسابه وعقابه، أما الداعية فإن واجبه أن يبلغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
ثم إن على الداعية أن يكون على دراية وعلم بما يدعو إليه، بحيث يستطيع أن يحسن عرض ما يدعو إليه وإبراز حقائقه مؤيدة بالحجة البينة والبرهان القوي. عليه أن يكون على علمٍ بالعقيدة وبالأخلاق الفاضلة وبأحكام شريعته. ويجب أن يكون الداعية على جانب من الوعي والثقافة بحيث يعيش في واقع عصره ومستجداته ويدرك ما يحيط بدعوته من مشكلات ومكائد وشبهات.
ضرورة فهم شخصية المدعو
وأياً ما كان المدعو فإن على الداعية أن يفهم شخصية المدعو جيداً بصورة تساعده على حسن عرض دعوته عليه. فالمخاطب الذي توجه إليه الدعوة فهو أحد ثلاثة:
أ-مسلم مقصر: وإنه في الحقيقة أولى بدعوتنا اليوم. أجل، نحن أحوج إلى من يدعونا وينصحنا، فكلنا مقصر، وإن تفاوت التقصير بين مسلم وآخر. الدعوة إلى أن يقرأ كلٌ منّا ذاته وسلوكه وأخلاقه وحاله مع ربه، ثم يضع ذلك كله أمام ميزان حكم الله وكتابه. أن يدرك كلٌ منّا أنه مقصر وغافل عن حقيقة حاله. إن كلاً منّا متجه إلى أجله، وكلُّ ساعة تمضي تبعدنا عن مولدنا وتدنينا إلى آجالنا، إن علينا أن نتذكر أننا كما يقول الحسن البصري: “إنما نحن أيام وكلما مضى يوم نقص بعضنا، ويوشك أن تنتهي أيامنا لنقف بين يدي الملك الديان”. والله تعالى يقول: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾(الحاقة:18).
بـ-مسلم مخالف: أما المسلم المخالف فإن مخاطبته يجب أن تستند إلى الالتزام بأدب الحوار الذي أمرنا ربنا أن نلتزم به مع غير المسلم فضلاً عن المسلم الذي قد يختلف معنا في قليل أو في كثير. ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل:125)؟ إذا كان ربنا سبحانه يقول لنا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾(آل عمران:64) فأجدر أن تكون الكلمة السواء القائمة بيننا وبين المسلم المخالف مرتكزاً للتلاقي، ومنطلقاً لقبول الحوار النابع عن احترام الرأي الآخر.
لقد جاء النص الشرعي في الكتاب والسنة سواء كان قطعي الثبوت أم ظنيه -وأكثر نصوص السنة ظنية الثبوت- على وجهين اثنين:
أ-منه ما كان قطعي الدلالة على معناه فكان نصاً لا يحتمل التأويل. ويمثل هذا النوع الجزءَ الأقلَّ من نصوص الشرع.
بـ-ومنه ما كان ظني الدلالة ظاهراً ولكنه يحتمل التأويل. وقد جاءت معظم نصوص الشريعة مجالاً للبحث والاجتهاد والتأويل، مما دفع بالمجتهدين من العلماء إلى شحذ الهمة وبذل الجهد في فهم دلالاتها. ولما كانت محتملة الدلالة فقد تباينت تأويلاتهم وفهومهم لها، وإذ كانت مرنة الدلالة فقد كان في تفسيرها بأكثر من معنى سعةٌ. وهذا الاختلاف والتباين يحمل في طياته تحريضاً لذوي الكفاءة والعلم لبذل الجهد في فهم النص، مما يجعل اختلافهم -وهم المتفقون- مظهر ثراء وغنى وحركة في الذهنية الفقهية تغني فقهنا الإسلامي.
وإننا اليوم لنشعر بمدى الحكمة الإلهية في ذلك، إذ صار فقهنا بهذا الثراء والتنوع مجالاً رحباً لاختيار ما ينسجم مع مستجدات العصر والنوازل. واجتماعاتُ المجامع الفقهية التي تمثل أطيافاً متعددة للمذاهب الإسلامية المختلفة والتي تتمخض في نهاية المطاف عن رؤية واحدة لحلول عملية تتآزر في وضعها مختلف المذاهب مظهرٌ لهذا الثراء والحيوية.
ولا بد من الإشارة إلى أن على فئات المسلمين أن تجعل من الحوار المخلص القائم على سعة الفهم وقبول الاختلاف الناجم عن ظنية الدلالة في مختلف النصوص اجتهادات توطد الروابط وتزيد في تعاون الأمة على حل قضاياها. إننا نعيش اليوم في مواجهة يجب أن تجمع ولا تفرق، وأن توحد لا أن تمزق.
جـ-غير مسلم: أما الفئات غير المسلمة، فإن علينا أن نتذكر أننا نتعامل في دعوتنا لهم مع “الإنسان” الآخر بكل ما تحمله كلمة “الإنسان” من خصائص ومعان. إنه يحمل “الفطرة” التي نحملها وإن غطيت بكثيرٍ من الشوائب. وينعم بـ”العقل” الذي ننعم به. والعقل هو ذلك الميزان الدقيق الذي يمكن الاحتكام إليه. إنه الحكم العدل عندما يكون حراً. إنه وحدة قياس لا تتباين أحكامها ما دام حراً وصحيحاً وما دامت المقدمات التي قدمت إليه صادقة. ولذلك نجده يبحث عن ذاته ويبحث في قصة الكون والحياة. وسوف يصل إلى الحقيقة في يوم من الأيام.
إن غير المسلم الذي نوجه دعوتنا إليه “إنسان” يحمل العواطف الإنسانية، وإن أُصيبت بشيء من التبلد والتشوه، إلا أنه يحمل تلك العواطف التي يمكن أن تستيقظ وتنتبه يوماً ما. يمكن أن تستيقظ فيه مشاعر الرحمة ومعاني الحياء والمحبة للخالق المنعم. يمكن أن تحرض فيه معاني الحب والحنان حتى وإن رانت عليها كثافات المادية. إن هذه المشاعر موجودة ولكنها في حالة رقاد، ويمكن أن تستيقظ لتغدو ساحة استقبال أسمى المؤثرات الإيجابية، بل إنها عندئذ تتعطش لغذائها الذي تحتاج إليه.
إن أساس العلاقة بيننا وبين غير المسلم هو كون كل منّا إنسانا كرمه الله بالإنسانية قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70)، وأنه المستخلف في الأرض والذي عهد الله إليه بأن يحقق عدالة الله في هذه الأرض، وأن يكون مظهراً لحكمته ورحمته وعدالته من خلال تطبيق شريعته. أجل، كلٌ منّا “إنسان” يتمتع بمقومات الاختيار من عقلٍ وفهم وإرادة تمنحه القدرة على اتخاذ “القرار”، ولذلك فإنه مسؤول بين يدي الله تعالى.
فقد أقام كتاب الله تعالى لتعاملنا مع غير المسلم أُسساً تتمثل فيما يلي:
• الاحتكام دائماً إلى موازين العقل والعلم في كل ما نقدمه إلى الآخرين أو ما يقدمه الآخرون إلينا.
وقد ألزمنا كتاب ربنا سبحانه بعدم اتباع ما لا يقوم على أساس علمي فقال: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾(الإسراء:36). وأداة العلم موجودة لدى الإنسان من خلال ما حباه ربه من حواس وعقل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(الإسراء: 36). وحذرنا من العصبية والتمسك بالمواقف من غير دليل أو بينة، سواء كان ذلك على وجه التبعية للآباء والأجداد، فقال ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْـئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾(البقرة:170)، أم كان على وجه الانقياد وراء نزوة النفس واتباع الهوى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾(ص:26). ويوضح كتاب الله تعالى أن الإيمان رؤية علمية فيقول: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾(سبأ:6)، ويطالب لكل دعوى بالبرهان ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(البقرة:111)، ويرفض تعطيل ملكات المعرفة والفهم ويعدّ ذلك هبوطاً عن مستوى الإنسانية ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(الأعراف:179).
• رسم المسلمون بناءً على ذلك منهجاً للوصول إلى الحقيقة، ألزموا أنفسهم به واحتكموا إليه في حوارهم مع الآخرين. فقالوا: “إذا كنت ناقلاً فالصحة، وإذا كنت مدعياً فالدليل”، ودليل الحكم المادي مادي يخضع للتجربة والمشاهدة. ودليل الحقيقة العقلية برهان عقلي. أما الغيبيات التي لا سبيل للعقل أن يستقل بمعرفتها ولا تخضع للدليل الحسي فإنه الخبر الصادق الذي دلت البراهين العقلية على صدقه.
• وقد أمرنا في الحوار أن نلتزم مبدأَ ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل:125)، ورسم معالم أدب الحوار الذي لا يلزم الآخر بأحكامنا واعتناق معتقداتنا، بل نطرح فكرتنا ملتزمين بحكم الدليل مفترضين ثبوت حكمنا أو بطلانه ليتيح للآخر أن يدلي برأيه ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(سبأ:24-25)؛ أثار الدعوى وأدلى بحكمه الذي يعتقده ثم أتاح مجال الحوار واضعاً أمام الآخر الفرصة لإثبات العكس وتقبله لما يثبته الدليل فقال: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾، ثم قطع الطريق بلطف على دعاوى واتهامات توجه إلينا، فأوضح أن كل نفس بما كسبت رهينة. ولكنه جاء بأسلوب فيه منتهى الرقة واللطف فقال: ﴿قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ أي مما تتهموننا به ﴿وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ولم يقل عما تجرمون.
إن هذه الدعوة الهادئة اللطيفة والدافئة إلى الحوار بحثاً عن الحقيقة لا تحمل أي معنى من معاني القهر والإرغام، إنما هي إثارة للأذهان والعقول للبحث عن الحق. ويأتي التحذير بعد ذلك ليحمل العقل مسؤولية البحث، والتحذير من الحكم المجازف بعيداً عن حرية القرار العقلاني الفطري ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾(الكهف:29). على أنه ليس من حقنا أن نكره الآخر على الإيمان إكراهاً ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(البقرة:256).
ومهمة الداعية في دعوته أن يذكر ويدعو، وهذا مما يجعلنا نميز بين أمرين:
1-دور الداعية في دعوته، وأنه ليس من حقه أن يكره الآخرين على اعتناقها.
2-مسؤولية الإنسان عن البحث عن الحقيقة والتزامها.
وهذا بالتالي يلزم الداعية في خطابه بالمنهج الحكيم الذي عرضناه، من حيث افتراض أيّ من الطرفين صاحب الحق وعدم توجيه الحكم سلفاً ببطلان دعوى الآخر. إن محاورة الآخر بمنطق الحجة والبرهان انسجام مع احترام إنسانية الإنسان وارتقاء بالذات وبالآخر إلى السدة اللائقة بكل منهما.
أعود فأكرر القول بأن المسؤول عن إبراز صورة الدعوة والخطاب الإسلامي عند الآخرين إنما هم “نحن”. فإن برزت الصورة حسنة فإن ذلك لحسن عرضنا لها، وإن برزت الصورة مشوهة فإننا نحن المسؤولون عن تشويهها.
إن الجالية الإسلامية الموجودة في العالم الغربي أو في خارج العالم الإسلامي اليوم هي الصورة التي تترجم في نظر الآخرين حقيقة الإسلام في مختلف جوانب سلوكها وتصرفاتها. وإن الأضواء مسلطة عليهم قطعاً لعرض الإسلام من خلال أوضاعهم وتصرفاتهم.
والحق يقال: إن كثيراً من مشكلات العالم الإسلامي وأمراضه التي يعاني منها في بلاده تبرز في خارج العالم الإسلامي بصورة مجهرية وبألوان فاقعة. وإن من أخطر هذه المشكلات مشكلة التفرق والتشرذم والتي يعدّها الآخرون حجة مفحمة في تشويه ديننا والإساءة إلى مفاهيمه. بل لعلهم يثيرون أسباب الخلاف ليراقبوا ردود الفعل، ثم يسلطون الأضواء على ردود الفعل تلك، ليقولوا: هذا هو الإسلام!..
ومن أخطر هذه المشكلات جهل المسلمين بدينـهم. وإذا كان عامة المسلمين جهلة بدينـهم بصورة من صور الجهل فإن المسلمين في خارج العالم الإسلامي مشكلتهم هذه أكبر. إذ هم أفقر إلى وجود الحد الأدنى من المرجعية التي يمكن أن تصحح بعض أخطائهم. لذلك فإن الكثير من تصرفاتهم تعكس مدى الحاجة إلى معرفة حقائق الإسلام، وتبرز صورة سيئة جداً غريبة عن حقائق الإسلام ورحمته وعظمته.
أساليب الدعوة ومستجدات العصر
إن مستجدات العصر قد حملت إلينا أمرين متناقضين:
أحدهما سلبي: وهو ردود الفعل غير الصحيحة من قبل بعض الذين لم يتعرفوا على دينهم، وانطلقوا من ردود الفعل تجاه بعض المواقف السلبية نحو الإسلام عقيدةً وتشريعا وعبادة. فبدلاً من أن يمثلوا التربية الإيمانية التي وجهنا إليها نبينا صلى الله عليه وسلم في أسلوب التعامل مع غير المسلمين والحوار معهم بالتي هي أحسن، وأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت رحمة بالعاملين.. بدلاً من ذلك كله واجهوا الناس بالعنف والشدة والقسوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “بَشِّروا ولا تنفروا” (متفق عليه)، فمضى هؤلاء ينفرون ولا يبشرون. فحققوا بذلك هدف الحاقد الذي يصد عن الحق ويمنع انتشاره.
والآخر إيجابي، وهو يتمثل في أكثر من عنصر:
• الوعي العلمي لدى المجتمع الغربي المعاصر والذي جعله أكثر استعداداً لفهم حقائق الإسلام.
• الظمأ الروحي الذي يعاني منه الإنسان الغربي والذي لم يجد ما يطفئ ظمأه.
• سهولة الاطلاع على الإسلام من خلال كثرة أبناء الجالية الإسلامية في العالم الخارجي، ومن خلال وسائل الاتصال والثقافة والتواصل الثقافي بين الشعوب التي سهّلت إمكانية الحوار عن بعد، أو من خلال الملتقيات العلمية والثقافية التي تتم هنا أو هناك، والتي أتاحت الفرصة للتعرف بصورة من الصور على بعض معالم فكر الآخر ومفاهيمه.
• التردي الخطير الذي يعاني منه المجتمع المعاصر، ولا سيما في الغرب، حيث انهارت الأسرة وتفكك المجتمع وشاعت الأمراض النفسية والاجتماعية وأعيت أوضاعُهم الباحثين الاجتماعيين والمفكرين عن وضع حل نافع يعالج أمراضهم.
شروط نجاح الخطاب الإسلامي في الغرب
إن الخطاب الإسلامي يجب أن يحمل في طياته معاني الفكر الواضح بحقائقه الاعتقادية والمرتكز على أدلته العلمية، وأن يحمل المعنى الإنساني الذي يقدم للعالم كله العلاج الذي يداوي جراحه، ويحل مشكلاته الاجتماعية والنفسية والاضطرابَ الفكري الذي يجعله يشعر بنوع من الفصام في شخصيته والكآبة في نفسيته.
لقد قدم لنا الغرب الكثير من الخير والكثير من الشر. ولقد آن الأوان أن نخاطبه بأننا نملك أن نقدم له مقابل المعروف معروفاً لا غنى له عنه، وأننا نملك أن نقدم له مقابل الفكر فكراً واعياً وقلباً يقظاًَ.
ولكننا لن نستطيع أن نقدم إلى الغرب الصورة الواضحة القوية إلا بمقدار ما نترجمها في واقعنا وفي فكرنا وسلوكنا وعلاقاتنا وفي صلتنا مع ربنا سبحانه وتعالى.
فنحن بحاجة إلى الغرب، والغرب بحاجة إلينا، فلماذا لا نلتقي معه على الإصلاح؟
ونحن والغرب بحاجة إلى مراجعة ذواتنا بجرأة قبل أن نراجع الآخرين.